(1) ما يحدث اليوم من حركة احتجاجية على الأوضاع الفاسدة في العراق، لا يعبر عن رغبة جماهيرية عفوية بالإصلاح، بقدر ما يعكس نمطاً من دورة التاريخ "العَشرية" التي تحركها "الآلهة الخفية" في مركز القوة والسيطرة الدولي، وآخر مظهر لها كان تغيير 2003، الذي ختم عشراً من السنين المجدبة بدأت بانتفاضة 1991 المجهضة، وهذه حدثت في ختام إحدى عشرة سنة على حرب الخليج الأولى، وسقوط المشروع القومي العربي الرومانسي الذي تزعمه حزب البعث وقيادته الشمولية، وكانت هذه الدورة قد بلغت ذروتها بتزعم الحزب الطموح قيادة التغيير في العام 1979 بعد إزاحة القيادة السابقة، والتصفيات الحزبية اليسارية، وتعبئة الجماهير لخوض حرب مدمرة مع إيران، بدأت تصاعدياً بانقلاب 1968، وتمت بمصادرة المكاسب المدنية لثورة 1958. فإذا عكسنا السلسلة الدورية إلى العام 1948 (عام النكبة الفلسطينية والتظاهر ضد الأحلاف الاستعمارية وإعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي)، والعام 1936 (انقلاب بكر صدقي)، والعام 1925 (دورة الدستور ونشوء الدولة العراقية الملكية)، اتضحت لنا حقيقة المتوالية العَشرية القدرية التي تتحكم بشعب يبدأ عادة بالمطالبة بإصلاح الفساد الذي تسببه أوبئة ذاتية وحكومية متأصلة في الجسد العراقي المريض، قبل الاحتلال البريطاني الأول واندلاع ثورة العشرين ثم خمودها، ولعل هذه الثورة كانت أول من نمّط الحرب الوطنية وحرَفَها إلى نوع من الاقتتال الداخلي.
وفي كل هذه القطوعات الحادة، نلاحظ أن يداً تمتد من وراء الستار لتضع قواعد لعبة دستورية تمهد لبدء دورة عشرية جديدة، بحقن الجسد الوطني المنهك بآمال "التغيير" المنشود، تنقله من نوبة ارتدادية إلى نوبة أشد انتفاضاً وعنفاً وتأصلاً للنزوع العدائي والسلوك التسلطي والاضطهاد القومي والعدمية الفكرية، لا نجد لها تمثيلاً مكافئاً إلا في نظُم التفويض الإلهي والاستعباد الجماهيري منذ الحقبة البابلية قبل الميلاد.
(2) يرتبط تفسير هذه الدورات العَشرية (تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً عن عشر سنوات) بنظرية البلبال "البابلي" التوراتية، ويحمّلها المعنى القدري الخفي والعدمي. فقد كُتِبَ على العراقي أن يصدق أفعاله الانعكاسية والثورية بتصديق هذه الفرضية، وتفسير مرضه السريري المستديم بتفسير اندفاعه الأهوج نحو نقطة العدم اللاتطورية، واللاعقلية، تلذذاً بصحوة مفاجئة تقوده إلى رقدة لا نهوض بعدها إلا بأداء ثمن منزوع من جسده وروحه على سبيل التضحية والاستشهاد. حقاً، لا يمكنني تصديق أفعالي شخصياً من غير هذا الاشتباك القدري المشؤوم الذي ضحى بأقراني وأصدقائي وشتتهم في كل مكان. إنه أسلوبي في التضحية والاستبدال والتجاهل لكل قدرة ذاتية ينطوي عليها جسدي وعقلي الجمعي المتشابك بأقدار هؤلاء المنتفضين على أقدارهم، ولا يستطيعون ولا أستطيع. إني أنجرف مع هذا القدر التوراتي باسم "الاصلاح" الزائف، أملاً في حدوث "تغيير" أعرف أنه محتَّم بتكرار دورته في سيرورة زمنية ملعونة. فهل أنا مختلف عن الآخرين، وأي عراقي يضحي بجسده وعقله، دون إيحاء قوي من هذه الأنماط القدرية المشؤومة!
