لعلي كنتُ من أصغر شعراء جيلي سناً عندما قرأتُ للمرة الأولى في أمسيات اتحاد الأدباء الأربعائية الشهيرة منتصف السبعينيات. في بداية السبعينيات في بغداد وجدت نفسي متورِّطاً بالشعر، ولمّا أبلغ بعد العشرينيات من عمري. يومها شعرت «بالأريحيّة» ــ كما قد يقول الجاحظ ــ لسماع هذا التوتر الداخليّ الذي ينفجر فيك عندما تسمع قصيدة جميلة.
كان العراق في تلك السنوات يشهد هدوءاً مخادعاً على المستويات كلها، لكنه هدوء يقود الشعر إلى مناطقه. أتذكر أن «ثانوية قتيبة للبنين» التي تلقيتُ فيها تعليمي، كانت مختبراً أولياً لثلة ممن سيصير بعضهم جيلي، وأتذكر أن متنزهات أبي نواس ستصير موطناً للقاءات شعرية وقصصية لأهم أصوات هذا الجيل. لقد طلعنا من المدن الشعبية: «مدينة الثورة» و«بغداد الجديدة» الضاربتين في ميثولوجيا الجنوب العراقيّ، ومن ذلك الهدوء السياسي المُراوغ الذي سيقسم البلد ويشطره، وللأسف، دون ذرة من الرحمة. في بداياتنا، كنا نكتب قصائد حب، ونصوصاً «للعصافير الملوثة المناقير بتراب الوطن»، كنا «نلهو مع الهواء المتغلغل بقمصاننا» ولكننا أدركنا فجأة وجود مسارات أخرى كانت تشق طريقها في ثنايا الثقافة العراقية، وأنها قد وصلت إلى الوسط الشعري نفسه في نهاية المطاف، وليس إلى شعرنا كما أراد البعض القول بشكل مريب. مسارات متجهِّمة وليست من ذات الطبيعة الحلمية البريئة واللصيقة بكل بداية. عندما نشرتُ مجموعتي الأولى «أصابع الحجر» عام 1976، كان الحلم ــ ولا أحب بالضرورة رومانسية هذه المفردة ــ قد بدأ يعاني شروخاً قادمة من تغلغل قسريّ لـ«اللاشعري» في «الشعريّ»، سوى أن المجموعة تحتفظ بجموح البدايات وخفتها وعفويتها، وسوف أدخلها في أعمالي الكاملة لو قُدِّر لي إصدارها. لم أكن مقلداً، على ما يبدو، لأيٍّ من الشعراء الذين كانوا يتصدّرون المشهد الشعريّ العراقيّ والعربي. لقد مرّت المجموعة مرور الكرام بسبب نبرةٍ، لا أدري كيف أصفها، لعلها ستصير نبرتي، الأمر الذي جعل غالبية الوسط الأدبيّ يرتاب من رنين عناوين فيها، من قبيل: «قصيدة إلى اللون الأصفر»، «كتاب الأنهار»، «مساء الخمور»، «قصيدة إلى التاريخ»، «أغنية الشعراء الصعاليك». لم تُقرأ المجموعة كما يجدر أن تُقرأ مجموعة أولى لشاب في العشرين، كأن الزمن لم يكن لائقاً بروحها المارق عن السياسيّ والأيديولوجيّ حتى إن ناقداً، سامي محمد، كتب عنها عرضاً قاسياً لمجلة «الأديب المعاصر»، متهماً إياها «بضعف عمودها الفقريّ». كان التعبير يعني يومها أنها لم تكن تلتزم بالنبرة السائدة في الشعر العراقيّ ذلك الحين: السياسة والاجتماع. هذا أمر يمكن تلمّسه بوضوح ساطع عند قراءة المجموعة، حتى وإنْ ظل الوسط الأدبيّ ــ وهو وسط قائم في العراق أكثر من غيره على الشائعة والتقوّل والزعم الواثق وليس القراءة الجادّة بالضرورة ــ يموضعني حتى وقت متأخر في «طرفة الأيديولوجيا» لأنني كنت قريباً من أوساط اليسار العراقيّ. والحقيقة أن هذا النقد العراقيّ (وليس العربيّ) المعنيّ بالمجموعة يومذاك لم يتوقف للحظة قصيرة واحدة أمامها، وما زال مُصراً على بداهاته التبسيطية وثقته المفرطة بنفسه التي هي رديف خفيّ لضعفه الجارح.
