بعد اختيار البصرة عاصمة للثقافة العربية عام 2018 أدباء بصريون: هذه نكتة… تصديقها يحتاج لصناعة مدينة جديدة!
كلما سألت مواطناً بصرياً عن نية اختيار البصرة عاصمة للثقافة العربية لم يجبني إلا بقهقهة طويلة، فعامل التنظيف في الشارع يسألني: ماذا يعني عاصمة للثقافة ونحن لم نتسلم راتبنا منذ شهرين؟ في حين ضحك موظف في المستشفى أن تكون هناك ثقافة في مدينة مستشفياتها تغرق مع كل أمطار بسيطة ربما تهطل في شتاء البصرة القصير! كان هذا السؤال بعد أن وجه وزير الثقافة العراقي فرياد راوندوزي بتشكيل لجنة تتولى إعداد تقديرات تخمينية لمشروع البصرة عاصمة الثقافة العربية لعام 2018… كان هذا ضمن خبر نشرته إحدى الصحف العراقية قبل أيام، مضيفاً: كما وجّه وزير الثقافة خلال اجتماع هيئة الرأي، الذي عقد هذا الأسبوع، بضرورة الاستعانة بجميع الجهات الفنية والإدارية والثقافية في الوزارة وخارجها للوقوف على آرائهم وتقديراتهم لإنجاز أعمالها، بالإضافة إلى الوقوف على رأي الحكومة المحلية في محافظة البصرة بشأن الفعالية واستعداداتهم لها ورؤيتهم للمشاريع التي ينوون إنجازها ضمن الفعالية. وقد ترأس اللجنة العليا وكيل الوزارة طاهر ناصر الحمود، وتضم في عضويتها مدير عام دائرة العلاقات العامة فلاح حسن شاكر، ومدير عام الدائرة الإدارية والمالية رعد علاوي، ومدير عام دار الأزياء العراقية عقيل إبراهيم، ومدير عام دار الشؤون الثقافية حميد فرج. وشدد الوزير على أهمية أن تنجز اللجنة أعمالها وتقدم تقريرها خلال مدة لا تتجاوز ثلاثة أسابيع. انتهى الخبر، ويلاحظ فيه أن اللجنة المشكلة في الوزارة هي نفسها التي شكلت باختيار بغداد عاصمة الثقافة العربية، التي لم تغلق ملفات فسادها حتى الآن.. فالخيمة التي نصبت وسط حديقة الزوراء في بغداد كلفت مليوني دولار، في حين كانت تكلفة الفعاليات مبلغاً تجاوز تمويل وزارة الدفاع العراقية خلال العام 2013 حسبما أفادت بذلك ميسون الدملوجي النائبة في مجلس النواب العراقي. وإذا كان المشروع مخصصا للثقافة وتأهيلها، فأين هم الأدباء الذين سيشارك المسؤولون؟ وأين موقع اتحاد أدباء البصرة منه؟ لكن السؤال المهم قبل الحديث عن اختيار البصرة أو إخفاق هذا المشروع: إلى أي مدى تصلح مدينة مثل البصرة، بوضعها الحالي لأن تكون عاصمة للثقافة العربية… وما المؤشرات التي تجعل من مدينة كهذه عاصمة حقيقية في ظل ملفات فساد بغداد، حينما كانت عاصمة للثقافة العربية عام 2013.. في الوقت الذي تغرق شوارع هذه المدينة بالنفايات، فضلاً عن عدم وجود قاعة واحدة للفعاليات، لا مسارح فيها ولا دور سينما، ولا مكتبات حقيقية، ولا دور نشر ممولة من أي جهة تستطيع تحمل نفقات طباعة الكتب التي ستصدر ضمن هذا المشروع؟
البصرة في خرابها
الشاعر والكاتب ناصر الحجاج يبدأ حديثة باحثاً عن السبب الذي قد يدفعه لاعتبار البصرة عاصمة للثقافة العربية، وهو أن نريهم بأم عينهم معنى «خراب البصرة» بدلاً من قراءته وتخيله، فالبصرة اليوم في أدنى درك من الذل الحضاري، قياساً بما كانت عليه أيام الحسن البصري والجاحظ، وبلاد السندباد البحري، وأرض سومر، وجنة عدن الله، لا لأن عمرانها في الحضيض، بل لأن من يدير دفة مواردها البشرية والطبيعية في حضيض الإحساس، بحيث لا تزكم أنفه رائحة الأزبال ولا تتحسس عيناه خراب الشوارع وعشوائية الأكشاك التي نصبت على هياكل النصب والجداريات التي كانت يوماً ما معالم لمدينة الزهو الحضاري، حسبما يقول. ويضيف الحجاج: ثلاث سنوات لا تكفي لإنشاء دار أوبرا، فكيف نتوقع أن تصبح البصرة مؤهلة لاستقبال المثقفين والأكاديميين العرب، والقائمون على عمران البصرة لم يبادروا إلى إنشاء مثابات جديدة للثقافة والعلوم الإنسانية، ولم يسقوا شجرة جامعة البصرة لتمتد ظلالها إلى مساحات جديدة فيها، بل عمدوا إلى تهديم ما كان موجوداً من دور السينما التي كانت متنفساً ثقافيا واجتماعياً وتوعويا للشعب البصري (سينما الكرنك، الرشيد، الوطني، أطلس..)، وعمدوا إلى تحطيم النصب التي مثلت إرث البصرة (تمثال السندباد البحري في ساحة الطيران..)، بل «لقد أهملت الحكومة المحلية التي تطوعت للعمل معها كمستشار ثقافي مشروع شارع الجاحظ التراثي، ومشروع ساحة الباصات، ومشروع الارتقاء بمهرجان المربد ليكون على شاكلة مهرجان كان السينمائي ولكن في مجال الإبداع الشعري».
