"من يريد اسقاط أي أمة وانزالها الى الحضيض، ماعليه الاّ ان يكبح الحريات ويلجم الافواه".
توماس جيفرسن
"حين يقع الشعب في قبضة الارهاب، فانه لايفقد فقط اغلب حرياته، انما سيتخلى طوعا عما يتبقى منها ، ويكون مستعدا للركوع لكل من يدّعي حمايته".
ألدن لوفشيد
تضرب جذور موضوعة الحرية اعماقها في طوباوية المدينة الفاضلة وفردانية المجتمع المثالي التي ترى بانه لايمكن انبثاق مصلحة المجتمع الكلية الا من خلال صيانة المصلحة الشخصية للافراد وتنمية المبادرة الخلاقة التي لاترتبط بأي وشائج مباشرة بمصلحة الجماعة المنظمة او تستجيب لمشيئتها، كما انها لا تخضع لسيطرة المجتمع العامة او قواه السلطوية مهما كان نوعها. ورغم ان مفهوم الحرية قديم قدم الزمن الا ان المصطلح ( freedom ) الذي نعرفه اليوم كان قد ظهر لاول مرة في الترجمة الانكَليزية لسفر "سلوى الفلسفة" لبوثيوس التي انجزها ونشرها الملك اليفرد العظيم عام 888. وقد استعمل الملك المترجم هذه الكلمة المتكونة من مقطعين جرمانيين تعني الترجمة العربية الحرفية لهما "اعتبار العزيز" مما يشير الى فحوى المصطلح الاجتماعي وخلفيته الانسانية ويؤكد سموه الاخلاقي، لاسيما اذا علمنا ان هدف ذلك العمل الفلسفي كان في تفسير الهموم الانسانية في القدرة والارادة والضرورة والحرية. وفي مرحلة لاحقة تطور مفهوم الحرية باعتباره حق انساني شخصي طبيعي، خاصة بتأثيرطروحات الفيلسوف الانكليزي جان لوك ومن تأثر به من فلاسفة التنويرمثل ديفد هيوم وجان جاك روسو وعمانوئيل كانت وجان ستيوارت مل والثوريين الامريكيين مثل بنجامين فرانكلن و توماس جيفرسن. وحصيلة لمثل هذا الاجماع الفكري المتقدم تبلور مفهوم الحرية ليصبح شرطا جوهريا من شروط الوجود الانساني وحقا من حقوق البشر الاساسية الذي لايمكن نكرانه اوالاستغناء عنه، ولايمكن مصادرته او الغائه من قبل اي جهة، انما يمكن، تحت ظروف معينة، تقنينه وتحجيم مطلقيته وفقا للانتماء الاجتماعي الذي يميز البشر عن باقي الكائنات الحية. ومن المفارقة ان هذا الحق الطبيعي لم يكن يوما "طبيعيا" بتحصيل حاصل عبر التأريخ البشري، انما كان ولايزال في مقدمة الحقوق الانسانية التي لايحصل عليها البشر الا بانتزاعها عبر الالام والتضحيات، وبقوة الاصرار والصبر والعزيمة. تجدر الاشارة هنا الى ثلاث ثورات تأريخية كبرى خاضتها الشعوب التي تحتل اليوم مواقعا متقدمة في مدى تمتعها بالحريات التي نصت عليها دساتيرها الديمقراطية التي ساهمت في اشاعة مبادئ الحرية والديمقراطية وضمان اهميتهما التاريخية ليس لتلك الشعوب فحسب انما لبقية شعوب العالم الاخرى:
- ثورة القرن السابع عشر الانكليزية التي تمخضت عن "لائحة حقوق الانسان" لعام1689.
- الثورة الامريكية ومانتج عنها من "بيان الاستقلال" عام 1776، ولاحقا "الدستورالامريكي" عام 1787 ومواده العشرة الاولى التي شكلت لائحة حقوق الانسان.
- الثورة الفرنسية عام 1789 التي نتجت عن "لائحة حقوق الانسان والمواطن".