ولفهم سبب فشل هذا النقد في قراءة تلك الفترة، أو قراءته لها بعين أحادية، يجب إدراك فشله في إدراك أن الفترة السبعينية، وليس ما يُسمى جيل السبعينيات ــ لأنني أرفض التقسيم العشري بإصرار ــ شكلت مرحلة جذرية في العالم العربي ثقافياً وإنسانياً وسياسيا وشعرياً، لأسباب لم نتوقف عن تعدادها: الحرب الأهلية اللبنانية وحرب أيلول في الأردن وذهاب السادات لمصافحة الإسرائيليين وصعود حزبين قوميين في العراق وسوريا والطفرة البترودولارية وانحطاط المنظومة الاشتراكية الواضح وصعود الأصوليات الدينية وتوقف العالم العربي عن النمو وانحساره الروحانيّ... الخ. مرحلة هامة وخطيرة ألقت بظلالها على الكتابة الشعرية، لذا فهي تمثل تخالفاً بين الروّاد والتيارات الأخرى النضرة الموجودة في أجواء التغيرات التي عددناها للتو. كنتُ ملتصقاً، بالمعنى الحرفيّ للكلمة، بأرومة الأجيال الأصغر مني سناً رغماً عني، وهو ما ستشهد عليه مراسلاتي ومكاتباتي معها، وقبل ذلك قراءتنا المتبادَلة وتفهّمنا بعضنا لبعض، وربما سأبقى مراهقاً أزلياً في الكتابة الشعرية إذا ما أفاد ذلك معنى الرجفة المتجددة لأشياء العالم. ألاحظ هنا أن التقسيم العشري ثابت ومُلِحّ في بلدين عربيين بشكل خاص هما مصر والعراق، الأمر الذي يدل على وطأة القيم الاجتماعية الموروثة، وقدرة فكرة العائلة (العيلة) على إنتاج نفسها، حيث لم تزل البنية الأقوى في هذين البلدين العريقين. كان السياق الموصوف يُوحي بأن كل شاعر طالع في هذا الزمن موصول نهائياً بهموم السياسة وموصوم بالأيديولوجيا العمياء، بل لم يكن مقبولاً منه في العراق أن يمرق عن تلك الهموم حتى إنّي، الشاب الوثّاب، يوم نشرت قصيدتي الطويلة الغزلية «آه… أيتها الطفلةُ السماويّة» على صفحة كاملة في جريدة «الفكر الجديد» الأسبوعية عام 1975، التقى بي في مساء اليوم نفسه، في اتحاد الأدباء العراقيين أحد الشعراء الملتزمين المسؤولين، ووبّخني على كتابة شعر غزليّ في «تلك الشروط»، منتقداً الجريدة أنها تكرّس لمثلي صفحة كاملة. في الحياة الواقعية كنتُ متمرّداً، أقرب إلى روح الصعلوك بالمعنى الإيجابيّ ــ وليس المتفلّت أخلاقياً ــ مما إلى روح المتزمت، حتى إن من يود توجيه ملاحظات لي بعد وقت طويل من ذلك يستطيع، بشكل متناقض، أن يتهمني إما بالالتزام أو بالصعلكة، حسب مزاجه ونياته. يومها، كان من ينقد سياسة التحالف مع «حزب البعث» العراقيّ يتهم بهذه المفردة العجيبة: «مُتطيِّر». كنتُ متطيِّراً وفق التهم التي قيلت لي صراحة. وصراحة كتبتُ قصيدة، نشرتها في جريدة «طريق الشعب» أقول فيها: «وروحك