الأعزل . . . ح 5 |
|
|
|
|
تاريخ النشر
01/02/2007 06:00 AM
|
|
|
يرقص في المقهى: هي روح لا خشبة.. هي روح لا خشبة. في المقهى وقع كثيرون في مصيدة أكثر من حزب ظهر انه فخ. ترتفع أصوات أحيانا تطالب بحرب عصابات في المدن، توبامورس أخرى، أو في السلام أو نهاية عاجلة للحرب. في حين يكتفي آخرون في التخطيط ، بصمت وسرية وتوتر، للفرار عبر الحدود. حين دخلت الحرب أيامها الأخيرة شهدت طهران غارات طيران وصواريخ وحقائب دبلوماسية ووفود غامضة. كان طبيعيا أن ينعكس ذلك المناخ على السرداب الذي كانت سحبا رمادية منذرة بأيام ممطرة وكئيبة قد باتت تسرح فيه. قال واحد بجزع: ـ يظهر اننا في سرداب حقيقي. ارتفع دوي إنفجارات قرب السرداب. نبع صوت من الظلام:ـ ماذا يجري؟ يقترب الدوي وترتفع فوق سطح السرداب حركة أقدام راكضة. نبع صوت من الظلام: ـ لا أستبعد إحتلال طهران . رد آخر: ـ لنخرج . زمجر آخر: ـ لكن الباب.. أين الباب؟ قال آخر : ـ هل عندكم عود ثقاب؟ قال صوت بهلع: ـ أسمع أوامر عسكرية فوق. لنخرج. قال آخر: ـ كيف نخرج بلا ضوء؟ ـ من كان المسؤول عن ذلك؟ نبع صوت يائس: ـ لكن الضوء. أين الضوء؟ في الخارج نهار مشمس يغمر حدائق المسرح الوطني في شارع ولي عصر الصامت تحت نور ينعكس من كل مكان لكن الموسيقى ممنوعة. حول نافورة المياه أو بين أشجار السرو يتعالى صخب العصافير المشاكسة. بدا المكان غريبا عن الجو العام المضطرب وعن جو السرداب. كانت الحياة تواصل طريقها خارج هذا العبث الجنوني. تبدو أبسط المظاهر كما لوانها معجزة طارئة. طفل يلعب.شخص ما يدخن أو يقرأ. هذا ما كان يحدث معي بعد معارك ضارية حين انزل الى المدينة. تبدو حركة الناس في الشوارع، الحركة اليومية التي كثيرا ماوصفتها بالإبتذال والعادية، كما لوانها خارقة الجمال. اما الجلوس في مقهى قرب ساحة أم البروم ومراقبة المارة فتبدو كصورة مقتطعة تقع خارج هذا الخراب الشرس. بهدوء إتخذت طريقي إلى مقهى نادري. وجدت قاسم شريف يتحدث عن نهاية وشيكة للحرب مع شاهين الساهي عن كل شيء. قال قاسم :ـ الوطن في خطر. قلت : ـ تقصد النظام. قال شاهين بلوعة : ـ الشيء الذي لا أفهمه هو لماذا سرقوه مني في كوجه مروي ؟ لم يكن قاسم يعرف شيئاً عن هذه البلوى الطارئة فسأل في منتهى الجدية:ـ من تقصد؟ أجاب شاهين حالا: ـ البجغ. في نهاية مساء صيفي محرق، في شوارع طهران الصامتة والمجلجلة بالرايات السود،إتخذت طريقي إلى السرداب الذي لم أعد قادرا لو أردت على تركه لرائحته الإنسانية الأليفة التي هي رائحة أحلامنا وقد بدأت تتعفن مع الوقت لطول الأمل الذي يستهلك طاقة الحلم كما لو اننا نعيش في عالم آخر لاصلة له بعالمنا.الأمل الطويل يعفن الجسد والرؤيا والأحلام ويصير الإنسان جيفة متجولة دون أن يدري. قال شخص في الظلام: ـ حركة أقدام قوية في الخارج. رد آخر: ـ يقولون ان الحرب ستنتهي قريبا. قلت بنفاد صبر : ـ لكنها إنتهت في الواقع منذ أيام. قال شخص: ـ إنها الحكمة. وعلق آخر: ـ إنه القدر. قال شخص من أعماق السرداب: ـ إنها الحكمة والقدر. قلت بضجر: ـ لكنها الخطوط الحمر. ـ هامش: السرداب هو مقر ومنزل زعيم حركة الدعوة الاسلامية المرحوم عز الدين سليم وهو مأوى للهاربين ولم نتحدث عنه كثيرا في ذلك الوقت( 2000) لأسباب أمنية. 5 17كانون الثاني 1989. ليلة الهروب إلى باكستان عبر الحدود. عبرنا الحدود ليلا قاسم شريف وآخرون وأنا وسط ظلام صخري منذر بكل الإحتمالات. لا ضوء. لا أثر لدرب. ريح باردة تهب على الهياكل الخاوية. ريح حادة تحلق الصخور والوجوه والمشاعر. قاسم يمشي أمامي كظل مبعثر. سألته بخفوت: ـ هل تعرف الإتجاه؟ ـ لا. ـ لكن إلى أين نمضي؟ سألني بهمس: ـ اين تقع الجبال الإفغانية؟ قلت: ـ أظنها على اليسار. في مثلث الموت الحدودي، في الظلام والبرد الجبلي الواخز وبين صخور متربصة هامسة يصير كل شئ محتملا. قلت:ـ لكنك خططت طويلا. ـ لم يخطر ببالي الظلام. هذا ليس ظلاما ..انه ديجور. قلت محتارا :ـ لنجلس قليلا. لم أكن أعرف على وجه الدقة هل كنت أجلس على قبر أم صخرة أم قمة جبل. ريح مثلجة تمزق الجسد وكنت في قميص الصيف.همست :ـ من أي شيء تخشى؟ ـ أخشى من المهربين وهؤلاء أشد فتكا من الذئاب وهم زمر مسلحة وشرسة. صديق قتل في هذه الأمكنة. تحت تأثير الأحاديث الهامسة والتوتر برزت من الظلام صور لضباع وذئاب تتربص خلف الصخور. برزت صورت ربيضة حية مشعة. همس : ـ لكن الذئاب أرحم من الشرطة. لا يوجد أي أثر لنجمة كما لو اننا نمضي تحت سماء بلا نجوم. همس بإضطراب: ـ حركة أقدام. ـ من تتوقع؟ ـ اتوقع مهربين. بعد لحظات تنهد بإرتياح: ـ لقد مروا. وسألني بهمس ضاحك:ـ معي زجاجة خمر من كوجه مروي هل تشرب؟ بعد الشرب ركبني شيطان الضحك. قلت:ـ أليس مضحكا ان نجلس وسط ثلاثة حدود ولانعرف إلى أين نذهب؟ لم يجب. كان قد أطبق فمه على الزجاجة كما لو انه يمارس قبلة الوداع. ظهر كأنما من سماء غريبة نجم بعيد . تناهى نباح كلب كأجمل رموز الحياة، خفقت في الهواء أجنحة عصافير أو قنابر، فاحت رائحة عشب ندي. *** في الدار البيضاء بعد سنوات من ذلك كنت شغوفا بحلم برئ وأطارد وهماً قالت لي عنه بوعزيز طامو واحدة من نزيلات سيدي البرنوصي: (ان حلمك سراب في مدينة كل شيء فيها يباع: الضمير والجسد والدين)، في كازبلانكا البحر الابيض المتوسط سمعت في درب ميلة نباح كلب في الليل. كلب ذكرني بالليل العراقي. هل هناك ليل عراقي بلا كلب؟ قالت امراة في زنقة درب ميلة حين عرفت انني عراقي: (كيفاش؟ لابس عليك؟ ياسي حمزة حذار من بنات الزنقة. مع السلامة). ليس غير كلاب تنبح في الليل في ضواحي الدار البيضاء. من الليل الاسيوي الى الليل الافريقي رحلة بحث عن غابة ربيضة التي خلفتها ورائي، وعن سجادة حائط تركض فوقها خيول على قمر مضيء في براري متوهجة بالنور والرمل والريح. *** كانت الحياة قد بدأت ترسل رموزها الأليفة إلينا في هذا المكان الموحش. في هذا القفر. هذا العري. كان الغبش الأزرق ينهض من قلب العتمة والصخور والأشجار والجبال. سبح في الفضاء ضوء نجوم. على الشرق كانت الجبال الإفغانية غارقة في الضباب والنور الغبشي الريان. كانت نجمة الصباح تومض ونحن نمضي بين همس الصخور وبرد الفجر وحفيف الأجنحة. نجمة الصباح. بدا ان كل مايربطنا بهذه الحياة الواسعة هو نباح كلب ونجمة الصباح، آخر ما تبقى من رموز تلك البلاد العريضة، تلوح لنا في هذه الأماكن الموحشة. في هذا يكمن رعب لا يمكن تصوره إلا لمن عبروا ذلك الصباح المر حدود الخوف والعزلة. أقصى حالات العزلة أن تجد نفسك ، أنت إبن تلك البلاد الجميلة، على حافة حدود غريبة ولا تملك شبر أرض تضع عليه أقدامك المنهكة. أقصى حالات القسوة. أقصى حدود الذل. أقصى حدود الفضيحة. قال قاسم لأول مرة بصوت مسموع:ـ على أية حال لا نستطيع الذهاب الآن إلا بعد حلول المساء لأن الشرطة في قرية تافتان الباكستانية سيلاحظون ذلك. ـ لماذا لا نذهب إلى إفغانستان؟ ـ الوقت غير مناسب. الحرب الأهلية تدور وقد نذهب ضحية سوء فهم او صدفة عمياء. نظرت صوب الجبال الإفغانية المغروزة في سماء زرقاء صافية. ظهرت أشجار الجبل عميقة الخضرة. عبقت في الجو رائحة ندية مسكرة. نقر طائر جبلي مستفز نقرا طويلا وذاب في ضوء الصباح الرائق.قال: ـ سأنام لأني منهك. كذلك فعلت.حين أفقت من النوم فجأة كان أول شيء رأيته بندقية مصوبة من شرطي باكستاني إلى رأسي وقاسم شريف مشدودا الى الخلف. خفقت في الهواء أجنحة عصافير وقنابر وتناهى إلينا نباح كلب من قرى بعيدة كرغيف حار هذا الصباح. كان قلبي كئيبا كآبة أسد في الأقفاص. كنت مثله أحلم بالغابات والمياه والوعول والسهول والأمطار الإستوائية والربيع. قلت بضجر: ـ ليس من المعقول أن نمضي إلى السجن ونترك كل هذه الأشياء خلفنا. *** سجن كويتة، بلوجستان. هكذا كتب فوق بوابة قديمة، متآكلة، يشير تاريخ تأسيسها إلى مطلع ثلاثينات القرن العشرين. قلعة كبيرة وسط جبال صخرية جرداء مسننة. زمجرت وجوه آلهة أو وحوش مقدسة أو حيوانات خرافية في وجوهناـ رسوم ـ من فوق البوابة العتيقة. لم نكن بحاجة لذلك لكي نضطرب. الغروب شاحب وثقيل. بعد الإستجواب قادنا شرطي هزيل إلى داخل بناية قديمة محاطة بأشجار ذابلة. قيل انها محكمة. لم نتكلم. لم نسمع سوى الحكم : 3 شهور حبس لتجاوز الحدود بصورة غير قانونية، قابلة للتمديد. ضحكت بيني وبين نفسي على كلمة قانونية لأننا صرنا مثل بضاعة مهربة، كالحشيش، كالأفيون. هكذا دائما أدخل السجن وأخرج منه لحسابي الخاص. قادونا إلى أعماق السجن الذي بدا لا قاع له ولا نهاية. أمام فتحة في الجدار توقف الشرطي وفتح الباب فدخلنا صامتين. بعد أن انصرف الشرطي إندلعت أصوات لا أعرف من اين كانت مختبئة:ـ من اين جئتم؟ صاح آخر: ـ من إفغانستان؟ سأل ثالث:ـ من العراق؟ أم إيران؟ بعد منتصف الليل وعلى غير توقع شرع شخص في الغناء من الزنازين المجاورة. كان أنينا جنوبيا يقطع نياط القلب. كان قاسم يدفن رأسه في ركبتيه طوال الليل. تلك الليلة لم ننم حتى الفجر. في الصباح وبعد فتح الأبواب رأيت طوابير الهياكل الآدمية تعبر باحة السجن من مختلف الجنسيات. هذه آسيا. هذا السجن ملخص صغير للرعب. صورة مختصرة للقهر المدفون خلف الأسوار . ما أكثر الأسوار ، ما أطولها. خلال التجوال اليومي في السجن تعرفنا على سجناء كثيرين عبروا قبلنا الحدود. أشباح بشرية تجرجر هياكل خاوية داخل هذه القلعة التي يتجاور فيها القاتل والسياسي والمهرب وقاطع الطريق واللص في مساواة لا تتوفر إلا في السجون الآسيوية. لكن هذه المساواة تخرقها قواعد لعبة الغنى والفقر. هنا أيضا توجد مستويات للحياة. السجين الفقير الذي لاينتظر أحدا، ولا معونة، عليه أن يجد شيئاً من داخله ليبيعه. يكنس، ينظف، يخدم سيدا آخر. هناك من بين السجناء من يبيع جسده خوفا أو مللا أو حاجة. هناك من يتعاون مع إدارة السجن في كتابة تقارير على أصحابه. كثيرا ما يرافق هذه الأعمال شعور بالدونية أو اليأس خاصة بعد إنهيار نظام القيم أو المثل أو الآمال الكبيرة. هذا يحدث في الحروب أو الهزائم النفسية أو الخيبات. لايمكن معرفة مدى المسؤولية الشخصية في هذا الإبتذال. هناك شيء آخر محير:لا يشعر السجين بأن جسده ينتمي إليه بأي شكل. يحسه ثقلا أو عقابا. يحاول التخلص منه لأنه قيده وسجنه وهلاكه. يلجأ كثيرون إلى إحداث جروح عن طريق شفرات الحلاقة على أجسادهم حتى النزف. نوع من التشفي أو طقس تعذيب ربما. لكن لا فرار من الجسد. يتساوى في ذلك السجناء على إختلاف قضاياهم. بالطبع ليست هناك قاعدة. يوجد من يحاول تنمية جسده ، يغذيه، يروضه، يحبه، ويستعرضه. هذا يحدث حين يصير عالم السجن هو العالم الوحيد المتاح لتحقيق الرغبة وممارسة الحياة بعد أن تعذر ذلك في الخارج. هناك من ينسحب الى داخله ويتخندق. يحمي كيانه من أشكال التهديد. هناك من هو على إستعداد للقتال في كل لحظة. هناك من يجن ويحل المأزق بلا إرادة بالطبع. في كل الأحوال يكون الخيال في حالة تصعيد لأنه التعويض الوحيد القادر على إنجاب حياة حلوة بلا أسوار. في السجون العراقية لا يوجد مثل هذا الترف. التهديد قائم في كل لحظة. تهديد الموت خاصة. الإدارة والحراس ونظام السجن كلها نتاج عقل أو مزاج همجي. في السجن العراقي يتم، على مراحل، تنمية شخصية الحشرة داخل أعماق السجين. من يقاوم إما يجن أو يموت. النجاة مصادفة. تنظيم مخيف للإذلال. هذا هو الفرق الرئيسي، كما يقول أندريه مالرو، بين البربرية القديمة والحديثة.ليس القتل فحسب بل التمتع بالتعذيب. في السجون الإيرانية ( بالنسبة لنا) التي يطلقون على بعضها تسمية مخيمات وهذه خاصة بالهاربين من الحرب، يقومون بمحاولة نزع الهوية قبل كل شيء: تنظيم زيارات للمقابر بعد منتصف الليل للترفيه والترويح عن النفس بعد حبسة طويلة لا ترى الخارج، طقوس عزاء غالبا ما تتم في سراديب يطلق فيها السجين (الضيف) الفار كل الدموع الحبيسة من جراء هذا القهر الأبدي، وتكون فرصة للتخلص من الضغوط النفسية الناجمة من مشاعر مختلطة: البعض يشعر بالخيبة، الآخر بالندم، قسم بالصدمة إلخ. بالطبع هناك حكايات عن أوضاع أكثر فظاعة لا يتوفر فيها هذا البطر خاصة في سجن إيفين الشهير، لكني لم أصادف ذلك. كان السجن الإيراني أهون عندي من الحرب ومن حرية كلب مربوط بحبل. في السجن الباكستاني ،كهارب كعراقي، تستطيع إذا أردت الإحتفاظ ببقايا هويتك ولا يمكن التعميم لان هناك من يتداعى وينهار ويتحول الى حشرة. لكن