ليس سهلاً إجراء حوار عادي مع شخصية غير عادية مثل الشاعر والكاتب العراقي خالد مطلك. من يعرفهُ عن كثب سيتوقع حتماً أن أي حوار سيأخذ مجرى آخر غير المخطط لهُ. خالد مطلك شاعر وروائي ولد ونشأ ودرس في بغداد ثم انتقل للعيش خارج العراق في منتصف التسعينات. كان مطلك من الكتاب المؤثرين في الوسط الأدبي نهاية الثمانينات وبدايات التسعينات، خصوصاً بين الكتّاب من الجيل الشاب وقتذاك. رغم أنهُ عُرف كشاعر لكنهُ لم يصدر أية مجموعة شعرية وكان أول اصدار لهُ مسرحية بعنوان "جزرة وسطية" العام 1995 ثم تبعها برواية "بيضة هولاكو" العام 1996. انقطع عن النشر سنوات عديدة حتى عاد في السنتين الأخيرتين باصدارين مهمين عن جماليات الفن وصناعتهِ، وهما كتاب "مدينة كاووش" عن أعمال الفنان التشكيلي العراقي ستار كاووش 2014، وأخيراً الكتاب الفريد من نوعهِ "الحقيبة النسائية"، كما لهُ كتاب تحت الطبع عن "السجادة الحمراء والهوت كوتور" (السجادة الحمراء والخياطة الرفيعة).
يعتبر كتاب "الحقيبة النسائية"، الذي ستصدر له الترجمة الإنكليزية قريباً، مرجعاً تاريخياً وجمالياً عن صناعة في غاية الجمال والدقة، أضفت الكثير من الأسرار والغموض والتفاصيل الحيوية على حياة ونسق الأنثى. حيث صارت الحقيبة جزءاً هاماً من مظهرها وشخصيتها ومزاجها وربما حتى خططها للمستقبل. تناول مطلك في كتابه بعين المتفحص والمُثمّن للجمال بلغة لم تخلُ من الشاعرية والألفة الموجهة للقارئ. لا يشدك فقط بأسلوبه السلس والمغري لمكامن الجمال في القطعة الفنية، بل يجعلك تدور معهُ في فلك التواريخ وتتعقب القصص خلف تفاصيل مخفية في قطعة جلد ملونة. تكاد تتنفس وتنطق وكأنها قطعة حية مرتبطة روحياً بجسد الجميلات. يستشف القارئ بعد عدة صفحات من الكتاب مدى ولع الكاتب بهذا الفن المتفرد. لهُ رؤية خاصة عن الشعر والرواية والكتابة الأدبية، ورؤيته هذه أزعجت الكثيرين من حولهِ عندما صرح في يوم من الأيام أن المغنية الأميركية الشهيرة "تايلور سويفت أهم من لوركا"! ولكن ما الذي يجعل من شاعر وروائي أن يهتم بهذا النوع من الكتابة ولماذا هذا التحول في اهتماماتهِ وأين الشعر والسرد في حياته حالياً؟ كل هذه الأسئلة يجيبنا عليها الشاعر والكاتب خالد مطلك..
* من أين بدأت فكرة كتاب "الحقيبة النسائية" وما كان حافزك الأول لتأليفهِ؟
- أنا من الكتّاب الذين يكتبون عن الأشياء التي يحبونها، ولديهم رغبة في مشاركة الآخرين لهم في هذا الحب. فكرة الكتاب قديمة نسبياً، كنتُ مولعاً بالحقائب النسائية، تلك الإضافة الثقافية التي احتكرتها المرأة بذكاء نادر، ولم يتوقف هذا الحب عند حدود عادية، بل أخذني إلى فضول مبالغ فيهِ، أصبحت مراقباً سرياً لحقائب النساء، ولطالما تعرضتُ لإحراجات بسبب هذا الفضول. في مرة من المرات وأنا اشتري حقيبة من ماركة مايكل كورس، كنت أتناقش مع مديرة المبيعات عن الموديلات الأخيرة وتأثرها بماركة "سيلين" الفرنسية. نصحتني هذه السيدة بكتابة مقال عن هذه المقارنة المدهشة، على حد تعبيرها، وبعد دقائق كنت أتجول في محلات غوتشي، وجرى حوار جديد مع بائعة حسناء، أصرت على أنني لست متبضعاً عابراً، كانت تعتقد أنني مصمم حقائب لإحدى الماركات. خرجت من هناك وقررتُ أن أكتب كتاباً.
