هكذا اذن.. فبعد ما يقارب السنتين من التهجير والتشريد المستمر من بيوتنا ومدننا التي تركناها رغما عنا, تلوح في الافق تباشير العودة... ياه يبدو ان الدنيا تحمل في جعبتها اخبارا طيبة للأنباريين هذه المرة, فبعد ما يقارب السنتين من التهجير وقبلها سنة من الاعتصام المتواصل على جادة الطريق السريع الممتد على جسد المدينة غربا حتى بلاد الشام وشرقا حتى بلد الرشيد وعاصمة العباسيين بغداد: بعد كل ذلك يبدو ان الحظ والمقادير ابتسما لنا لتنهار بقدرة قادر خطوط صد داعش، ولتمنح قوات التحالف الدولي الثقة الكاملة للجيش العراقي مدعوما بأبناء العشائر في امكانية تحريره لمدينة الرمادي، وهي التي - اقصد قوات التحالف - كانت قبل اشهر معدودة تتهم الجيش بعدم كفاية جاهزيته وقدرته الميدانية على تحرير الرمادي...
أتذكر الان كل مشاهد التهجير وكل تفاصيله منذ خروجنا من بيوتنا تحت القصف ومناظر القتل والدمار تحيط بنا من كل جانب، واتذكر مشهد العبور المذل على بزيبز، ذلك المشهد الذي زرع في ضمائرنا أقسى أنواع الذكريات عن وطن يرفض استقبال أبنائه المروعين من مشاهد القتل، ومن الة الحرب الفتاكة التي ظلت تفتك بهم طوال سنة ونصف، لم يفكروا خلالها في الخروج من بيوتهم على الرغم من مرور الموت صبيحة كل يوم من امام اعينهم يتبختر ويأخذ ما يشتهي ويغيب, لم يخرجوا من منازلهم على الرغم من القصف الليلي والموت المحتمل في اية لحظة؛ لانهم يعلمون ان ليس لهم الا مدنهم التي تشبه كرامتهم تلك التي اريقت ويا للأسف، على معبر بزيبز. ما زلت اذكر حينما قال عنا السيد رئيس الوزراء العبادي "انني مستغرب من خروج اهل الرمادي غير المبرر من منازلهم" ويعلم الله لو احد غيرنا كان هناك لما أطاق المكوث بها أكثر مما اطقنا - ولا ازايد على احد -.., استغرب السيد رئيس الوزراء من خروج أهل الرمادي برجالها ونسائها وشيبها وشبابها واطفالها بعد سنة ونصف من القتال بالأسلحة الخفيفة "الكلاشنكوف"، ثم رجع بعد اشهر ليكتشف ان قادة في الجيش كانوا هم المسؤولين عن سقوط الرمادي بقصد، او غير قصد، ولم يكن المسؤول عن سقوط المدينة اهلها الخارجون عنها بالرغم عنهم. ما زلت اذكر كيف دخلت بغداد نازحاً وكانه اليوم, ما زلت اذكر كيف نزحت من الرمادي عابرا المعبر الشهير ومتذوقا طعم النزوح، لأول مرة، كان يشبه العلقم المر.. فالإحساس بالاختلاف بين المكانين: مكان نزحنا منه ومكان نزحنا اليه كان احساسا غريبا ومليئا بالضياع على الرغم من اني درست في بغداد واعرفها جيدا. يهاجمني بائع الخضار بعينيه المتفحصتين وأسئلته المشككة بأجوبتي حتى قبل نطقي بها: لماذا هربتم من الرمادي؟ لماذا لم تحاربوا داعش؟ انتم من ادخل داعش والاولى بكم البقاء في الرمادي وقتالهم.. أجيب على أسئلة الرجل كمن يحاول ان يخرج من موقف محرج حتى ادفع له قيمة ما أخذت من خضار وأسير...هل كان يجدر بي ان أجيب بائع الخضار المسكين بما اعرفه حقا؟ هل كان سيقتنع اذا قلت له ان الرمادي يوم ان قرر المالكي فض اعتصامها بالقوة كانت محاصرة من جميع الجهات، ولم يكن داخلها ولا داعشي واحد؟ صحيح حينما فض المالكي الاعتصام بقوة المدفع خرج الكثير من الأهالي الغاضبين رافضين لهذا التصرف الذي لا يليق بدولة اذ ان حرية التظاهر مكفولة بالدستور، والتظاهرات كانت لم تخرج عن سلميتها حتى ذلك الحين... صحيح ان الأهالي خرجوا ولكنهم لم يستطيعوا الصمود أمام الجيش بعدته العسكرية فرجع الناس إلى بيوتهم بعد ان سقط قتلى وجرحى من جراء تلك الاشتباكات ذلك اليوم... وما ان اصبح الصبح حتى تفاجأ اهل الرمادي بالجيش منسحباً تاركاً المدينة لأولئك الراكبين "الدوسريات" والمغبرين بالتراب الأصفر من رؤوسهم حتى اخامص اقدامهم, من اين جاء هؤلاء؟ كيف دخلوا الرمادي وكانت محاصرة؟ انا لم اكن اعلم ولا اهالي الرمادي البسطاء كانوا يعلمون.. في الطريق الى البيت كنت أفكر حينما سألني بائع الخضار لماذا لم تقاتلوا داعش, هل كان سيقتنع حينما اقول له ان داعش قوة عسكرية مدججة بالسلاح الخفيف والمتوسط، ومزودة بأحدث الاسلحة الاوتوماتيكية من احاديات ومقاومات طائرات وهاونات وراجمات وغيرها؟ هل كان يمكن لي انا، ابن الرمادي المدني، ان اقف بوجه داعش واقاتلهم وانا الاعزل؟ لكم كنت تمنيت لو قلت له ان الموضوع كان مخططا له بشكل دقيق, حتى لحظة دخول داعش كان مخططا لها ولكني لم اقل ذلك؛ اذ كيف لي ان اعرف على وجه الدقة ان الموضوع كان مخططا له؟ ومن سوف اتهم حينها ان طالبني بائع الخضار بأسماء؟ ذلك عرس حضرته ولكني لا اجيب... كانت القوات الأمنية في مركز الرمادي قد تمكنت من هيكلة نفسها بعد ذلك الانهيار الشامل في جميع مؤسسات الدولة الأمنية منها والخدمية، وخصوصا بعد ان اعلن احمد او ريشة اعادة احياء قوات الصحوة ليتمكن من اخذ ثأر اخيه المرحوم عبد الستار ابو ريشة وثأر جميع المغدورين والمظلومين من اهالي مدينة الرمادي كما يدعي. كان احمد ابو ريشة طالب المدنيين من اهالي مدينة الرمادي بالالتزام بالبقاء داخل البيوت، وانه قمين بحل هذا الخرق الامني، وجز رؤوس القاعدة والتنظيمات الارهابية الاخرى, وعلى الرغم من السقوط الدرامي والمريب لعدة أحياء في الرمادي المركز إلا ان الجيش والقوات الامنية ظلوا صامدين في الأحياء الأخرى وظلت الرمادي بشكلها الرسمي ومجمعها الحكومي وعدة أحياء اخرى امنة نسبيا بعد ان اقيمت السواتر الترابية داخل الأحياء السكنية والشوارع الرئيسة. لقد ظلت الرمادي تقاتل لأكثر من سنة ونصف وظلت الدوائر الحكومية والمدارس والجامعة بمقرها البديل داخل الولاية تزاول عملها بصورة تسمح بها ظروف الحرب طبعا،ً فلماذا لم تحفظ لنا يا بائع الخضار هذه الوقفة؟ وبمجرد ان سقطت الرمادي - وكانت طيلة السنة والنصف على وشك - تم كيل التهم بالعمالة والخيانة وانعدام الوطنية لأهالي الرمادي بشكل عام؟ انا أخاطب العراقيين ولا أخاطب الحكومة, الوم العراقيين ولا الوم الحكومة. حينما اندلعت التظاهرات في الرمادي وتحولت بعد ذلك الى اعتصامات مفتوحة, انقسم العراقيون ازاءها قسمين: قسم يمثل النخب المثقفة التي استسلمت للإشاعات القائلة بعودة البعث من خلال التظاهرات, وقسم اخر كان قد استسلم لقصة جماعة يزيد ومعاوية تلك القصة التي عملت على بثها الحكومة آنذاك ممثلة برئيسها المالكي وتصريحه الشهير بان المعركة بين جيش يزيد وجيش الحسين عليه السلام. هل اذهب ابعد من ذلك حينما أقول ان بعضهم كان قد استسلم لإشاعة خروج السفياني من اعتصامات الانبار؟ لم يفهمنا احد اللهم الا النزر اليسير الذي تعاطف وأخفى تعاطفه بين جناحيه خوفا على نفسه من البطش.. اتساءل الان: هل كان العراقيون يعلمون ان ساحة الاعتصام في الرمادي ظلت طوال سنة كاملة ترفض الدعوة للأقاليم، وان الذي يرتقي المنصة ويطالب بالإقليم كان يرمى بقناني المياه الفارغة؟؟ وفي احدى المرات تطور الأمر عقب صلاة الجمعة الى تطاعن بالسكاكين بسبب من رفض عامة اهل الانبار لفكرة الاقليم؟ اما الان فتكفي نظرة واحدة على صفحات الأنباريين على الفيس ومواقع التواصل الاجتماعي لكي تترك الانطباع الواضح لمن يرى بعينين. لقد تم تشويهنا بوضوح وتعمد ايها السادة.. لقد شوهتنا الدعايات والإشاعات والماكنات الإعلامية التي كان يقف وراءها المغرضون.. لقد تم تشويه صورة الانباري الكريم التي لم يكن له صفة يفاخر بها أفضل منها لتحل بدلا منها صورة الانباري الداعشي الارهابي، الذي يريد احتلال النجف وكربلاء وكأن الامام عليا ليس سيدنا نحن ايضا وكأن الامام الحسين ليس سيدنا وتاج رؤوسنا نحن ايضا! نحن لا نحب داعش لأننا وببساطة مهجرون، نازحون، والكثير منا مطلوب لدى داعش ولو كنا مؤيدين لداعش لذهبنا لنكثر سواده هناك, ونحن لم ندخل بغداد لنسقطها من الداخل كما صرح ذلك السياسي الحاذق جدا حينما قال اخشى ان تكون خطة نزوح اهل الانبار الى بغداد بمثابة حصان طروادة, ونحن نحب اهل البيت وليذهب المدققون الى سجلات نفوس اهل الانبار ليعرفوا كم عليا في كل بيت انباري وكم حسنا وكم حسينا؟ او بالأحرى لماذا الذهاب الى سجلات النفوس اسألوا النازحين اسألوهم عن اسمائهم فهم عند اقرب مخيم بائس مزروع على كتفك يا بزيبز اسألوهم لتعرفوا اسماءهم على الاقل قبل ان تستسلموا للدعايات التي اكلت من جرفنا الكثير. واخيرا اقول ان الانبار على وشك التحرر وان اهلها عائدون اليها, وان تجربة النزوح اضافت الى خبرات العراقيين الكثير؛ فأهل الوسط والجنوب تعرفوا عن قرب على شخصية أهالي الانبار والانباريين، تعرفوا وخالطوا وصادقوا والكثير منهم اندمجوا في البيئة الجديدة ليكتشفوا ويكونوا انطباعاتهم، ولتكون الصورة اوضح بلا تشويش او تهويل... المهم الان هو اكتمال التحرير وتمكن العائلات من الرجوع الى بيوتهم وانهاء اكبر ازمة نزوح عرفها العراق منذ لحظة نشوئه والى اليوم. وفي اثناء ذلك اشكر كل من لم يتخل عن انسانيته ووقف الى جانب النازحين, اشكر جيراني الجدد الذين ما قصروا في شيء من فراش واغطية ووجبات طعام حتى اني لأخجل من كرمهم اي والله, واشكر الحاج ابو حسين بائع الخضار الذي اصبحنا انا واياه اصدقاء بعد ان عرفني جيداً وعرفته وكما ان الاخبار الطيبة تجلب معها مزاجا طيباً فقد قطعت له وعدا بان ادعوه ليأكل معي الكباب في مطعم حجي زياد وسط الرمادي، ووافق الرجل بما يمتلكه من طيبة قلب، داعيا ومبتهلا الى الله ان نرجع الى الديار عن قريب. |