واذ يكون غنيا عن الاستفاضة الخوض في مسألة مصادرة الحريات وتمزقها وتراجع حقوق الانسان المدنية في ظل الانقلابات الفاشية الايطالية والنازية الالمانية والدكتاتورية الاسبانية، فانه من المثير تأمل حقيقة ان ثورة اوكتوبر البلشفية في روسيا عام 1917 كانت قد اوقدت شعلة الامل في تحقيق الحريات الجماهيرية استنادا الى الفكر الماركسي النظري المثالي الذي يرى بان جميع صيغ الحرية الليبرالية ماهي الا واجهات لايديولوجيات الطبقات المتسلطة او تلك الساعية الى التسلط، ذلك انها لاتخدم القطاع الاوسع من الجماهير، ويرى بأنه لايمكن تحقيق الحرية الحقيقية الا بانهاء الاستغلال الطبقي. الا ان حبكة وجمال النظرية لم يجدا مايعكسهما في واقع الحال. فالتجربة السوفيتية الرائدة سرعان ماتحولت الى توتاليتيرية متزمتة خاصة على يد ستالين، مما حمل الكثير، لاسيما من الاصدقاء والموالين من غير المؤدلجين، على الاستنتاج بأن موضوعة الاشتراكية النبيلة القائمة نظريا على انهاء الصراعات الطبقية بالملكية العامة لوسائل الانتاج ستقود لامحالة، اذا ماطبقت على ارض الواقع، الى شيوع صيغ الدكتاتورية الحزبية واستفحال اساليب الدولة البوليسية التي يصبح همها الشاغل خنق نفس الحريات التي كان الثوريون يناضلون من اجل انتزاعها. على ان المؤلم والمخيب للامال هنا هوماحصل في التجربة الروسية وجميع التجارب التي تأثرت بها وحذت حذوها، من امتهان وكبح لحريات السواد الاعظم من الطبقات الكادحة ومسخ صيرورتها وتحويلها الى اشباح مواطنين يدفعون كراماتهم ثمنا لقطعة الخبز التي يأكلون، ويعقدون السنتهم خوفا من، أو ولاءً، للحزب والثورة اللذين يتحولان ليس فقط الى الولي الاعلى لنعمة المواطنين، انما الى الاله المقدس الذي لايمسه حتى المطهرون.
على ان النبل المتأصل في موضوعة الاشتراكية، وبخاصة في صلبها الذي يتمحور على فكرة المساواة الانسانية لم يكن بعيدا عن الاطار العام الذي احاط بفلسفة الدساتير الليبرالية التي اقرت في البلدان غير الشيوعية. فلايمكن الحديث عن الحرية والديمقراطية بشكليهما الاصيل دون التحقيق الفعلي لمساواة المواطنين امام القانون وازاء الفرص المتاحة والتكافؤ الاقتصادي في مجالات الحياة الحيوية كالصحة والتعليم والثقافة والتدريب والعمل والامن والسلامة وتأمين مستقبل الاجيال، الامر الذي ينبغي ان يصبح الواجب الاسمى الذي تضطلع به الدولة والمؤسسات المدنية المستقلة من اجل تهيئة الارضية المناسبة لقبول وشيوع افكار الحرية والديمقراطية وشيوع تطبيقهما الفعلي الخلاق بدلا من الكلام الفضفاض الذي يزين التقارير الحزبية والخطب السياسية ويلهب البلاغات الثورية ويزركش بيانات المؤتمرات.
ينطوي حق الحرية الشخصي على القدرة على التفكير والكلام والفعل في ظل الحصانة الكاملة من المحددات التي قد يُحمل الفرد على التقيد بها من قبل سلطة معينة سواء اكانت هذه السلطة عائلية ام اجتماعية ام دينية ام سياسية. ويتضمن هذا الحق مايلي:
- تحقيق الانعتاق الحقيقي من الاضطهاد والعبودية الجسدية والفكرية.
- بلوغ التحرر الكامل من الاوهام والوساوس والخزعبلات
- تنمية القابلية على اتخاذ القرار الشخصي المحض المنبثق من القناعة الداخلية والمحكوم بما يمليه الضمير.
- امتلاك المبادرة الكلية والتصرف الآني والسترا تيجي اللذان تقتضيهما الحاجات الانسانية الشخصية من مأكل ومسكن وثقافة ونمط حياة.
حرية الفرد وحرية المجتمع:
قد يقود التركيز على فردانية الحرية الى تأمل احتمال حصول التعارض بين حق الفرد وحق المجتمع وامكانية تناقض ممارساتهما العملية. ولذا فقد يبدر الى الذهن الكثير من التساؤلات الهامة من قبيل:
- هل هناك حدود لحق الحرية الشخصي؟
- هل تتعارض الحقوق الشخصية المختلفةعبر الافراد والزمان والمكان؟
- هل ينجم سعي الافراد في حرياتهم الفردية الى فوضى عامة قد تجسد تعارض الحرية الشخصية مع حرية المجتمع في السعي الى النظام والامن وصيانة الحق العام وحقوق الاخرين؟
- هل تتخذ الحرية اشكال وصيغ ومديات تختلف باختلاف موقع الفرد السياسي او الاقتصادي او الاجتماعي؟
والاجابة المنطقية لجميع هذه الاسئلة هي "نعم" قد يحدث كل ذلك وقد يجر من وراءه العديد من العواقب السيئة والحيثيات المضرة، لكن العلاج الافضل الذي يوفره النظام الديمقراطي الحرهو توافر عنصرين اساسيين: الدستور المدني العلماني، أولا، الذي يعمل بمثابة قانون البلاد الاعلى والدليل العام لكل مايتعلق بحياة الشعب ، وسلطة القانون التشريعية والتنفيذية الكفوءة والعادلة والمستقلة،ثانيا، حيث يعمل هذان العنصران ليس فقط لحل النزاعات الانية وايجاد الحلول المناسبة للمشاكل الناشئة عن فهم واستيعاب وممارسة الحريات، انما للاستفادة من التجربة واجراء التعديلات المستمرة التي يتطلبها تقدم الحياة وتطور العصر. وبدون هذين العنصرين لايمكن لأي مجتمع الادعاء بأدنى مايتعلق بالحرية والديمقراطية الحقيقيتين.