الإستلاب يقع على الآخرين الفقراء ابناء البلد. يسهل نزع لا الهوية بل آدمية الفرد لأنه هو نفسه ليس مواطنا بل الى الشيء أقرب. كل مساء يأتي البريد قبل ان تغلق الأبواب. كنت الوحيد الذي لا ينتظر رسالة من أحد. حين تغلق الأبواب تنبع الأغاني من الظلام والحيطان المجاورة. في أعماق الليل يبتلع الظلام والحجر والسكون الأصوات. لا شيء إلا السكون الشامل والظلام وفي قلبهما وبسرية مقدسة تتفجر أحلام إنسانية مقصية. أسوأ ما في الليل هو عدم توفر المراحيض في الزنزانة. هنا البول وغيره يتم في أكياس أو علب لا يتم التخلص من رائحتها إلا في الصباح. تحلم وتبول في رقعة واحدة. تصبح مساحة الحلم أقل من مساحة المكان المخصص للبول. يصير حلمك الكبير أحيانا هوأن تبول فقط . تهلكك هذه المشاعر: الخجل من العملية بحضور سجناء ، الخوف من ريح فاسدة مسموعة، الخيبة المصاحبة لكل ذلك لأنك وصلت إلى هذاالحضيض. يصير السجن الواحد سجونا عديدة متداخلة. حين جاء الإنهيار العام للأفكار والسرديات الكبرى نسي كثيرون أوهامهم وأحلامهم وانغمسوا ، بصورة مثيرة، في البحث عن كل أنواع الملذات بنهم وشراهة وهوس خاصة المتع الجنسية لأن بعضهم وخلال فترة الإلتزام الشكلي لم يفلح في إشباع مشاعره بصورة طبيعية. الخائب يصبح كالغريق، كلاعب القمار الخاسر كل شيء . إنه مستعد على أن يرهن ذهب زوجته،ثم يرهنها من بعد، أو ينتحر. كنت هادئا جدا لأني أعرف ماذا يعني السجن أنا الزبون الدائم على هذه الأمكنة الكريهة. خبر يومي سعيد يطل علينا كل صباح عبر القضبان: نور الصباح. أهز قاسم شريف: ـ نهار جديد. أفق. نايم يا شليف الصوف، نايم والبعورة تحوف. كان يطوف السجن في النهار باحثا عن حكاية أو خبر. كان يبدأ حديثه بهذه الطريقة:ـ عجيب هذا السجن.. هل تدري ماذا اكتشفت اليوم؟ ويواصل منبهرا:ـ تعرفت على سجين باكستاني كان يعمل محاميا. هل تدري لماذا ؟ سأقول لك. قتل موكله لأنه لم يسدد أتعابه. ـ هذه آسيا. ومرة جاءني ضاحكا: ـ هل تدري؟ الأفغان طردوا شيوعيا افغانيا من القاعة لأنه لا يصلي. في صباح احد الأيام إنفجر صراخ ينذر بوقوع كارثة في السجن وكانت الأبواب الداخلية مفتوحة. إنطلق قاسم، وجاء ماما عزيز ـ رئيس عرفاء السجن ـ مهرولا يتطاير الفزع من عينيه. بعد أن هدأ كل شيء جاء قاسم ضاحكا: ـ معركة دامية في قاعة الإيرانيين بين الملكيين والجمهوريين حول صورة الإمام. لا جواب عندي سوى القول: ـ انها آسيا. في أعماق الليل تنتشر في باحة السجن رائحة، مسكرة، مهيجة.أسأله:ـ تشم شيئاً؟ ـ انه حشيش . يرتفع غناء، ويدوي طبل، يهرع كالعادة ماما عزيز منذرا، متوعدا، لكن أحدا لا يبالي لأن ماما عزيز نفسه، هذا الغول البشري المخيف، هذا العريف الأقدم هو نفسه ليس أكثر من سجين أبدي دون أن يدري لدرجة انه يقضي أيام إجازته في السجن ويصطحب أطفاله معه للتسلية. هذا الماما الرائع منجم عواطف لا تتناسب مع ضخامة الجثة والأقدام الثقيلة والنظرات الملتهبة، اين يخبيء عواطفه؟ قال قاسم مرة بتأثر:ـ السجناء لا يخافون من ماما عزيز لأنهم وجدوه مرات يبكي خلسة. كل فجر تخرج الكائنات الآدمية إلى الفناء صامتة ، شاحبة، منسحقة تحت تأثير أحلام الليل. تلوح الجبال غارقة في النور الفجري المحمر، الشفاف. في باحة السجن يعلو صخب العصافير المشاكسة في القلعة. هكذا يبدأ نهار آخر. نهار بطيء كأنه خارج الزمن ومدفون في هذه الأسوار الحجرية. أحيانا تقام حفلات رقص مرتجلة في النهار. يلتحم المهرب والقاتل والسياسي واللص في لحظة عناق آدمية، راقصة، محتجة، متحدية. لم يكن رقصا: كان هروبا، توجعا، تطهرا، براءة، غضبا. إكتشفت ذات صباح ازهارا برية مبللة بالندى قرب السور الحجري. حدث ذلك خلال جولة تفتيش مبكرة بحثا عن أعقاب السجائر.جولة التفتيش هذه مربكة ومقرفة. مرة أخذت ألف وأدور حول عقب سيجارة ظهر انه كان مرصودا من قبل سجين آخر. كان العقب مترفا وكنت أنتظر الفرصة المناسبة لإلتقاطه لكنه إنقض عليه كصقر وهو يمد لسانه نحوي. نمت تحت جدران القلعة أعشاب برية فوارة عميقة الخضرة. إنتشرت في الهواء رائحة ربيعية مسكرة. زاد من المشقة ان العصافير صارت أكثر صخبا بعد هبوط المساء. الربيع في السجن يبدو كأنه عقاب مضاعف. ربيع عاصف خلف أسوار الحجر ومن بعيد تلوح الجبال غارقة في النور الربيعي الأزرق وفوقها تسرح قطعان الغيوم. الليالي طوال لكن الحكايات أطول. قاسم ملأ جدران الزنزانة برموز وتواريخ وعلامات غير مفهومة. محاولة أخرى لمواصلة الوهم. قال مرة بضجر:ـ لم أعد قادرا حتى على الحلم. ـ الأمل الطويل إستهلك طاقة الحلم. كنت أريد أن أقول أيضا ان أحدا لايستطيع أن يعزي الزمن والزهور البرية الناتئة تحت الأسوار وبين الصخور وأسراب الطيور وصخب العصافير وأصابع النهار فوق القضبان والنور الراعش من نجمة المساء ، كل هذه علامات على ان الزمن مستمر. لكن هذا العزاء لا يكفي داخل هذه المتاهة البشرية، وفي هذه الأقفاص. قلت: ـ انت لا تكون انسانا الا اذا عرفت كيف تكون مطيعا. الا اذا احترمت قوانين الإقامة في الاقفاص، في الأسر، في الذل، في الليل. الا اذا سلكت سلوك الحشرة. الا اذا تخليت عن احلامك، ورغباتك، وجسدك، كما يتخلى المرء عن احذيته العتيقة. قلت أيضا أحدث نفسي: ـ أن تكون عاجزا عن الحلم هذا يعني أنك سجين أبدي وبلا أسوار مادية. أطل علينا من السماء مقبوضا عليه شاهين الأعور. قدم نفسه في باحة السجن لمن لا يعرفه بهذه الطريقة كما كان يفعل في مقهى نادري: ـ أنا شاهين الأعور كما ترون. لا سياسة ولا بطيخ. تكسيرة وزلق. واقع في غرام بجغ معارض سرقه مني أبناء القحبة في كوجه مروي . وقبل أن ينتهي من خطبته يختمها هكذا:ـ ثلاث سنوات في سجن إيفين بسبب تقرير من إبن قحبة. إلتفت ليسأل:ـ هل توجد هنا تقارير؟ رد قاسم:ـ بركة. هذا يحدث في قاعة السياسيين فقط. قال شاهين: ـ سأحاول الإنتقال إلى قاعة القتلة. قال مدير السجن مرة وهو نقيب هندوسي :ـ كل المشاكل تأتي من قاعة السياسيين ، وهذا أمر محير لأن القتلة أكثر هدوءا. مع الوافد الجديد ظهرت الصور العارية وروائح الحشيش وحكايات عن الحب الآخر: ـ أنا شاهين الأعور ليس عندي ما أخجل منه لأني لست سياسيا . بهذه الطريقة يبدأ شاهين بعد إغلاق الأبواب سرد حكاياته الغريبة: ـ تعرفت عليه في كركوك. طير ذهب . لكنهم سرقوه مني أولاد القحبة في كوجه مروي. لن يفلتوا مني. لو يحدث إنقلاب عسكري. تنقلني الذاكرة إلى بقية المرتدين في مقاهي الباب الشرقي وشارع الرشيد. قال شاهين بلوعة سمعتها مرات:ـ هرب وتبعته كالمنوم. لم أفق إلا في طهران. مع شاهين بدأ عصر آخر للزنزانة. بعد غلق الأبواب في المساء يحط ضوء ناعم على الأرض عبر القضبان. تلك الليلة كان شاهين قلقا، مستفزا، لأن الشرطي الذي كان يشتري منه حصته اليومية من الحشيش لم يأت بعد رغم تقدم المساء . كان يمسك القضبان بأصابع راعشة وفي السماء ينزلق قمر ربيعي مشرق إلى جانب نجمة المساء. أخيرا سأل شاهين الحارس الجديد بعد إنتظار ممل ومضجر فقال الحارس كأنه نسي أن يقول شيئاً: ـ مات الشرطي هذا الصباح. ندت من أعماق شاهين صرخة متفجعة: ـ لا ياكلب.. وقتها . جلس متحفزا على مؤخرته ورأسه بين ذراعيه. من أماكن أخرى عبر الأبواب المغلقة إرتفعت صيحات معزية وشامتة، فلا توجد حياة سرية في السجن:ـ البقاء في حياتك شاهين. ـ لايدوم غير وجه الكريم شاهين. ـ محنة وتزول شاهين. أخيرا نهض ،غاضبا، وأمسك بالقضبان وهو يصيح: ـ كلكم كان ينتظره وليس شاهين وحده. في الصباح تناسى الجميع الحكاية لأن السجن يضج كل لحظة بأخبار غريبة ولا أحد يعرف كيف تصل. كنت مستلقيا تحت الشمس قرب الجدار حين جاء شاهين وهمس لي:ـ هل سمعت؟ أمس تحرش الأبرص بجاره في الزنزانة. وتابع بلهجة زهو: ـ أنا شاهين الأعور أصدق منهم جميعا. رائحة ربيع وعشب. الشمس توقظ الحواس. تلهب المشاعر الخامدة. الربيع يجعل السجن لا يطاق. في الهواء رائحة تراب وأشجار وعصافير.عاد شاهين مرة أخرى وهمس: ـ هل سمعت؟ علي عبد الله سرق نقود عادل. ـ تقصد علي المحامي؟ قال شاهين ساخرا: ـ وتصدق ؟ أنا أيضا جنرال في الصابونجية. آسيا معبد ونار وسوط وآلهة وماء وأجساد عارية وقهر ومواكب وملوك موتى وأحياء وخرافة تنبع من كل مكان. قانون غريب يحكم الضحايا، يقول فرانز فانون، هو ان الضحية تبحث دائما عن ضحية مهلكة كي تمارس قهرها. من الغريب ان الضحية تخاف من الضحية الأقوى ولا تقترب الا من ضحية مشرفة على الهلاك. هنا يدخل قانون الإنتقاء في أقذر سلوك بشري. الضحية تمارس أساليب جلادها الأول بمهارة نادرة. في كل السجون التي دخلتها وجدت هذا الصنف من الضحايا، والجلادين. سمعت ان السجناء في السجون العراقية في العهد الملكي كانوا يعاقبون رفاقهم بوضعهم في زاوية يطلق عليها زاوية العار لأنهم لم يتحملوا التعذيب الرهيب في ثقافة تمجد الموت تحت الاحذية دون ان تكون/ يكون الضحية يحمل سر ثورة أو انقلاب. جاء بريد المساء. احتشدت الهياكل البشرية بصمت يكاد يكون صلاة. نطق صوت وسط الحشد بإسم شاهين فتعالت الضحكات غامزة:ـ رسالة من طير الذهب. ـ بجغ أصيل . كنت أجرجر جسدي خارج الحشد المنتظر فليس لدي ما أنتظره. "ليس للكولونيل من يراسله".عتمة المساء تتكيء على القضبان. كان قاسم شاردا ونائيا هذا المساء. كان يبدو قابلا وجاهزا لأشياء كثيرة مباغتة كالصراخ مثلا لأن الإنتظار تجاوز حدوده بكثير. كان يدفن أحزانه في الداخل. يدفع صيحته نحو الأعماق. كان يتمزق بهدوء ولا يمنعه غير خجله من الصراخ أو البكاء. كان يكابر. يقاتل داخله. إلتفت بوجه هرم وقال:ـ هناك مقهى قرب جدار سينما سميراميس في شارع السعدون في درب فرعي. قلت: ـ نعم . مررت بها قبل ان اهرب بشهور. ـ كنت أجلس هناك خلال حملة 78 و79. تابع: ـ لا أدري لماذا أتذكر ذلك؟ ـ تعويض أو حنين أو خيبة أمل من المكان الجديد. من هارب الى ثائر الى سجين الى مشرد.. والخ. كان شاهين صامتا طوال الوقت يقرأ في الرسالة. قال كما لو كان يحدث نفسه :ـ صار البجغ في السويد. صاح الحارس: ـ النوم. اطفئوا النور. رد شاهين :ـ لم يحن الوقت يا إسرافيل. *** نهار جديد يمسح خده على أسوار السجن. قاسم أكثر شرودا، أكثر ميلا للعزلة، أقل حيوية. ها هو يستلقي الآن تحت الشمس كخرقة هو الذي عاش حياته كلها في الخراب والخطر والعوز والمداهمة. عاش في إنتظار المقبل والمؤجل والمنتظر.كديك أعور أطل شاهين من نهاية الممر راكضا قال لاهثا:ـ وجبة سجناء ستخرج غدا. أقدام راكضة. هياكل مهشمة تقوم من رقدة الرماد تحت الشمس. تجفل عصافير السجن وتحط على السياج خرساء، مدهوشة. تستيقظ أحاسيس هاجعة تحت قشرة اليأس. أكثرها إلحاحا أن أستحم في حمام حار ، ساخن من النار والبخار والجمر. هذه الرغبة الملحة في الإستحمام تنتابني كهاجس في أوقات القرف والحرب والضجر.لم أنتظر هذه المرة بريد المساء. العتمة الناعمة تتكيء على القضبان ونجمة المساء تضحك في القبة السماوية، والرفيف الأخير لأجنحة العصافير يضرب الهواء بنعومة وخفة. في الصباح كنا قاسم وشاهين وآخرون نستقل القطار من(كويته) في ظهيرة مشتعلة إلى إسلام آباد في رحلة صوب أماكن جديدة. سفر آخر لكن الى اين؟ 6 إسلام آباد، ربيع 1991. ( مصدوعة أوهامي . امتزج النهار بعرق جسدي. يغمرني شك. مر أنا. رحلت الى بلدك محمولا على سنان قلبي، مطرودا من وطني، اختيارا الى حد قليل، واضطرارا الى حد كثير. أتيت الى هنا، أتينا الى هنا لنكسب عيشنا، لنصون موتنا، لنضمن مستقبل أولادنا، مستقبل أعوامنا المكدودة، مستقبلا لا يبعث على الخجل. بلدك كان مجهولا لدي. كنت أتخيله صورة، قدح بخور. سرابا ظننته لكن بدون شمس. أما بلدي فكان معروفا .. حرثوا أرضه، أجود أراضيه وأخصبها. وحين كانت الأرض تقاوم، حين كانت الشجرة تقاوم، كانوا يمارسون عليها الجرح بمنهجية وهدوء. عاشت أرضي.