يقول أمبرتو إيكو في لقاء مع الصحافة: "الكتاب الجيد أكثر فطنة من صاحبه، فهو يرى أشياء لم يدركها المؤلف". ولعل هذا القول يفسّر جانباً من انشغالاته في مفهوم اللغة وطرق التأويل، فهناك تضاعيف للمعاني تجترحها القراءات المتعددة، مثلما يصبح النص فضاءً لإحالات تفضي بدورها إلى صيغ ذهنية متناسلة.
فيلسوف اللغة الذي رحل قبل أيام عن عالمنا، كان أحد رموز الثقافة المعاصرة، جمع خلاصة ما كان موضع انشغالات عالم الفكر الراهن، عالم ما بعد الحداثة المتشظي، ومن خلال خلائط من الصور الواقعية والخيالية. لعل جُلّ ما كتب ايكو يمكن تلخيصه في قول غاليمو احد أبطال رواية "اسم الوردة : "بنى المكتبة عقل إنساني كان يفكر بطريقة رياضية لأنه دون الرياضيات لا تصنع متاهات".
قضى عالم السيموطيقا عمراً في قراءة أنظمة العلامات، وهي انظمة رياضية، فقدم نفسه من خلال التنظير والسرد كواحد من شخصيات رواياته في الزمن القروسطي، موسوعة تتناسل فيها المفاهيم والرؤى، فكتب مواضيع لا تنتظم في سلسلة متشابهة، من أصل النوع حتى برامج التوك شو في التلفزيون. كان غزير الإنتاج، حتى أن ناشره لم يصدق أمر وفاته، فلم تمض سوى ايام قليلة على آخر مخطوطة بعثها إليه، ولم يكف عن الحديث عن مشاريع مقبلة. وفي ترابط مع خبراته، كان يرى أن الشيء الأكثر عدلاً على وجه البسيطة، ليس الحس السليم كما يقول ديكارت، بل الغباء والحماقة. ومن هنا علينا اكتشاف النزعة التهكمية في أقوله وتصريحاته عن العوالم الحديثة، عوالم الاستهلاك والموضة والإعلان، والبرامج التلفزيونية وشبكات الاتصال الحديثة التي تمحي وتكتب حاضرنا. وكأيطالي عريق يتمتع ايكو بالقدرة على حبك النكات والقفشات التي يبثها في مقالاته الصحافية وهي من بين نشاطته التي واظب عليها واصدر فيها كتباً. ولم تغادر نزعة الضحك والتهكم كتاباته ومقابلاته، وهي تظهر وتختفي بين ثنايا الترجمات التي أسماها عملية التفاوض بين اللغات. يقول إيكو مازحاً: "عندما كتبت" اسم الوردة "كان بودي أن أسمم راهباً!" بيد أن موضوع الضحك يكمن في قلب الحكاية المركزية لروايته، فأمين المكتبة الأعمى، وهو شخصية مستوحاة من بورخيس، سمم كتاب أرسطو "الشعر" كي يموت كل من يقرأ فصول الضحك التي تتعارض مع قوانين الكنيسة الصارمة، ثم التهم الكتاب وأحرق المكتبة في النهاية. كتاب "الشعر" لارسطو يقول احد شخصيات الدير في شتيمته : "بقي مجهولا في العالم المسيحي لمدة طويلة قد يكون بإرادة إلهية، وصل إلينا عن طريق العرب الكافرين.."
روايته "اسم الوردة 1980 ألفها بطلب من صديقة ارادت حبكة بوليسية تنشرها متسلسة في جريدتها، فصاغ تلك القصة التي يعرفها الكثيرون عن جريمة قتل في دير. تزيح تلك الحادثة الغطاء عن عالم ملتبس من الأكاذيب والحكايات المختلطة والمصالح المتضاربة، مثلما تفتح صفحاتها على سِفْر المعارف الإنسانية التي تمتد من اليونان الى تخوم الشرق البعيد، ويشير مترجم هذا الكتاب أحمد الصمعي الى استخدامه حكاية الكتاب المسموم من ألف ليلة وليلة، فضلاً عن المعارف العربية الإسلامية التي يبحث عنها البطل في مكتبة الدير، ولكن إيكو يقول إنه يجهل حكاية الكتاب المسموم في الليالي العربية. ومثلما لاحقت ماركيز "مائة عام من العزلة" لاحقت "اسم الوردة" إيكو حيثما حل وفي اي نقاش او قراءة كتاب يصدر له، حتى بات يكرهها. ولكن النقاد لم يكفوا عن جعلها تتصّدر كل ما يخصه، حتى قصاصات تأبينه بدأت ب"اسم الوردة". اي عمل ألفه بعدها انتهى إلى مقارنة تتضائل فيها قيمته ازاء "اسم الوردة" كما يصرّح متذمرا. والحق إن الكثير من أعماله اللاحقة كانت تدور هي الأخرى في فلك الرواية. حكاية لا تنتهي عن ألغاز الجرائم والمؤامرات والغيبيات والمعلومات والمعارف القديمة والحديثة. "بندول فوكو" روايته الثانية لا تطاق كما وصفها سلمان رشدي، فهي ثقيلة وتبدو لغتها متصنّعة. بيد ان ايكو الذي جوبه بهذه المقولة وغيرها التي استهدفت رواياته اللاحقة وبينها "باودولينو" و"جزيرة اليوم السابق" و"مقبرة براغ"، يؤكد ان أعماله الروائية بعد "اسم الوردة" لن تُعرف قيمتها إلا بعد عقود من قراءتها. تكمن جاذبية "اسم الوردة" التي جمعت المجدين: مجد الرواية النخبوية والأخرى الشعبية، في مفصل أساسي وهو كيفية طرح الأسئلة في متاهة هذا الكون: يقين البشر وشكهم، وجودهم المرئي وظلال خيالاتهم التي تسري في نسغ القصص التي تتداخل في تضاريس الموسوعة الكبرى. غدت "اسم الوردة" منعطفاً روائياً ألفت على غرارها الروايات، الجيدة منها والرديئة، في الشرق والغرب، ولكنها بقيت علامة تشير الى ما يعز على الآخرين وصوله، وهو اجتراح الرواية المثقفة، رواية القرن العشرين حيث تتداخل المتاهة الميتافيزيقية مع التاريخ الواقعي. ولعل الفيلم الذي بسط مادتها أمام الجمهور ساعد على وصولها إلى أبعد الناس، ولكن ايكو بقي يتهرب من إبداء رأي في فيلمه هذا.
