نقاش / رعد سالم إسماعيل صليبي في الخامسة والعشرين هو أب لطفلين أمضى أعواماً من حياته في العمل داخل معامل الطابوق الأهلية القريبة من مسكنه.
وبعد سنوات من استنشاق السخام والأدخنة بات يعاني من مرض التهاب الرئتين ما أدى لتعرضه إلى نوبات اختناق شديدة تهدد حياته في ظل مواصلته العمل كي يديم معيشة عائلته في قرية الصفافحة التي تشكلت قريبا من تجمع معامل الطابوق، إذ يتقاضى العمال أجورهم بحسب كمية الطابوق الذي يتمكنون من إنتاجه يومياً.
يدرك صليبي فداحة الخطر الذي يتهدد حياته بعد أن فقد مؤخرا ابنة عمه البالغة من العمر (18) عاما بعدما أصيبت بسرطان الرئة نتيجة استنشاقها كميات مستمرة من الدخان الأسود المنبعث من تلك المعامل، وقد فشل الأطباء في علاجها لعدم تشخيص المرض مبكراً.
يؤكد صليبي أن صحته تتراجع نتيجة استنشاقه لدخان المعامل التي يتنقل بينها في مهمته كمختص بإشعال محارق الأفران بالنفط الأسود التي يصفها ( بالمهنة الإجبارية).
ويقول لـ"نقاش" أنا "أتعرض لانتكاسات صحية تلزمني الفراش وتتطلب علاجات مكلفة أعجز عن توفيرها غالباً، لكن لا خيار آخر لدي، فأنا أعلم صعوبة الحصول على فرصة عمل في مكان أفضل أو وظيفة حكومية لأني لا أملك تحصيلا دراسيا وقد تزوجت مبكرا ويجب أن أوفر قوت عائلتي".
مراسل نقاش قام بجولة في مجمع معامل الطابوق والتقى بصادق جميل كاطع صاحب أحد المعامل الذي حاول التقليل من حجم التلوث.
كاطع يؤكد ان جميع المعامل البالغ عددها في هذا الموقع 23 معملا تستخدم حاليا منظومات الحرق الآلي المصنعة في إيران والمعروفة بـ(النوزل).
ويقول لـ"نقاش" لقد "اشترطت علينا دائرة البيئة استخدام هذه الآلية بعدما كان إيقاد الأفران يجري بواسطة الحرق العادي للنفط الأسود والمعروف بـ ( البيرنه ) الأمر الذي كان يبعث دخاناً اسود كثيفاً يغطي مساحات شاسعة".
لكن وبحسب كاطع فأن عمليات تطوير المعامل الحالية والتي تم إنشاؤها منذ عام 1989 صعبة للغاية وتتطلب نفقات كبيرة لا يمكن توفيرها لهذا الغرض إذ تقدر كلفة تطوير المعمل الواحد خمسة مليارات دينار.
ويعمل نحو (150) عاملا بمختلف المهام في كل معمل، ما جعل المجمع مصدر معيشة مئآت العائلات التي تسكن قرية الصفافحة القريبة حيث سجلت أكثر الإصابات جراء التلوث.
ويتحدث ناظم جاسم عويز مختار القرية عن تسجيل ثمان حالات وفاة بأمراض مختلفة منها سرطان الثدي بين النساء، موضحا "تم تسجيل إصابات مختلفة موثقة بشكل رسمي منها (16) حالة سرطان بالثدي و) 60 (حالة ربو وأكثر من (100) حالة التهاب رئوي بالإضافة إلى إصابة (30) شابا بالعقم وتشوهاتعدة في المواليد الجدد".
وفيما لم يزد عدد معامل الطابوق الأهلية على أربعة في عام 1989 ينتشر اليوم أكثر من (40) معملا على بعد خمسة إلى ثمانية كلم في الأراضي المحيطة بقضاء الإصلاح.
يقول علي حسين ردّاد قائممقام قضاء الإصلاح أن نسبة حجم الإصابات المعلن عنها قليلة مقارنة بعدد المعامل التي تستخدم منظومة الحرق الآلي، ويضيف "بالنسبة للمحافظة على البيئة فان كفاءة المنظومة الإيرانية لا تتخطى نسبة (35) بالمئة كما أن التنافس بين مشغلي المعامل على سد الطلب يدفعهم للعمل ليلا حتى الفجر باستخدام آليات الحرق القديمة ما يزيد من نسب الدخان ونسب الإصابات".
و يبلغ سكان قضاء الإصلاح حوالي (50) ألف نسمة وقد حدثت إصابات سرطانية مختلفة لم يتم حصرها من قبل الجهات الصحية حتى اللحظة.
كما أن (3000) دونم من الأراضي الزراعية يغطيها اللون الأسود إضافة إلى زيادة الأملاح بالتربة نتيجة تساقط كميات كبيرة من كريات الكاربون المتطايرة من دخان المعامل، ما أثر سلباً على محاصيل الحنطة والشعير شتاءً والذرة والدخن والخضار صيفاً.
بينما انخفضت أسعار الأبقار والماعز والأغنام والجاموس بنسبة (90 بالمئة) عن مثيلاتها بالمناطق الأخرى بسبب الأمراض التي تتعرض لها.
ومع أن محسن عزيز مدير دائرة البيئة في المحافظة يتحدث عن "عقوبات تضمنت قطع الحصة النفطية عن تسعة معامل لم تلتزم بالتعليمات كما فرضت غرامات مالية تراوحت بين ثلاثة إلى خمسة ملايين دينار".
لكنه يعترف بأن مشكلة معامل الطابوق من ابرز التحديات البيئية التي تواجه المحافظة وهو يبيّن ذلك لنقاش "هناك (107) معمل للطابوق أغلبها حاصل على تصاريح رسمية وهي تنتشر في عموم المحافظة بينها (40) معملا في قضاء الإصلاح وحده، وهي تبعث بالغازات السامة بشكل كثيف جدا ما يضر بصحة السكان".
ومع عدم كشف دائرة صحة ذي قار عن الأرقام الحقيقية للإصابات جراء التعليمات الوزارية التي تحظر إعطاء أي بيانات إلا بموافقتها، فأن الدكتور حيدر علي مدير الصحة يزعم عدم تسجل أي زيادة في نسبة الإصابات التنفسية أو السرطانية بسبب التلوث الناجم عن معامل الطابوق.
في حين يصف قائممقام القضاء الإصابات الرئوية التي سجلت بين الأطفال (بالمستعصية) إذ يُستغل الأطفال كعمالة رخيصة في تلك المعامل البدائية غير أن عائلاتهم تلتزم الصمت خشية من طردهم وبالتالي فقدان مصدر عيشهم.
وسبق لدائرة بيئة المحافظة والدوائر الساندة أن أغلقت عشرة معامل لعدم اعتمادها المعايير البيئية في استخدام منظومات الحرق الآلي إلا أن اغلبها ما زال يمارس عمله لعدم وجود الرقابة عليها وهو ما يعرض القضاء إلى تلوث بيئي كبير، فيما طالب الأهالي خلال تظاهراتهم بسرعة معالجة المشكلة.
غير أن هذه المطالب مازالت تنتظر التنفيذ منذ فترة طويلة. ويعد داخل راضي عضو مجلس محافظة ذي قار بتحريك ملف المشكلة بعد طرحه على طاولة اجتماعات مجلس المحافظة حال استكمال جميع المتطلبات الفنية والإدارية والقانونية، كما يقول، لكنه يعلم أن الخلافات السياسية قد تحول دون تحقيق ذلك. |