، مثل ذاكرتي ، بدون مساحة. بالغة كانت حنونا. كانت الشمس تلفح أجسادنا. وكان أولادنا يعملون مرغمين. في صمت كنا نتحمل. عروقنا كانت تجري ماء ونحن نسقيكم دما. وكان ابناء الأعيان يرتادون المدارس الممتازة... كانوا يريدوننا محرومين من جسدنا وحياتنا، مثلما كنا محرومين من أرضنا. واندلعت الحرب. شيء يسهل اليوم تلخيصه في بضع كلما. الحرب !.. كانت آلات معقدة تكتسح بيوتنا. الموت. الموت. الموت اليومي.. على خيل كان يتقيأ. لست أدري الى اية طائفة تحيزت. لا يهم ذلك. اليوم أجسادنا موشومة بأسئلة لا متناهية. صحيح ان نجوما ارتسمت على جبين الأولاد، ان السماء التحمت بالأرض، ان الصاعقة تهاوت بين أيدينا، ان الحنق وشظايا الجنون اجتاح فم الضفدع، ان التاريخ رسب في بطون الأسفار، واننا كنا نعاني ضيقا آخر: الهجرة بحقيبة هي كل متاعنا، حقيبة بالية، مربوطة بخيط، أودعناها بضعة ملابس صوفية، وأشلاء الصاعقة، وصورة الأولاد، وطنجرة، وبضع حبات زيتون، وأملا رحبا مثل ذاكرتنا، أملا مطلقا أخرق. ثم وصلنا الى هنا حشودا، حاملين معنا أغنية جنوبية، أغنية مكبوتة، حنينا الى الوطن، وقشرات الحلم. وبعيدا عن هنا، كان الناي يغرد، هناك حيث المشاهد البشرية مثلومة بغلالة، بسماء فولاذية، ترصعها ثقوب صغيرة وكبيرة، عميقة وشفافة. ما أقسى الصدع !... ان تعيش ورأسك مدفون في جسدك.. ان تقاوم بين المصنع والحلم والطعام والمسكن.. ما أقسى النفي!.. ما أندر الكلام!.. ماأندر اليد الممدودة!... وقع المثقفون العرائض. نظرت أنت الى التلفزة، فيما كان آخرون يصرخون: (نفس الحاكم، نفس المعركة). الثقوب في السماء مرصودة للسخرية. لكننا حين نختلى بأنفسنا في هذه الحانات الكئيبة ( يقال إنها قذرة ومنفرة) لكي نشرب، فإننا لا ننشد النسيان، بل نحاول إيهام أنفسنا أننا موجودون. نتلاقى، مرايا مهروسة. هو ذا الحزن ذاته، أيتها الرفيقة. أجساد تتصدع. أجساد ملآى رمادا. وفي القعر ، في أسفل القعر، تضطرم النار. حين ترتعش هذه النار، نعرف ان النهار قريب. لكننا نفضل الليل، لأنه يؤنسنا، يصوننا من الهاوية، يلطف عياءنا، ويشحننا بلورات صغيرة. ستقولين لي (حسبك ان تكلميني) ان النشوة سهلة، وان المعركة في مكان آخر غير هنا... وفي كل يوم ، نتوغل أكثر في متاهات الوحدة، بحثا عن شعلة)* ـ هامش: تناص مع رواية الطاهر بن جلون غزالة وتنتهي العزلة. *** سنة ونصف بين منازل الصفيح والروث في اسلام آباد راولبندي. كنت أقف ، كشحاذ، على ابواب البنك كل شهر في انتظار المعونة المالية المخصصة من مكتب الأمم المتحدة . لم يكن عندي يومها حتى السرير أو الوسادة. كنت أتوسد حجرة كبيرة وجدتها في الطريق. في الليل أنزع ستارة النافذة العتيقة، كغطاء من البرد. مازلت في هذا المنفى الآسيوي ، الشاحب، أبحث عن جثة في النهر. هذا هو المساء الأخير في إسلام آباد. كنت جالسا في المطار بدون حقائب أو نقود إلا من قميصي الأخير الذي طرزته يداك في فندق سيوان، وخبأته تحت بدلتي العسكرية. كان المطار مرتبكا في اليوم الثالث لنهاية حرب الخليج الثانية. كان أشبه ما يكون بثكنة عسكرية تعوي فيها الكلاب ، والسماء موحشة، ورمادية.كنت ناحلاً، أتكيء على قميصك وعطرك .المسافر الوحيد ذلك المساء بدون وداع، أو حقيبة، أو نقود، الا بطاقة سفر من مكتب الأمم المتحدة.نحن أبناء الصليب الأحمر. صعدت السلم دون أن ألتفت.( الساعة السادسة مساءً،4/آذار/91) لا أحد ورائي، لا احد أمامي. بكيت سرا، وانا أدفن رأسي في المقعد الأمامي. كنت أردد لمعين بسيسو: أنا الذي وطني ملء إرتحال الشمس، لكني بلا وطن. هذه رحلة أخرى..هذه المرة صوب النروج، نحو المنافي القطبية، نحو مدن الثلج، ثم الى اين؟ 7 بيرغن، شتاء 1992 . أتذكر جيدا كيف عدت من مطار بيرغن النرويجي بعد أن ودعت كريستينا ربما للمرة الأخيرة. أتذكر أيضا ان السماء كانت ممطرة في مساء يبدو عاديا لغيري. الشيء الوحيد الغريب في ذلك اليوم هو سفر كريستينا إلى اليونان، إلى رودس، إلى السواحل الإغريقية المشمسة. كانت مثل اية مسافرة. كانت تبدو أكثر سرورا، مشعة، ومبتهجة، لكن خبرتي الطويلة معها وبطقوسها الغريبة تجعلني لا أصدق هذا الإستعراض العلني للفرح، لأنها تعودت على إخفاء مشاعرها الخاصة جدا بعيدا عني وعنها كأشياء مقدسة غير قابلة للبوح، لأن الكلام العالي يفسد مشاعر القلب السرية. تقول أحيانا. عبر نوافذ صالة المطار تلوح جبال النروج زرقاء ونائية ودافئة ومكسوة بالثلوج. كنت أخطو فوق الشارع تحت المطر مستذكرا تفاصيل منسية وأكثرها وضوحا سفر كريستينا المفاجيء. قبل قرار السفر المباغت كانت مسرورة وطليقة كنهار سكندنافي صريح. كانت تشرب وتمارس الحب بطريقة شخص يتوجع، خائف، أو مقبل على مغامرة. لذة الخروج عن المألوف والعادي. الشعور المسكر العذب بمتعة قادمة. خفت. صرت أكثر حذرا وجهزت نفسي لسماع أنباء مثيرة. ببساطتها المعهودة قامت من الفراش لتقول لي وهي في الطريق إلى الحمام انها ستسافر قريبا إلى اليونان. هكذا هي دائما تضع القرار في وجهي كإعصار أو حريق بكل بساطة بلا مقدمات، بلاتخطيط، وتتركني اواجه نفسي وحيرتي وتذهب لتقوم بعمل ما من أعمال المنزل كانما هذا القرار لا يخص أحدا غيرها. كان علي أن أتقبل هذه الصيغة الجديدة. أتقبل بالأحرى هذه الإستقلالية المخيفة التي تصل حد الوجع. لا أدري بعد من منا على صواب ومن منا على خطأ لكن المؤكد انها تتخذ قراراتها بطريقة في غاية القسوة والارتجال. ربما حين يكون الامر مع رجل شرقي؟ من يدري؟ أذكر ان المطر كان منحرفا يضرب وجهي بقوة. كان أكثر غموضا من مطر الأيام السابقة. تجولت طويلا بعد العودة من المطار. كنت أحاول بيني وبين نفسي إنكار كل ما حصل. إنكار السفر. أطوف في الشوارع بشهية أقرب إلى شهية الشراب أو الجنس أو البحث أو الهرب. أتجول بلا هدف في شوارع لم تعد مرئية. لم يكن تجوالا. كان هربا آخر. عندما كنت اشعر بالضجر كانت تقول ببساطة مدهشة وهي تقرأ أو تستحم أو تأكل: ـ لنذهب إلى البحر. لنسافر. لنذهب إلى الغابة إذا رغبت. الان لم تعد موجودة. كانت مثلا تضع اصبعها فوق شفتي محذرة فجأة لتوقف صور الماضي. بعدها تقول صائحة على غير توقع كعادتها: ـ براري جديدة إكتشفتها لك.تضيف بنبرة طفولية آسرة: ـ كنت تقول دائما ان جبال النروج تصيبك بالدوار وانك مشتاق إلى الأفق. أليس كذلك؟ مرة تكتشف براري وأخرى تكتشف أفقا أو زهرة صباحية ولدت توا.