* تؤكد في المقدمة أن الكتاب يختلف عن باقي الكتب التي تناولت الموضوع نفسه، مع أن معظمها كتب أجنبية، وهذا يعني أن القارئ العربي لم يطلع على أغلبها، ما الذي يجعلك متأكداً من اختلاف كتابك عن البقية؟
- بحكم أنني أجريت مسحاً لتاريخ الحقيبة النسائية، فقد توجب عليّ الاطلاع على هذا التاريخ من مصادر أجنبية، لأننا في الواقع لا نكتب تاريخ الأشياء، نحن نهتم لتاريخ الحروب والغزوات. في خلال عملية البحث وجدت العشرات من الكتب الأجنبية، بعضها توقف عند تاريخ الحقيبة، والقليل جداً منها، كانت دراسات ثقافية (اجتماعية) مثل الدراسة التي أشرتُ إليها في الكتاب لعالم الاجتماع الفرنسي كوفمان. كانت دراسة ممتازة حقاً، لكنها توقفت عند ماركة واحدة هي "لوي فويتون". كتابي هذا، كتابٌ أصيل في مادتهِ وفكرتهِ، يمكنني أن اقول عنهُ: أنه كتاب تأسيسي في ثقافة الحقيبة وسيترجم قريبا إلى الإنكليزية، وسنرى عندها إن كان هناك من يجدُ لهُ مثيلاً في لغات أخرى.
* في بعض جوانب الكتاب نجد تفصيلات عن صفات الحقيبة، تكاد تكون قريبة من تفصيلات "إعلان تجاري"، من حيث اشارتك للحجم والراحة في استخدامها، هل خطر في بالك أنه ربما يُحسب كتابك كنوع من الدعاية لهذه الماركات؟
- لا، لم أفكر في ذلك، كنت أمارس قراءة شكلية، تماماً كما اقرأ لوحة تشكيلية أو حتى طراز معماري في بناية أحببتها. والحقيبة هي بمعنى من المعاني واقعة فنية ذات خصائص شكلية ووظيفية. لا أخشى أن يُعدّ كتابي اعلاناً تجارياً، فأنا جمعتُ فيه كل الماركات المتنافسة في السوق، واخترت أجملها بالنسبة لذائقتي الشخصية. واذا كان هذا سيساعدكِ على اختيار حقيبتك الشخصية كسيدة، ساكون مسروراً لذلك. لأنك بهذا ستوسعين فسحة الجمال أيضا.
* من يعرفك ويتابعك مؤخراً يدركُ أنك تؤمن بمحاربة العنف والقبح، بالجمال، وهذا ما تفعله من خلال عملك، برصد جماليات الفن والأدب، ألا تجد هذا مفهوماً رومانسياً جداً مقارنة بالواقع الذي نعيشه؟
- ليس عليّ أن أسمح للواقع التعيس أن يجعلني تعيساً. لدي حياتي الخاصة التي أحاول أن أعيشها بأعلى قدر ممكن من الصحة الروحية والعقلية، والجمال يساعدني في ذلك حتماً. لستُ ملزماً بالانخراط في حفلات الجنون الجماعي، التي يندفع إليها الآخرون بلذة مَرَضية (ضعي لها تصنيفاً من قاموس علم النفس كما يعجبك). أنا أبحث عن حياة أكثر وفرة، حياة جميلة وهذا هو كل شيء. لا أحب دور غاندي ولا الأم تيريزا ولا حتى غيفارا، هؤلاء- من وجهة نظري - شخصيات مريضة بمعنى من المعاني. الحياة جميلة يا صديقتي، فيها الكثير من الحقائب الملونة، هل شاهدتِ آخر إصدارات ماركة فالنتينو؟ أعتقد أنك ستحبينها.
* عشتَ في العراق سنوات الحرب والحصار، وانتقلت بعدها للإقامة في بلدان عربية، ثم أوروبية، ما التغيير المهم الذي أحدثهُ هذا التنقل في حياتك؟
- تغيرت كثيراً بالطبع، تغيرت حياتي بشكل دراماتيكي عندما وضعت فتاة رومانية يدها عند خاصرتي واخذتني في جولة، لقد بكيت لحظتها. شعرتُ بخيبتي كيف أنني أضعت حياتي دون أن أحصل على هذه الكمية المبالغ بها من الحنان. لقد رمتني تلك الصبية في عمق الحياة، لقد أزاحت عن ذاكرتي ذلك الحنان المبتذل الذي غمرتني به الحياة في بلدي، وهذه من أفضال الغربة عليّ.