وعلى غير ما نظن، فإن إيحاء "الآلهة الخفية" البابلي والتوراتي ألما قبل تاريخي ، لا يمثل دورة معزولة أو تبدلاً ميثولوجياً بحتاً، إنما هو مُتّصَل مزدوج بأرقى أشكال الإيحاء المدني والديموقراطي الذي يبثه البرنامج الامبريالي الاستراتيجي في "جبل الحديد" على دفعات لتوجيه الماكنة السلطوية لحكومات الشرق الأوسط المعاصرة. كما إنه مُتّصَل يخترق نظرية "المؤامرة" الشائعة، الموجهة لتسويق الخداع الدولي على نفوس حائرة وسط بلبالها بين إيحاء قديم وإيحاء حديث.
إن ما جعل هذا الأنموذج العدمي قريباً لدى هذه النفوس، سقوط النماذج العليا لتجارب الحكم الديموقراطية والشمولية في العالم المتحضر (خصوصاً تجارب الاتحاد السوفياتي وأوربا الشرقية وأفريقيا وأمريكا اللاتينية) فكان هذا السقوط تسويقاً اكثر قرباً لعدمية الأشكال الثورة العالمية، والتغيير الجماهيري العفوي، وأنواع الخلافة الإسلامية السلفية، والولاية الفقهية المستحدَثة منها.
(3) ليس من شأن هذه الفرضيات أو التقديرات النظرية قياس حالة "الموت السريري" لعراق اليوم، بقدر ما تهدف إلى الكشف عن "الجروح الخطيرة" التي سببت لهذا الموت، بحسب نظريات علم نفس السياسة الحديث (ساي بوليتك). إنها نوع من السبر السيكولوجي الذي يتجنب المداخل السهلة لتقديرات السياسة، المحلية والدولية، ليفتح الجروح (القطوع المعرفية) لثقافة "ما حول ثقافة التغيير" بعد خمودها تماماً في ذروة التغيير الثاني (الحراك الجماهيري الحالي) الملتصقة هوساً وعدمياً بإرادة الجماهير الطاغية على أي صوت تأملي داخلي، وتجريب ثقافي بعيد الأثر في مواساة الجروح المميتة لثقافات التغيير، وكان هذان الشكلان من التعبير يزدهران في فترات الهدوء الفاصلة بين دورة عدمية وأخرى.
(3) كانت ثقافة ما حول التغيير الأول (2003 ـ 2015) في حالة مخاض وتشكل جنيني، طبقاً لأنموذجها السابق (1991ـ 2003) عندما دهمتها حركة التغيير الثانية لتجهض ولادتها وتعيدها إلى البلبال التوراتي والانقياد التام لعدمية متراس المتّصَل التاريخي المزدوج، المرتبط بسلسلة الدورات العشرية برباط الامتثال السلطوي أو الخروج عليه قدرياً، الشبيهة بسلسلة البروباغندا الثورية لحقب 1958 ــ 1968 ــ 1980 ــ 1991 التي أنتجت الأشكال السردية والشعرية ذاتها، وأشكال التعبئة الحزبية المهيمنة على الرؤوس المذعورة طبقها.
وفي كل هذه المراحل من مزدوج الاستبداد السلطوي والقدر الجماهيري الخفي، كانت "الضرورة التاريخية" و"الالتزام الحزبي" و"التغيير الثوري" مقدمات أساسية لتزييف النص الأدبي، وبلبلة اللسان الاجتماعي، وتكريس الثقافة الكهنوتية. ولعل المثال الأبرز لنصوص التعبئة الجماهيرية تتمثل في ما كان يسمى بأدب المعركة، وبيانات التجمعات الأدبية السلطوية، وافتتاحيات الصحف الإعلامية، وتمارين الشعر المترجم عن تجارب راديكالية وسريالية عالمية، ومحاكاة التراجيديا العبثية للإنسان المحكوم بصخرة سيزيف وقدرية أوديب وعرّافي حقب ما قبل التاريخ الإسلامي.
(4) ما يجعل هذه التقديرات النظرية واجبة الفرض والتمثيل، أنها تخترق الفاصل الوهمي بين حدّي الإصلاح والتغيير، الإصلاح بصفته البراغماتية الانتقالية، والتغيير بصفته العدمية القدرية. وفي كلا الحدين الماثلين للعيان حاضراً، تكمن المشكلة الأساسية في معرفة العراق المعاصر، على وجوهها الأربعة المترابطة: السياسية والثقافية والاجتماعية والنفسية؛ ما يدعونا بقوة إلى الانتباه والخروج قبل فوات الأوان من هذا المأزق المزدوج المخيف. فليس بعد هذين الحدين سوى الفوضى والدمار. ولعلنا لا نعيش عشر سنوات إضافية لنشهد دورة تغيير أخرى.
22/8/2015