أن أصنع سردا، علي أن أنصِّبُ نفسي هاربا دائميا، وأتمسك بكل ما يهتك هويتي، وأتسلل إلى فرح البصرة القديم، هناك سأشتبك بـ بمباسيي المكايد، وأتماهى مع ما يدور فيها من رقصات "الجنباسة، والانكروكا، والهيوه، والنوبان، على أنغام "الجيكانكا"، وموسيقى "الباتو"، ثم احتسي "طاسة بوزة"، لأثمل سريعا. تتصدَّع عزلتي فجأة فأغرق، لكم غرقت؟، مُذْ ذلك الزحف، وأنا أغرق في رقصات "الخشّابة والمحيبس والمرواس والاسمري والخماري". لوحة جذّابة من حركات الأيادي والسيقان، وسط دخان بخور "الجاوي" وعطر دهن "العود"، والأنغام الصادحة، والمتفرجين الذين أطلقوا عنان رغباتهم للرقص.. عرب ويهود وبلوش ومسيحيون وصابئة، قوس قزح جميل،..، تلك مسافة كافية للفرار في "مكايد" تُعْرَف رقصاتها من لون "الشنيّر"، أعلامها المرفرفة منذ الفجر، ومن أسمائها الغريبة:"ساحة باريس وسعدية الدلاكة وسنجان وياروت وعتيكة وريحانة ووو...".. "البصرةُ أم "الكِيف". سأحتاج الى ثلاثية كانط لأتحمل مشقات سرد البصرة القديم: سأحتاج الى أمل ونوم وضحك. الحواس تخدع يا ديكارت من آن لآخر، ومن الحكمة ألا أثق بما يخدعني، ولكن أسرتني دورانات مسحورة، وقفزات متتالية صادمة، طافت بي حول "مكايد" الرقص، توقفتْ فيها الدحرجة لبرهة، فنهشني انبهار ما أرى وأسمع وأشم، هل هذه هي البصرة التي ضيَّعتني!؟ تفتحتْ في لمعان تلك الرجَّة جواهرٌ مغرية، وأسرني، أنا الخائف الهارب، غزل رجّاج، نفض كل الجمودات المتهرئة، وصنع متاهات كافية للفرار، ثم طوَّقني بعطور البصرةِ كُلها، لم أعد أقدر البتة، أنا المستحم بكل هذه الغوايات أن أنجذب اليها بسهولة. كنت أعوم في مِنهول مستهلك، أعيش على تلك المساحة المغبرة الضيقة من الزجاج، تلك التي لا تطولها ماسحاتُ زجاج السيارات في تأرجحها المكوكي يميناً وشمالاً. وبينما كانت تتوالى الاهتزازات التاريخية من حولي، مضيتُ بخفة نحو أعراس البصرة القديمة، وجدت البصرة روايات، أبوابُ بيوتَها فصول، منازلها مقاطع، شوارعها أجزاء، وشطها قصيدة، لا ينفع مع البصرة الخيال المجنح، من يضنيه القلق وهو يقترب من أسرار هذه المدينة عليه أن يصبر، وأن يميل الى الحدس الخلاق، ليصرف من ذهنه "البرحي والبريم والگنطار والاشْرسي والمدگوگة والشعث"، وأسماك "البُني والگطان والگباب والصبور والكاري الهندي وحلاوة نهر خوز وتعتومة العصريات والشرجيه والباحوره"، ففي تلك اللحظة بالضبط، سيهتز في قلبه نوّاس البصرة الجبار، وهو يصنع بمكر وعناد ميقاتيات وأدوات خصيباوية جديدة لقياس غطرسة الزمن وصلفه، وسعة هالات غروره، ساعةُ نواسَه الجديدة ستتغنى بأحدث جملةٍ فيزيائيةٍ بصريةٍ خالدة، ذاتِ زمنٍ عراقيٍ خاصٍ بها، يسطع في مكونات المسرح الكوني، ثم تنأى ساعته بذاتها لأول مرة عن زمنِ جملة:"اخصيباوي من اللبه"، الزمن البصري هو أحد المُطْلَقات فعلا، هو محنة من أقدم الأحاجي، ووحدها البصرة من ستفسره لنا. ولكن كيف؟ يدخل محمد خضير الى منطقة الحلم فينحصر تصوره في طاقته الكبرى، وينغمر في الحرب الناعمة، ليتصدى بالإبداع القائم على الحلم لقمع السلطة وجبروتها، هكذا أنتج كراسته الكانونية. ثم تضيق البصرة باليوميات والمذكرات، فيلجأ محمود عبد الوهاب في رغوة سحابه الى صنع دليله بـنغمة "سـرد الهاتف"، استهلالات غرائبية تؤلف محكياته، وهي مكالمات ليل بصري. يختزل كاظم الحجاج ستة عقود بصرية كاملة بمفردةٍ واحدة لتبقى معروضة الى الغيب، فهو عمرٌ بصريٌ صائمٌ منذ ستين عاما، عمر لا يحتمل أي فتوى، كأنه موجود لذاته. ضياع "مهدي طه" البصري الأسمر هو صمت، صمتٌ يفتش عن كلمة، وهو شيء بلا أي شيء، إذن هو لعبة بصرية حقا. المدن تغير طباعها، نعم يا سهيل سامي نادر، وإذ لم تغيرها تخفيها أو تعطيها لوناً جديداً. لكن هذه المدينة أوقفت ساعتها وسط ظهيرة لافحة رطبة في زمن قديم جداً، إنها حتى إذا ما تغيرت تجد نفسها عائمة في أبخرتها ذات المذاق الحارق. إن كرمها يسيح مع الزمن، أبخرة لا تريم عن سماء المدينة، وحياة يومية تعاند الزمن وتطيح به عند العتبات. ها هو حسين الأسدي، يأتي مؤخرا فيصنع للكلام البصري جسدا، يتمدد على الشفاه لكنه بارد الأطراف، فيهزأ من حرارة لوعة المدينة. ان أقسى أنواع الضياع هو المقرون بهزائم، وما دمت أنهيت نصف قرن من الهزائم، فانَّ المزج بيني وبين ضياعي يغدو ممكنا، وإذا ما زعمت أن الرواية باتت تروي ما عجز عنه التاريخ، فمن الواضح أن هذا الناتج يرتبط بماهية التحديات النظرية والعملية بين الرواية والتاريخ، بين اشتغالهما بالوقائع الهامشية والشذرات والمخلوقات المنسية غير المعنية بصناعة التحولات الكبرى، بين القامع السلطوي والمقموع المهمش، بين سيّر الملوك الغازين وبين هذا الناتج الاجتماعي المسحوق والضائع والمهزوم دائما. نعم، دفعني بقوة مؤثر كتابة رواية مغايرة، والخوض في موضوعة كانت محظورة سابقا، فالقوانين التي كانت تلجم الأفواه وتحطم الأقلام هدمت نفسها بنفسها بحسب سبينوزا، والأمر الذي أراه مهما الآن هو الأخذ بوظيفة الرواية الجديدة وجعلها أكثر فاعلية في لملمة كل ما هو مهمل ومنسي ومغيّب وسرده داخل نص روائي شديد المشاكسة، فالحياة عملية سردية تتحول من الغرائبي الى الواقعي وبالعكس، في شكلٍ لا يستقر ولا يهدأ منذ ألواح السومريين. إنني هنا أرمي إلى تفعيل القيمة التاريخية داخل مجرى التحولات الحياتية، ومحاولة بعث الروح في تفاصيلها الراكدة بعد خلعها عن كل ما هو سائد ومحافظ وخاضع لرواسب اجهاضية مقيتة. في رواية الذباب والزمرد أردت أن أقول أن (تذبيب) الشعب، والتمتع بمشاهدته من خلف الزمرد كما كان يفعل نيرون وكل دكتاتور معتوه جاء بعده، سيولّد نوعاً من الانتنوستالجيا، يحيل الانسان الى ذلك الخلو المطلق، أي أنه يسلبه ماهيته ويمتص رحيق انسانيته، وهذا هو ما يحصل لنا الآن.
* شهادة روائية ألقيت في ملتقى الرواية الثاني الذي انعقد في البصرة مؤخرا |