أسباب بيئية
لا يختلف كلام الروائي علي عباس خفيف عن الحجاج، إذ يؤكد أن البصرة؛ كمدينة، غير مؤهلة تماماً لمثل هذه الفعالية، فَلَو كانت الوزارة ببيوتها الثقافية هي المعنية بهذا النشاط، فما الذي تستطيع غير تكريس ثقافة الحزب الحاكم. ومن ثم أن البصرة لوضعها الحالي والخراب الذي يكتنفها ستكون صورة سيئة عن الثقافة العراقية، وإذا كانت دعوة الوزير بتشكيل لجنة لهذا المشروع، هل تراه سيختار من أهل الأدب لهذه المهمة؟ ولنفرض أنه اختار أدباء فمن هو المؤهل لهذه المهمة. ويرى خفيف أن المشكلة تكمن في أن البصرة لا يمكن وصفها بعاصمة للثقافة لجملة من الأسباب البيئية، كما أنه من الصعب تأهيلها لأنها تحتاج إلى استعدادات مالية وإدارية وشروط تعاون مؤسساتي، هذا من ناحية تنظيف المدينة… ومن ثم لا توجد مؤسسات قادرة على الاضطلاع بمهمة تتوجه إليها أنظار العالم العربي بمثقفيه تحديداً.. وإذا كانت بغداد ستتدخل في مفردات إدارة المشروع، فإن هذا سيعني حتماً إعادة التجربة السيئة لبغداد عاصمة الثقافة العربية عام 2013، ولتلصق جميع مساوئ المشروع لمثقفي البصرة وعدم أهليتهم لمهمة مثل هذا النوع.
بعد سبعة أشهر
في حين يشير الكاتب علي الحسيني إلى أن للبصرة خصوصية ثقافية، وإسهامات هائلة في الثقافة والعلوم والأدب، قديماً وحديثاً، وهي مركز ثقافي مهم عربياً، لكن الأمر مختلف حينما تكون عاصمة للثقافة العربية، لأن مشروع العواصم تظاهرة ثقافية، يتطلب أن تكون المدينة المستضيفة قادرة على اجتراح مبادرات خلاقة تبرز القيمة الحضارية والثقافية للمدينة، أن يكون باستطاعتها تنمية الرصيد الثقافي والحضاري وتعميق خصوصيتها الثقافية، مع انفتاحها على استضافة شخصيات ثقافية عربية وإقليمية ودولية. ويتساءل الحسيني: كيف يمكن أن تكون البصرة عاصمة للثقافة، وهي تعاني من بنية تحتية متهالكة، تفتقر إلى شوارع نظيفة وأسواق منظمة وفنادق أنيقة ودور ضيافة ومراكز ترفيه وأمن مستقر؟ كيف يتحقق ذلك، في ظل مدينة تخلو من مسرح وسينما ودار أوبرا ومتحف وغاليري ومطبعة ودار نشر ومركز ثقافي ودار أزياء ومؤسسة ثقافية نشيطة، ومشغل فلكلور. مضت 8 أشهر على إقرار وزراء الثقافة العرب، البصرة عاصمة للثقافة العربية في 2018، ما الذي فعلته الوزارة؟ لا شيء. الآن وقبل أيام فقط، انتبهت الوزارة، لتعلن تشكيل لجنة عليا لرصد ما تحتاجه المدينة من بنى ثقافية تحتية، ما يؤكد أن الوزارة ومعها الحكومة، تتعاملان مع الثقافة بازدراء ودونية. «عندما تلتفت الحكومة العراقية، للبصرة، وتعيد لها حياتها وعمرانها، حينها يمكن أن نثق كمثقفين، بأن اقتراحها أن تكون البصرة عاصمة للثقافة العربية، لن يكون مشروعاً للتهريج وفرصة لنهب المال العام، بالضبط كما حصل في تجربة بغداد عاصمة للثقافة العربية عام 2013».