مُسْتَوْفزَة/ كلما لامستْ برَّها تستطيرْ». طُبعتِ المجموعة الأولى على نفقة والدي الذي كان من أكبر مشجّعيّ، في مطبعة الجمهورية الصغيرة الخاصّة. ولأجل ذلك لجأتُ إلى أصدقاء مثل الرسام قاسم الساعدي ويوسف الناصر. رسم لي الأخير غلافها بالأسود والأبيض، وقدّم الناصر بعض المقترحات لخطوط عربية لعنوانها. سيرسل لي بعد عقود من الزمن، من البصرة، أحد نماذجها التي لم نستخدمها قط. عندما وصلت إلى بيروت سنة 1980، كنت أكتبُ القصيدة الموزونة بعد، وكنت قد كتبت في بغداد قصائد رثائية لعلها كانت تهجس ما سيحدث: كنت أنظر إلى المشهد بعينٍ متوحشة لعلها ترى ما لم يرغب المقيمون في المكان رؤيته. تلك القصائد حملت عناوين رمزية مثل «رثاء أور» كُتبت إحداها في بغداد التي لم يكن على المرء أن يبوح فيها بما في نفسه علناً، وأن يرمّز بالأحرى لما يجب قوله. جنب «رثاء أور» و«مرثية أخرى لأور» هنالك نصوص طويلة موزونة في مجموعتي «نص النصوص الثلاثة» التي صدرت في بيروت سنة 1982 عن تلك الدار التي كان الجميع يحلم حينها بالطباعة لديها: «دار العودة». كما أنها احتوت على نص طويل بالعنوان نفسه الذي تحمله المجموعة. كان نصاً نثرياً مكتوباً سنة 1981. هذا النص غيّرَ، منذ تلك السنة بالضبط، مجرى الكتابة عندي، حيث كنت أتجه باقتناع كامل إلى ما نسميه اليوم ببعض الخفّة «قصيدة النثر». في النثر، كنت أزعم مثل غيري الإمساك بالعصي، جوهر الشعريّ، روحه وخلاصته، أثيريته وكثافته، ولعل هذه كلها تسميات أخرى «للاستعارة» التي أرى من جهة أخرى أنها خلاصة «للشعرية». أظن أن للشاعر الحق باستخدام جميع التقنيات التي تتيح له الوصول إلى هدفه، أي كتابة «نص شعري» متماسك ومقنع ويحترم هواجسه الداخلية. ليس ثمة من تصالح أساليب، ولا غرض آخر غير الغرض الشعري. ما الخلل في التصالح مع القصيدة العربية التقليدية؟ هذا السؤال يظل من طبيعة شكلانية، إذا لم تقرأ النصوص بطريقة غير شكلانية. لمّا أزل، مثلما قد يلاحظ قارئ منصف، محتفظاً بهواجسي المعروفة منذ «نص النصوص الثلاثة» الصادر سنة 1982. ما قد يكون تغيَّر في أعمالي هو المضي نحو حقول جديدة تجريبية من أجل اللقاء بالنبع الشعريّ. اليوم، أكتشف أن «أصابع الحجر» لم تمرّ تماماً مرور الكرام، فقد عُثر في شارع المتنبي على نسخة منها كانت مُهداة للشاعر فوزي كريم الذي أعتبره من الأصوات المؤثرة على حلقة ضيّقة شخصية من الشعراء، أنا من بينهم، وعلى هذه النسخة ــ التي هي بحوزة زعيم النصّار الآن ــ مجموعة من الملاحظات النقدية بخط يده. لم يُنجز فوزي قط مقالته عنها لسوء الحظ. |