وفي معرض قدسية حق الحرية الشخصي يرى الفيلسوف والاقتصادي الانكَليزي جان ستيوارت مل في كتابه "حول الحرية" المنشور عام 1859 انه رغم شرعية تفوق رأي الاغلبية على رأي الاقلية في الحالات التي تتطلب رأيا واحدا فانه لايستبعد حصول مايسميه بـ "طغيان الاغلبية" الذي لاينبغي، من الناحية الانسانية، ان يبرر الغاء او مصادرة الحق الشخصي. ويورد مثالا في ذلك فيقول: " لوافترضنا ان اتفق ابناء الخليقة جمعاء على رأي واحد ضد رأي آخر يتبناه رجل واحد فقط، فان ذلك الاجماع الاسطوري لايعطي ادنى حق لاسكات ذلك الرجل أو منعه من قول مايشاء قوله، ناهيك عن بطلان حق الخليقة في محاسبة اوعقاب الرجل على اختلافه معها".
وقد كان كتاب مل ومايزال من اهم النصوص الكلاسيكية التأريخية في معالجة طبيعة الحرية الشخصية وتحليل شرعية السلطة التي يقرها ويمارسها المجتمع حيال الفرد. وفي هذا الصدد استنبط مل مايسمى ب (معيار الضرر) الذي يقنن مدى حرية الافراد لقول او عمل مايشاؤون بشرط ان لاتؤدي اقوالهم او افعالهم الى الحاق الضرر بالاخرين. على ان مبدأ الضرر هذا يحمل ضوابطا معينة بين ثناياه، فيفترض بالفرد الذي يطالب بالحرية ان يكون واعيا بما يقول اويفعل، عارفا بحدوده، ومقدرا لمسؤولياته وواجباته تجاه نفسه والمجتمع، وبخلاف ذلك فليس له الحق ان يكون حرا بالمعنى الفوضوي او ان يتوقع بانه مصان فيما يقول ومايفعل دون حساب أوكتاب. كما يجادل مل بأن حرية تعبير الافراد عن دواخلهم تشكل شرطا ضروريا من شروط التطور الفكري والاجتماعي الذي ينشده المجتمع، ويدعم ذلك بسببين جوهريين:
- يزداد استعداد الافراد للتخلي عن التصورات الخاطئة والافكار الضارة والتخريبية عندما يمنحهم المجتمع الفرصة لعرض مافي جعبتهم من افكار ومشاريع ومناقشتها على المكشوف.
- تؤدي فرصة النقاش والحوار المفتوح الى دفع الاشخاص باتجاه التأمل الملي وتمحيص الافكار وموازنتها وتقييمها ازاء التوقعات مما يضيف بمرور الزمن آلية اوتوماتيكية للسيطرة على مايتداوله المجتمع من افكار وافعال من خلال غربلة الممارسات والتأكد من سلامتها وانقاذها من الوقوع في شرك الدوغمائية العمياء، وهذا ماتعجز الرقابة السلطوية المباشرة عن تنفيذه.
تشير تجارب الشعوب الحرة الى خروج بعض الاقوال والافعال والنشاطات عن حدود الاعراف الاجتماعية العامة المقبولة لدى اي مجتمع، ومرورها عبر جسر حريات التعبير كحملات التجريح والتعرض الى سمعة الاخرين التي قد تصل الى الانتهاكات المبنية على اسس الاحقاد الشخصية والسياسية والعنصرية والدينية والطائفية والمناطقية أو تلك المبنية بموجب تصنيف الناس على اسس العمر والجنس والحالة الزوجية والميول الجنسية. كما قد تحتمي تحت مظلة الحرية نشاطات الارهاب والتخريب والدعارة او التنظيمات والاعمال التي تهدف الى اشعال فتيل الفتنة واطلاق اعمال الشغب وتأجيج العنف والاضطرابات، والاعمال الساعية الى تحريض الناس على الاخلال بالقانون وتعريض حياة الامنين الى الخطر. وخير رد على كل تلك الخروقات هو الاحتكام الى سلطة القضاء المستقل وآلياته الحاسمة شريطة ان تكون هذه السلطة منبثقة عن ارادة الشعب ومخولة بسلطته ومدعومة بمؤسساته لغرض واحد هو توظيف الاساليب الشرعية لحماية المجتمع وصيانة حرياته. |