تقول مشاكسة أيضا: ـ أنت لم تعد ذلك الآسيوي المخصي. أمس مارست الحب بطريقة رائعة. كنت لا تفعل شيئاً حين تفعل أول الأمر. لكنها سافرت. في مقهى الأوبرا إلتقيت بجيوش الفارين. تعرفت على سيامك الإيراني الذي هرب إلى العراق مشيا على الأقدام وكان يقول دائما:ـ عندكم بلد جميل. أقول له نفس الجملة كعزاء وحيد مجرد من القوة:ـ إيران مدهشة. العمارة التي أسكنها ملخص لعالم القمع. جاري على اليمين صومالي فالت بمعجزة من مجزرة مؤكدة. جاري على اليسار أثيوبي إسمه أيالو ، إندفع كغيره من الهاربين ، نحو الجنس بشراهة. صار هو الملاذ ووسيلة العيش الوحيدة. كثيرا ما يطرق الباب بعد منتصف الليل ـ يعرف طباع العربي ـ ويسألني بحياء عن بيرة لأن واحدة بنت حرام، يقولها بالعربية ،تريد بيرة. ـ تفضل أيها الكابتن. ـ أرجوك دع حكاية الكابتن هذه. ـ أعدك بذلك. كل نهار يجلس ايالو يخطط لإنقلاب مزعوم لكنه في الليل لايفعل شيئاً عدا الصيد في المياه السكندنافية الدافئة ولا تمر ليلة ينام فيها وحيدا وصاحيا لأن هذا قسمه بعد أن ترك السياسة ـ لأبناء العاهرات كما يقول ـ وراح يسكر ويمارس الحب حتى الإغماء أو النوم. كانت كريستينا تقول:ـ أمر لايخلو من غرابة ان أغلب الذين إلتقيت بهم يعانون من لعنة شخص ما تطاردهم. أنت، وزوجي البرتغالي السابق الذي كانت تطارده لعنة سالازار، وصديقي الإسباني الذي كان لا يستطيع أن يفعل شيئاً حين يتذكر فرانكو. الطابق الثالث ـ تحت ـ مشحون بالفيتناميين وأغانيهم التي لا تهدأ في الليل. كان أيالو يقول منزعجا بأن هؤلاء ـ مشيرا تحت ـ أولاد زنا ومن ذرية قحاب سايكون ومن مخلفات الجيش الأمريكي. معي في الطابق الرابع ثلاثة عراقيين. فوقي مباشرة صومالية غليظة أقسم ايالو انها تقضي الوقت في علاج توسع المهبل.ويضيف ضاحكا: ـ لم يبق لنا سوى فرجها، لأنه الأمل الوحيد. ضاقت بنا الحياة فلم يبق الا الفرِج. تصعد الأخبار وتهبط من الطوابق بسرعة عجيبة. لا أحد يعرف كيف يتم ذلك. الكل عاطل عن العمل ومشمول بالضمان الاجتماعي. وقت فراغ وفرصة الثرثرة والتحري والتنقيب متوفرة. حتى أدق التفاصيل وأكثرها سرية تجدها بعد لحظات وقد صارت من أكثر الحكايات شيوعا. فلان يمارس يوغا لإطالة قضيبه. فلانة خففت من وزنها كذا . فلان سيسافر إلى كندا بجواز مزور إشتراه من شخص في مرقص مكسيم. العادة الشهرية لفلانة تأخرت. كل هذه الأخبار تتداخل مع أنباء الإنقلابات ومحاولات الإغتيال أو المجازر والحروب الأهلية. (عند مدخل البناية، قدموا لنا القانون: ـ ممنوع تحضير الطعام في الغرفة(هناك مطبخ في نهاية الممر). ـ ممنوع استقبال النساء يوجد ماخور غير بعيد من هنا، اسمه (عند مارييل). ـ ممنوع الإستماع للراديو ابتداء من التاسعة. ـ ممنوع الغناء ليلا . ـ ممنوع ذبح الخرفان داخل البناية. ـ ممنوع الإستمناء داخل الغرف(أفعلوا ذلك في المراحيض). ـ ممنوع ممارسة اليوغا في الممرات. ـ ممنوع صبغ الجدران، استعمال الأثاث، تكسير الزجاج، تغيير المصابيح، معاناة المرض، الإصابة بالإسهال، الإهتمام بالسياسة، نسيان الذهاب الى العمل، التفكير في استحضار العائلة، إنجاب اطفال..، مغازلة الفتيات في الكنائس، الخروج الى الشارع بالمنامة، التذمر من الشروط الموضوعية والذاتية للحياة، التعاطف مع المنظمات اليسارية، قراءة أو كتابة شعارات القذف على الجدران، التخاصم والتقاتل واستعمال السكاكين والإنتقام. ـ ممنوع الموت هنا، داخل هذه الغرف، وفي حرم هذه البناية (إختاروا مكانا آخر لتموتوا فيه، في بلدكم مثلا، فالأمر أنسب هناك). ـ ممنوع الإنتحار ( حتى في حالة إحتجازكم... فديانتكم تحرم قتل النفس ، كذلك ديانتنا. ـ ممنوع تسلق الأشجار. ـ ممنوع صبغ الجسد بالأزرق والأخضر والبنفسجي. ـ ممنوع ركوب الدراجات داخل الغرف، ولعب الورق، وشرب الخمر (ماعدا الشمبانيا).ـ ممنوع ايضا التنكر بلباس غريب. أونهج طريق آخر للعودة الى الغرف بعد العمل)*. * الطاهر بن جلون، غزالة وتنتهي العزلة. *** في مرقص البومة ـ أوكلة ـ تعرفت على كريسـتينا. أربعينية ناضجة، طويلة، شقراء،رشيقة.بدت تائهة أول الأمر. تشرب وتدخن وترقص بعصبية حتى نظرتها العادية تبدو شرسة مما جعلها تبدو أكثر جمالا من نساء المرقص. لكنها، وهذا أمر مدهش، وضعت رأسها ببساطة على صدري. ـ شربت كثيرا ـ فدهشت من هذه البساطة أنا الخارج من ليل الرصاص والجثث العائمة. حمامة تتكيء على دغل كثيف يختبيء تحته ثعبان صحراوي لم يشرب ماءً منذ قرون. في الأوبرا تعرفت على بوريس ـ جندي روسي هارب من إفغانستان ـ وصديقته البولونية إليانا بقامتها التي تشبه في رهافتها كنائس وارشو. كنت أستمتع بالمطر والثلج والشراب بصحبة كريستينا. الان لا أريد الذهاب إلى شقتي في شارع نوردراكس كاته4 قرب محطة القطار لأنني لا أريد مواجهة عزلتي. كنت خائفا خوفا منفرا من نفسي وذاكرتي. كنت أريد أن أتجول أو اسكر.قال بوريس:ـ الليلة حفلة للرقص الإسباني في مقهى الكراند كوفيه.سنكون هناك الليلة. المسرح ضاج بالرقص الإيقاعي المتوازن كصدى طبول آتية من الغابة في مقهى الكراند كوفيه. لمحت قاسم شريف في قلب الحشد ضائعا، مستفزا كحجل جبلي. كان صورة من ذاكرتي الهرمة. جرح ناعم في الكراند كوفيه. خدش في هذه الموسيقى. إقترب مني : ـ تحرك ياحفنة الرماد. كنت أفكر بسفر كريستينا. جلس قليلا وعاد إلى حلبة الرقص:ـ أقول لك أفق ياحفنة الرماد. حين وضعت كريستينا أصابعها الشبيهة بسيقان السرو في نهار ماطر إكتشفت أصابعي الميتة. جدول ماء يتكيء على خشب يابس. بلا توتر وببساطة خلعت ملابسها وقذفت بها إلى أرضية الغرفة وإستلقت ساهمة، كغزال ذاهل وآمن، كسهل ريان وحار، متوهج، ومحترق فوق الفراش الذي بدا كسهل آسيوي صيفي مشتعل:ـ هل أنت خائف؟ أضافت وجسدها يفوح بعطر إنثوي فواح:ـ إقترب أرجوك. كالأشجار الهرمة، العملاقة، إرتميت، كما لو انني سقطت في هاوية. لا أدري إلى الآن كم إستغرق الوقت الذي وصلت فيه إلى جسدها ولكن يخطر ببالي أحيانا انني إلى الآن لم أصل أعماق تلك الهاوية المفتوحة أو برية البياض كسهل بري طليق. في الصباح أفقت مسحوقا فوقع نظري على إمراة تشرب القهوة وتدخن وتقرأ جريدة. نظرت إلي وإبتسمت. هكذا ببساطة. لا تعقيد في المسألة. لا إبتذال أيضا. بساطة تكاد أن تكون جمالا آخر. هذه هي المرة الأولى التي انعم فيها بهذه الأشياء الأليفة منذ زمن الحرب: إمرأة، وقهوة، وجريدة، وضوء ناعم. كنت دائما اقول لنفسي ان السلام مصنوع من شروط بسيطة. كان الثلج يهطل عبر النافذة ويعطي أحاسيسي هوية أخرى. شعرت ان القلب البشري الذي أحمله لم يتحطم بعد وانني لا زلت قادرا على الحياة وهذا هو الشيء المبهر في وجودها معي في تلك الليلة الثلجية العاصفة التي أسمع دويها أحيانا في أعماق الليالي الموحشة في العزلة الجليدية البيضاء. ان العزلة تجعل الأصوات القديمة المبهجة والصور المشرقة أكثر سطوعا في الذاكرة لذلك أستطيع ان أفهم جيدا لغة أولئك الذين يتكلمون من داخل وحدتهم ، لأنهم حقا، كما تقول سيمون دي بوفوار، يتحدثون إلينا عن أنفسنا. هي الآن مسافرة. الثلج يتساقط في الخارج. صدى موسيقى الكراند كوفيه ليلة أمس يعصف في رأسي. في الطريق إلى مقهى الأوبرا صادفت بوريس يركض خلف إليانا. حياني باسما وهو يعدو خلف الغزال البولوني النافر. قاسم شريف في المقهى يجلس في ركن منعزل كعادته دائما. لم يتبدل إلا قليلا منذ عرفته في مقهى نادري في طهران. يومها كان يتحدث بهوس عن مشروعه الكبير في الهرب إلى الباكستان:ـ الطريق من (زاهدان) إلى باكستان وعر وجبلي. المهم تجنب الكوميته ـ الشرطة السرية الإيرانية ـ السلاح ضروري لكن الماء مهم. بعد ذلك صرنا نلتقي كثيرا. نسافر الى مدينة قم ونمر ببحيرة الملح التي كان السافاك يرمي معارضي الشاه فيها من الطائرات. نطوف في شوارع طهران حتى الباص الأخير والعودة إلى مخيم كرج ، الإسم الملون للسجن أو المأوى. قال لي مرة في طريق العودة:ـ لنفترض اننا غامرنا بكل شيء وخسرنا دفعة واحدة ماذا نفعل؟ ـ لم الإفتراض؟ نحن كذلك بالفعل. سمعته يعزي نفسه:ـ هذا درب الأميرة شمس. وسألني فجأة:ـ ماذا تفعل لو كنت مكان الشاه؟ ـ أفعل ما فعله..أموت. تقع بناية مسرح بيرغن جوار مقهى الأوبرا التي يتقدمها تمثال هنريك ابسن في حديقة صغيرة. في المقهى تجري أكثر العروض المسرحية غرابة ومأساوية. تحت الأقنعة الأفريقية المعلقة على الجدران والموسيقى الحالمة ـ إختيار النادلة نورينا ـ يتحرك بسرية صامتة عالم سري من المخدرات الجوازات المزورة والسلع المسروقة. كريستينا سافرت. الشيء المهم الذي فعلته هو انها أيقظت جسدي. أحيت الرغبات الدفينة، والمقموعة، والمنسية. الرغبات البدائية المقصية. فعلت ذلك ببساطة وبلا تكلف بلا مخطط. صارت الحياة تبدأ من سرتها إلى قدميها عند موقد النار في الليالي الثلجية. أطلقت شهوة الحياة من أسر الموت. فكت الحرائق من الأسر. إخضر الجسد الذابل ، الهش، اليابس. أفاق الرجل من رقدة الموت أو الخوف . صحا على حقيقة جسده المنسية. على ضياع القلب وصهيل الأحاسيس المكبوتة. أقول لها ساخر: ـ هل تعرفين صاحبة الحانة البابلية؟. قلت لك مرارا ان اباك ضبطوه يتبول في ميدان عام في ستوكهولم. هل سمعت بكلكامش؟ ـ سمعت به. وأرجوك كف عن هذا الهراء وحكاية أبي غير صحيحة. ـ شرط أن تعترفي بأنه فعلها. ـ هذا غير صحيح. ولا أظنك تعنيه. أنت تمزح أليس كذلك؟ ـ أنا لا أمزح. لأني لا أعرف المزاح حتى لو رغبت. ـ لكن ما صلة كلكامش بالأمر؟ ـ أنت تبحثين عن أسباب منطقية لكل شيء. ـ هذا كلام غريب. ـ لو كان هناك منطق لما عبرت ثلاثة حدود لنتحدث عن بولة أبيك. ـ أرجوك كف عن هذا الهراء. مرة إصطحبت معها رجلا عجوزا ، قالت :ـ انه يود التعرف عليك. رحبت به في منزلي. قال انه عراقي يهودي من البتاويين وان اسمه شاؤول. قال انه خرج من العراق قبل أكثر من 50 سنة.قلت، مسرورا: ـ أنت ضيفي الليلة. اغرورقت عيناه بالدموع. سألني بحضور كريستينا الصامتة، والذاهلة:ـ أتذكر أشجارا قرب سينما النصر القديمة. هل لا تزال موجودة؟ ـ أزيلت. ـ ومقهى البرلمان؟ ـ أزيلت. ـ والبرازيلية؟ ـ لم تعد موجودة كما أظن. ـ ومحمد القبنجي ؟ ـ مات. ـ ويوسف عمر؟ ـ مات قبل ان يصبح متسولا في الحصار. ـ وصديقة الملاية؟ ـ ماتت ياشاؤول. ـ وحديقة غازي ـ الأمة؟ ـ مأوى للصوص والبغايا. ـ أين صار زكي خيري؟ ـ مات في السويد. ـ وغائب طعمة فورمان؟ ـ مات في موسكو. ـ والجواهري؟. ـ مات في دمشق. ـ وعبد الوهاب البياتي؟ ـ مات في دمشق. ـ وسعدي يوسف؟ ـ لايزال يواصل المنفى والموت والتجوال والنزيف والمطر. شربنا كثيرا. وشاؤول يبكي .قال برجاء،وتوسل:( ـ أرجوك غن). تلك الليلة غنيت، كما لو لم أغن من قبل ولا من بعد. كنت أنوح كناقة على ضفاف الفرات: لا حضت برجيله، ولا خذت سيد علي. *** أقف على حافة الأطلنطي، على صدر كريستينا، متأملا النهار الفار وزرقة البحر. حين ركضت على الساحل خيل إلي انها ستطير كطائر أشقر ينبعث من الرمل والبحر والزمن والبساطة. هذه البساطة هي حرية جسد طليق من الداخل. لا تخطط بل تعيش بعفوية تكاد أن تكون جمالا. اما أنا فأشعر باني أعيش بجسد فأر. كل خطوة محسوبة. قالت لي مرة واحدة وأخيرة: لنذهب للتزحلق على الجليد. ضحكتُ:ـ لم تضحك؟ ـ كيف يمكن لجسد مقموع أن يطير فوق الجليد كما يفعل أبناء بلدك؟ هذا الطيران ياكريستينا لا يمكن أن يقوم به إلا الجسد المتحرر الذي لم تتعفن رغباته ويصير جيفة متجولة. نحن نتصادم في الطرق العادية. فكيف أطير فوق الثلج؟ ظلت صامتة. قلت:ـ أقول لك فأر. هل تفهمين؟ ـ عن اي شيء تتحدث؟ ـ عن جسد الفأر. تمد لسانها سخرية:ـ هذيان . تقول مسرعة: ـ ساذهب لشراء فودكا فلندي. لن أتأخر. الثلج يهطل في الخارج والغرفة دافئة وحضورها حي. اشعلت الموقد ـ لا يشبه موقد يوسف ـ فجلست ووجهها يشع بنور الشهوة ولاتبذل اي جهد للتستر عليه: ـ اغلقي النافذة أرجوك. ـ هكذا أحسن. ـ اقول لك اغلقي النافذة قبل أن أتحدث عن واقعة ستوكهولم. ـ كم تبدو جميلا حين لاتكون بذيئاً. ـ الثلج يتنافر مع جسدك المشتعل. أغلقت النافذة وعادت صامتة ـ عادتها حين لا تقبل عن شيء ـ وجلست هادئة وخلفها صور لخيول عربية بدت مستثارة وراكضة في براري فسيحة لكنها لا تشبه خيول سيوان الهلعة المحاربة المطاردة في ذلك الليل العراقي حيث يتجاور فيه ضوء القمر مع حوافر الخيل، النهر مع الموتى، الحرب والشهوة، العناق والرصاص، الغابة والابراج. ـ كنت أريد ان أقول لك شيئاً لكنني نسيت. ـ هذا أفضل. أرجوك لا تكن بذيئاً. ـ حسنا. هل عندكم خيول في النروج؟ ـ طبعا. لكنها لا تشبه خيولكم. غليظة بعض الشيء. ـ وخنازير؟ ـ بالطبع. فكرت، فجأة، اني تقبلت كريستينا كوجود نظيف بلا مساءلة أو شك. كان جسدها قد فرض شروطه وقوانينه. حلت اللذة محل الشرف. الجمال فرض نفسه على المعايير القديمة. شعرت بأظافرها تنغرز في ظهري والخيول تلهث على الجدران. وعواصف الغبار تندلع في صحراء الصورة ، والثلج يهطل خارج النافذة. لا يشبه مطر فندق سيوان ولا خيوله. انه مطر سكندنافي خارج الذاكرة، لا يشبه الامطار الاولى ولا النوافذ ولا الرياح ولا المواقد. لم تعد موجودة الآن. الخيول هامدة على الجدران. أنا الان وحيد، واعزل، يا يسرى، وفي الغرفة رائحة لقميص قديم ومطر قديم. وحيد وأعزل لم يزرني أحد منذ أيام. تشتد العاصفة الثلجية في الخارج. جربت ان أطرق الباب على نفسي. ضغطت على جرس الباب. لم يتدخل أحد لفتح الباب الا أصابعي والمفتاح. أستقبلتني احذية الممر، وقائمة الهاتف والفراغ. كئيب ظلي على الجدران كآبة أسد في الأقفاص. مثله أحلم بالغابات المطيرة. تركت الباب مفتوحا في انتظار ان يزورني أحد، وحشا، أوجلادا، أو جنازة. لم يأت احد. ألتقط بقاياك من الهواء، بأصابعي. أستدعي الليل، شاهدا على ضياعك. في أعماق الليل فرحت لعواء قادم عبر النافذة. لم يكن ذئبا او أحدا. كانت الريح تعوي . غضبت.طردت شقتي وسكنت عطرك. *** صباح يوم السفر أفقت مبكرا. كانت نائمة. نزلت إلى المحل المجاور قرب محطة القطار لشراء باقة ورد وجريدة. كنت أحاول أن اقوم بسلوك سوي في محاولة للإمساك بسلام هارب. تحسست برد الصباح وكنت خائفا خوفا غير محدد المعالم من ان لا أعثر عليها. وجدتها تعد القهوة والثلج يعصف في الخارج.قلت بصوت ذابل:ـ إقتربي أرجوك. كانت حارة وصغيرة وشهية. سمعتها تنشج .إندفعت إلى الستارة لتوقف صفير الثلج كما لو انها تسدل الستارة على آخر المشاهد.صار الصمت حجرا. لكنها صرخت، فجأة، وإندفعت نحوي بشراسة حيوان مجروح:ـ قل لي بحق السماء ماهو إسمك الحقيقي؟ ـ حمزة . 8 فز سرب من عصافير الفجر من الضفة المقابلة وإنحدر نحو غابة ربيضة التي كانت أشجارها وحيواناتها ورجالها وحشراتها تستحم في ضوء الفجر. ضوء كأنه يطلع لأول مرة على أرض بكر تمتزج فيها روائح الفجر والعشب والتراب والأوكار السرية للمخلوقات. كائنات تطلع من أعماق الادغال الندية، السابحة بعطر النهر وأعشابه وطحالبه وروائح الأشجار وجحور الحيوانات الصغيرة الزاحفة بحذر تحت تأثير الضوء والنهر والسكون الغابي الذي لا يقطعه غير نقر سريع لطائر أو حفيف الأغصان الذي يحركه نسيم النهر أو صيحات الطيور النهرية في طيرانها الواطيء اللعوب فوق سطح الماء. هذه هي ربيضة تنهض من النوم وهي تغتسل بالريح الناعمة والروائح العشبية والضوء الناعم، السيال، الطري، والهواء الرطب المشبع بعطر الأزهار التي تنمو على ضفاف النهر الذي بدا بكرا كما لو انه يجري لأول مرة، ولأول مرة يطلع عليه ضوء. كل فجر تكون الغابة غابة أخرى والنهر نهرا آخر. لا شيء يتكرر. الصيف يوشك على نهايته وبدأت تظهر في الأفق غيوم بيض ورمادية وعلامات خريف مقبل. قطيع آخر ولد هنا هذا الصيف. مخلوقات صغيرة سمراء ورشيقة تركض هنا وهناك في الغابة طوال النهار حتى عودة القطيع من النهر في المساء حيث يسمح لها بالإقتراب من أمهاتها كي ترضع الحليب قبل نوبة الحلب. صقور تحلق في الأعالي. لعلها تتهيأ لموسم هجرة نحو مناطق أكثر دفئا. ظهر شحوب خفيف على أوراق الاشجار.صار جسدي أكثر سمرة من السابق، محروقا من الشمس والسباحة في أوقات الظهيرة في النهر او راكبا على جاموسة أو خشبة طافية. تعلقت بالمكان وصرت أعرف اسماء أشجاره وطيوره وحيواناته الصغيرة والكبيرة وحشراته وسحاليه وجرذانه المضحكة المذعورة ونظراتها القلقة وهي تبحلق بي وسط العشب أو في جحورها المغطاة بالأعشاب والدغل. كل ظهيرة وعند إشتداد الحر أهرع إلى النهر الذي تفوح منه في هذه الأوقات رائحة مسكرة وعذبة ومنعشة هي خليط من الطين والنسيم والعشب والطحالب ورائحة القطعان السابحة بنشوة هادئة، والسكون الحار الذي ينبع من الشواطيء ويفجر في الجسد حرائق سرية غامضة ولذيذة . أعشاب صغيرة كبرت. عجول بدأت تركض بعد أن كانت لا تستطيع المشي. ثمار صارت كبيرة وأغصان مشرقة ومضيئة تحت الشمس أو ضوء القمر في الغابة وهو ضوء عجيب لم أشاهده في أماكن أخرى لأنه قمر وليس شيئاً آخر بلا أسلاك ولا أعمدة ولا أسوار. النجوم كثيفة وقريبة وأحسها قربي وأشم رائحتها أو أسمع جريان الضوء منها وهو ينزلق بليونة فوق النهر أو الأشجار أو الأدغال أوفي الجحور العميقة بين الأعشاب. طوال الوقت كنت أفكر كيف أستطيع بعد اليوم أن أعيش خارج هذا المكان. نسيت عالم البلدة. أخذت الغيوم القطنية المرتحلة تظهر في السماء وكنت أعرف ان عودتنا إلى البلدة ستكون قريبة ما أن يبدأ المطر بالنزول. حزنت بصمت لأنني أحببت المكان ولا أريد مغادرته ابدا. سمعتهم يتحدثون عن الصيف المقبل والعودة مجددا إلى ربيضة لكن العام المقبل بعيد وشتاء البلدة طويل والشوارع موحلة والليل موحش والقمر أصفر ومخيف والريح تأز في الدار واسلاك الكهرباء تصفر والظلمة عميقة وخلف كل منعطف شبح بعد منتصف الليل. إنهمر مطر خفيف هذا المساء وبرد الجو وصارت ريح النهر أكثر برودة، تلسع الوجه خاصة في الفجر.كانوا يتأهبون للعودة وعبور النهر. هذه الليلة هي الأخيرة. كانوا يعملون طوال الليل على أضواء الفوانيس وقمر يظهر ويختفي بين الغيوم والأشجار. حلوا حبال العجول الصغيرة وقلعوا الأوتاد وتركوا الصرائف كما هي. صلوا للغابة صامتين، خاشعين، وباركوا المواقد وشكروها وباركوا النهر وصلوا له وأخذوا أعشابا مسحوا بها جباههم ولمسوا برفق ومودة جذوع الأشجار ولوحوا لبقايا النجوم وصلوا للأرض راكعين. عندما أشرقت الشمس من بين الغيوم كانوا ينحدرون إلى النهر صوب البلدة وهم عراة وقد ربطوا ثيابهم حول خصورهم ملوحين بالعصي للقطعان المجفلة الراغية وهي تنحدر ببطء وعناد نحو الماء. كان يوسف بقامته المهيبة العارية يبدو أمام النهر كعملاق يغادر الغابة إلى الأبد. كان أول من نزل الى النهر . كانوا جميعا راكبين أو سابحين يمدون أبصارهم عبر النهر نحو البلدة، والقطيع يغوص عميقا في النهر، تحت الشمس الغائمة، كما لو انه يذوب في الماء نحو القاع. أما أنا فلقد كنت انظر مشدودا وحزينا وذاهلا إلى ربيضة وهي تبتعد، تبتعد، تبتعد..
|
|
رجوع
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|