لم يكن إيكو مجرد روائي او باحث أو متفلسف في اللغة، فهو في المقام الأول مؤرخ يتحرك في حقل الأفكار والقيم عبر تعالقاتها اللغوية والتاريخية والاجتماعية، فليس الأعمال الأدبية وبقايا القصص الكنسي والطقوس وضروب السحر والأحاجي القروسطية، وحكايا الشعوب النائية فقط هي موضع عروضه، بل الكيفية التي تتموضع فيها عبر التاريخ. إنه معني بتحديد العلاقات المتبادلة بين الظواهر الكلامية ومتلقيها في سياقاتها الاجتماعية والسياكولوجية والثقافية. يرفض امبرتو ايكو ما قيل عن العصور الوسيطة التي دارت حولها الكثير من كتابته، بأنها الفترة المظلمة في حياة أوروبا، فهو يقول انه يراها الأكثر خصباً وانتاجاً، فهي ربيع النهضة التي انبثقت عنها المدن الحديثة والبنوك ووسائل الاتصال.
كل حكايات امبرتو ايكو التي تستدعيها موسوعيته المذهلة تحتمل الصدق والكذب، الخيال والوقائع. ولكن روايته "باودولوينو" ترى في الخيال الكاذب نبؤة تتعدى صاحبها، فبطله القديس الرسمي لمدينة ألسندريا التي تقع شرق تورين، كان كذابا طوباويا كما يقول عنه، فهذا البطريارك كان يدعي قراءة الطالع، فبث إلى قادة حملات الحروب الصليبية قصصه عن المصائر التي تحققت كمعجزات بعده. أما روايته "مقبرة براغ" فتدور حول فكرة المؤامرة، و"المؤامرة" من بين مواضيعه الأثيرة في الروايات، لانها تشكّل مفصلاً من مفاصل حياتنا اليومية، فهي ليست فقط الكذبة التي تخلق من خلالها السلطة صور الأعداء للسيطرة على عقول الناس وتوجيهها، بل هي تتعايش مع فكرة البشر عن أنفسهم. وإن كانت "بروتكولات حكماء صهيون" الكذبة الكبيرة التي تداولها العالم لتبرير اضطهاد اليهود، فهي في روايته "مقبرة براغ" تصبح الوجه الثاني للحقيقة الروائية. السيميائية تقوم على الكذب كما قال مرة، ولكنه يستأنف بأنها المنقلب الثاني للحقائق.
يرى في كتابه "السيميائية وفلسفة اللغة" إن البحث عن الحقيقية يتمثّل باعتباره عملية تأويل، واللغة باعتبارها الفضاء التي تصل فيه الأشياء بصفة أصيلة الى الكائن. فالهرمينوطيقيا الهايدغرية التي يتبناها، تتأسس على فرضية أنّ ما يظل خفياً لا يمثل حدود الفكر أو إخفاقه، بل هو الميدان الخصب الذي يزهر فوقه الفكر وينمو". يعتبر ايكو الموسوعة مسلّمة سيميائية، فهي مكتبة المكتبات التي تمثل أنموذجها النظري لأنها الكل الذي يسجل سلسلة التأويلات التي يمتلكها مستعملوها بوجوه مختلفة. وقدر ما كان معنيا بالعلامة باعتبارها تحيل الى منظور متعين بصور ووقائع وتواريخ، كانت عنايته بالرمز باعتباره صيغة مفاهيمية تنطلق الى المشروع الأكثر شمولية، فالممارسة النصية رمزية، اي ان التواصل في جملته رمزي.
وتدين العربية الى مترجميه وقارئيه: التونسي أحمد الصمعي الذي ترجم كتبه عن الايطالية، والمغربي سعيد بنكراد الذي ترجم ما كتب إيكو عن روايته "اسم الوردة" وعدد من مؤلفاته، كما وضع لنصوصه قراءات ومقاربات أفادت القراء. اضافة الى مترجمين آخرين ومنهم سعيد الغانمي الذي ترجم كتاب إيكو عن الانكليزية "تأملات في اسم الوردة" ووضع له مقدمة وهو الكتاب الذي ترجمه بنكراد تحت عنوان "الحاشية" أو حاشية اسم الوردة. ونقل العراقي خضير اللامي إلى العربية روايته المعقدة " مقبرة براغ".
تعسر كتابات إيكو على القارئ غير المعني بها، عدا تلك التي لا تدرج ضمن الكتابات النخبوية، وهي ليست قليلة، ولكن معظمها لم يترجم الى العربية. ولعله في هذا المنحى يمثل نموذجاً ثقافياً لعصره المتحرك، فلم يعد هناك الكاتب النخبوي أو الفيلسوف الذي ينعزل في برجه العاجي إلا في بعض الثقافات التي لا تتفق مع إيقاع العصر وبينها الثقافة العربية.
عن صحيفة "الرياض" |