مدينة خربة
يتمنى الشاعر واثق غازي؛ عضو الهيئة الادارية لاتحاد أدباء البصرة، لو أننا أبقينا على البصرة التي في الكتب!! مضيفاً: منذ أن قايض رأس النظام البائد نخيل البصرة بآجر الخليج نهاية عام 1987 وذلك لغرض ردم القبح الذي أوجدته حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران، وحجم الخراب الذي لحق بمدينة البصرة، منذ أمر مهرة البناة الكُرد أن يعبِّدوا أنهر البصرة بالحجر الجبلي وأرصفتها بالملاط الملوّن، لم يَقدم مسؤول آخر على إدامة بناء البصرة لا مدنياً، في تنشئة أجيال واعية ولا عمرانياً في إعطائها حق المدينة المنتجة أرواحاً وخيرات، لا نقول أن الطاغية كان معمراً للبلاد ولكنه آخر من وضع حجراً فيها، وكل ما جاء بعده هو تخريب على هيئة إعمار وهمّي. وإذ يُعاد الحديث اليوم عن مشروع البصرة عاصمة للثقافة عام 2018 تتصدر البصرة كمدينة خربة لا تجد موطأ نظيفاً فيها سوى في مجالس المسؤولين وكبار التجار، البصرة اليوم أبعد ما تكون عن فعل التعايش الإنساني، عليّة القوم فيها يشكلون جداراً لحماية سياسييها وصغار القوم يلزّون أنفسهم في مهلكة من أجل أن تكون لهم درءاً من ضيم، أي عاصمة للثقافة ليس فيها مسرح حديث أو قاعة موسيقى أو ناد ليلي، أي عاصمة للثقافة ليس فيها دار نشر للكتب ولا مقر لائق لأدبائها، لعل الذين سيحضرون هذا الفعل المقبل سيرددون كما قال ليّ أحد ضيوف مربد البصرة (لو أننا أبقينا على البصرة التي في الكتب) في إشارة لواقعها المرعب. وبحسب الكاتب منتضر السوادي، فإن لغة العرب مَا تزالُ مَدِينَةً إِلى البصرة، وعلمائها، وشعرائِها. فمراجع الثّقافة واللّغة والأَدب بصريّة، من المربد إِلى كتابات الخليل والجاحظ… لكنّ التّهميش طَال هَذِهِ البقعة المُعطاء، وارتحل العلماء. ويبدو أَن سلطات المركز تسعى إِلى زيادة هَذِهِ الهجرات لِتُفرغ المدينة من قناديلِها الوهّاجة، بيد أَن هَذَا يعطي هؤلاء المكانة المُستحقة لَا القحط للبصرة الولّادة. السَّيَّاب ابن أَريافها نالتْه الشّهرةُ حين اغتربَ مُتبغددًا، وعاش الحنين إِلى جيكور، فِي حين تَبدّد البريكان وشعره حين لزمَ مدينته. وأضاف السوادي: ليست البصرة فقيرة ثقافيًّا، بل خصبة ثريّة، فمحمد خضير ولؤي حمزة عباس قامتان عربيتان فِي السّرد لَا تخفيان عن أَحد، وَفِي الشّعر ثَمَّةَ أَسماء بديعة، وَفِي النّقد أَيضًا، لكنّه التّهميش، وسوء الاختيار، ومن يُطالع مَا يُنشر فِي دار الشّؤون الثَّقَافِيَّة ومجلاتها سيرى، وحَتَّى عَلَى مستوى السّلطة المتحكّمة فِي الثّقافة ووزارتها وَأَنشطتها. إِن أُريد النّجاح ينبغي وضع كُلّ شيء موضعه، وَحَتَّى تشعّ البصرة فِي كونها عاصمةَ الثّقافة، ينبغي أَن تُناط المُهِمَّة بأَوتادٍ بصريّة ذات مكانة شَمَّاء، وإِعطائهم الحريّة فِي تيسير شؤون الكرنفال الثَّقَافِيّ، فلجنة الطّبع يترأسها بصريّون، والأَنشطة الأُخرى ينبغي أَن تنبع من البصرة، لَا أن تُجلب من خارجها من أَجل كروش المركز ونزواتهم، وأَن توضع المعايير التي لَا تراعي إِلا الإِجادة والتّفوق. كلمة أَخيرة: مهرجان المربد الفائت، خلا من كبار علماء البصرة، وَعَلَى العكس ترأّس جلساته أُناسٌ ليسوا بقامة أَعلى مِمّن هُمّشوا!!
عن "القدس العربي" |