* كثيرون من جيلك ممن بدأوا بقوة ابداعياً، اختفوا عن الساحة، أو أنهم لم يطوروا أنفسهم، أنت توقفت سنوات طويلة، لكنكَ عدت بمشاريع غير أدبية مختلفة، هل هذه اشارة إلى أن "الأدب الإبداعي" لم يعد يشبع تطلعك في الكتابة أم أن هناك سبباً آخر؟
- توقفتُ للقراءة والانكشاف على ذاتي بشكل حقيقي، وكذلك لعيش الحياة على نحو مختلف. عشتُ جيدًا وأنا راضٍ حتى اللحظة عن حياتي. لدي أشياء مهمة افعلها في حياتي، في الأسبوع المقبل مثلاً، لدي موعد مع شخصية فريدة من نوعها، شخصية ملهمة وأنا استعد لذلك اللقاء منذ الآن. لستُ معنياً بشكلٍ جدّي بماذا يخطط أصدقائي، هذا شأنهم. ما يهمني هو مطاردة الجمال حتى في وقع حذاء بكعب عالٍ ماركة "لابوتين"، هذه الماركة الأسطورية التي جعلت عصرنا أكثر أنوثة ورقة. أعتقد أن الأدب الإبداعي كما تسمينه، هو أدب بقواعد وأطر وتجنيسات صارمة لم أعاهد أحداً على الإلتزام بها. أنا اكتب، وكما قلتُ سابقاً عن الأشياء التي أحبها. قد أصادف الأدب الإبداعي في هذه الكتابة وقد ابتعد عنه.
* عُرِفتَ في الوسط كشاعر، لكنك لم تنشر مجموعة شعرية واحدة، وكان أول كتبكَ مسرحية ثم رواية، ما السبب في ذلك؟
- كنت أطرح في بداية تجربتي الشعرية مفهوم القصيدة الصحافية. تلك التي تعيش يوماً واحداً فقط. ثم يرتبط مصيرها مع ورق الصحيفة التي استقبلتها، مرة تفرش كمائدة على الأرض، ومرة تستخدم لمسح زجاج النوافذ. لماذا أسجنها في كتاب تقرأه مجموعة من أصدقائي ثم يرمى على رصيف شارع المتنبي ذليلاً يثير الشفقة. ذهب مفهوم القصيدة الصحافية وحلّت محله قصيدة التايم لاين، حيث ننشر قصائدنا ليذكرنا بها فايسبوك بعد عام. من هنا كان عزوفي عن طبع مجموعة شعرية. الشعرُ لم يعد أمراً مهماً، وحدهم الشعراء يخترعون للشعر قيمة. قلتُ ذات مرة أن تايلور سويفت تكتب أغانيها بنفسها ولديها مئات الملايين الذي يحفظون كلمات أغانيها. هي الآن أهم من أفروديت وفينوس وعشتار في ازمانهنّ. جمهورها يسمونها المعبودة... ويطلقون على أنفسهم الـ"سويفتي" نسبة الى اسمها، هي آلهة جديدة وربة من ربات الشعر. لماذا نرمي في طريقها قصائدنا فقيرة الدم؟!
* تتابع المشهد الثقافي والأدبي في العراق، وكنتَ نشطاً في ما مضي في الوسط، هل المشهد بالنسبة لك في تراجع أم تقدم ولماذا؟ وهل من أسماء بعينها تعول عليها في المضي قُدماً بالمشهد الأدبي؟
- بعد هذا العمر، وهذه التجربة، صرتُ أرى الأشياء بوضوح أكبر. راجعتُ مع نفسي الكثير من المفاهيم التي لا تتطابق مع مدلولاتها في الواقع. الشعر العراقي، الثقافة العراقية، المشهد الادبي، هذه مصطلحات ليست ذات معنى في الحقيقة. هذه من أساطير المقاهي. تعالي نحذف أنا وأنت كل جيل السبعينات مثلاً من هذا "المشهد"، ما الذي سيحدث؟ لا شيء، صدقيني لا شيء. أنا اهتم بما أكتب، وعندما اقرأ لأحدهم، اقرأ لهُ بمعزل عن مكانه في الخرائط الوهمية.
* بعد الكتب "التحقيقية"، إن صحت التسمية، عن الفن والصناعات الجمالية، هل تنوي التوجه لهذا النوع من الكتابة دون الشِعر والسرد؟
- سأكتب ما يجعلني مسروراً، سأواصل الكتابة عن الأشياء التي أحبها. سأقاوم الرتابة بالاقتراب من أكثر المنتجات الثقافية لعصرنا. الأزياء والعطور والسيارات وتطبيقات الهواتف الذكية وهكذا.
* لو فكرتَ بشراء حقيبة لحبيبتك، أي ماركة من الماركات المذكورة في كتابك ستختار لها؟
- "ديور - ديورسيميو" 2014 ، لونها كريمي من الخارج ومن الداخل مبطنة بالوردي وبسلسة ذهبية، هذه ليست حقيبة، إنها ليلة حب.
عن "المدن" |