ما يقلق في تظاهرات بغداد والمحافظات أنها عفوية ، بلا قيادة ، محاطة بحيتان الفاسدين ، والمليشيات ، وظروف صعبة ناتجة عن وجود خطر موضوعي قريب من العاصمة . أكثر من هذا أن النظام هش وإمكانية دخول عنصر غير محسوب واردة . لكن ما سهّل استمرار المظاهرات ، وحصولها على تأييد شعبي متزايد ، أن مطالبها المرفوعة كانت بمنزلة البديهيات ، فلا النظام ولا السياسيون الفاسدون أنكروها ، بل ظهروا مطوقين بها ، مفضوحين ، متهافتين ، ما شجع القوى التي نزلت الى الشارع أن تخطو خطوة أخرى بنزع الرمزية الدينية التي احتمى بعض السياسيين خلفها طويلا. إنه زمن الأزمة – الأزمة التي تثرم الجميع ، فلا يعود بالامكان الرجوع ولا التقدم في الظاهر ، ولا يعود بالامكان تفادي الانفجار .
ثمة ترابط عضوي بين الانفجار الشعبي والأزمة السياسية والخلقية العميقة للنظام ، الشظايا وردود الافعال والالعاب ستظهر كلها دفعة واحدة . فلأنها بلا رأس أظهرت بين الحين والحين رؤوسا عربيدية ، ولأنها ضد اللصوص غازلها لصوص ، وهي ضد الفساد باركها فاسدون . في الميزان الاخلاقي كان الانفجار قد حمل بداهته معه ، وبات عاملا محددا ، ولقد واصل التحديد بدخول قوى جديدة ، فبدا كأنه سيبقى لفترة طويلة - وهذا ما أخاف المالكي وذكّره بخيام الفلوجة وأوحى بوجود مؤامرة ، بالرغم من الاثنين غير متماثلين. لقد احتاج الغضب الشعبي الذي لم يعد بالامكان السيطرة عليه ، إلى أن يقفز قفزة أخرى ، وهي أن يفك الاشتباك بين الحقيقي والزائف ، وأن يتحرر من لعبة السياسة القديمة . في هذا المفصل ، أي تماما عندما بات الانفجار يستولي على العقول والقلوب ، جاء دور العبادي الذي حركته المرجعية الدينية ومنحته الإذن بإنهاء الأزمة ، عندها بدا كما لو أن المطالب الشعبية تحققت . لنواصل تفحص ما ظهر . إننا إزاء انفجار شعبي صاحبته ، كتفا بكتف ، هزليات نظام سياسي مفلس ، وحماقات سياسيين أميين . صاحبه كذلك خشية مسؤولة من أن الخطر الأكبر يدق أبواب العاصمة ، ولا يمكن الذهاب أبعد ، كمحاكمة النظام السياسي مثلا ، بل الاكتفاء بمطالبات واضحة وضوح الشمس لا يمكن منازعتها والتقليل من شأنها . في هذه الأزمة كان اللصوص يعرفون أنفسهم الى حد أن أسقط في يدهم ، فاتفقوا مرغمين على تأييد الشعارات المرفوعة. تلك واحدة من ظواهر الأزمة الثورية . ولأنهم لصوص ، بلا أخلاق ، ولا حتى تقاليد سياسية ، مارسوا الألعاب ، واعترفوا بالفم الملآن بوجود خطب كبير يعم العراق كله ، والأفضل لهم التسليم ببعض الحقائق . إن الاتهامات بالتآمر التي ترمي الأحزاب الاسلامية الآخرين بها باتت مكشوفة كإسقاط نفسي . إن الذي وصف اضراب عمال بأنه مؤامرة دبرت بليل ، سيرفع عقيرته مطالبا بالإصلاح . ذلكم اعتراف لا يجب التقليل منه . لكن علينا أن نشير بالمقابل أن نفس هذا المسؤول بات واثقا من أن الانحطاط هو من الشمولية بحيث لا يمكن أن يخشى على نفسه من المساءلة . إنه مجرد واحد من مئات ، بل هو غير مسؤول شخصيا بل النظام كله – هذا الكفيل الكبير الذي صُنع بليل . لعله يدرك أن البؤس سيجعل العمال أنفسهم يرفعونه على الأكتاف إذا ما حقق لهم مكسبا تافها : لا يخشى سياسي فاسد من بيئة تنتج البؤساء الذين يقبلون بالقليل ، أو يقبلون الرشوة . البؤس الشامل ينتج مسحوقين يمكن استخدامهم في أسوأ الأعمال. لعل هذا هو السرّ في أن الحراك الشعبي بدأه من يحسّون بإنسانيتهم أكثر من غيرهم ، وجلّهم من الشباب الذين أدركوا مخاطر التحول إلى بشر دون ، بلا كرامة. في اللحظة التي أحيلت قرارات رئيس الوزراء إلى البرلمان ، بدا واضحا أن البرلمانيين الثعالب الذين يمتلكون نظراء في الحكومة ، شعروا بالأمان ، فالأمر عاد الى ملاعبهم الدستورية ، والنظام السياسي ظل يحافظ على توازنه الدستوري ، وهاهو يجري إصلاحات داخلية . إن أولئك الذين ظلوا يدوسون على الدستور بأقدامهم ، والذين عطلوا المصادقة على عشرات القوانين ، وافقوا بالاجماع على قرارات العبادي بسرعة مدهشة. لا عجب من هذه الموافقة الجماعية السريعة ، فأفق المطالب الشعبية جرى تحديده بسبب الخوف من تطور غير محسوب ، ووجود نزعة عدم التسييس بالرغم من أن القضية سياسية بالدرجة الاولى . من هنا واصلت العقلانية السياسية الكابتة عملها بين المحتجين في الشارع ، بالتضافر مع سلطة ظهرت متفهمة وراحت توزع قناني الماء على المتظاهرين بالمجان. أكثر من هذا أن الاجراءات التي اتخذها العبادي جاءت بلا تكييفات سياسية ، بلا خطاب يجذّرها ويمنحها أفق الاصلاح السياسي الذي ينشده الناس . فلم لا يبصمون إذن؟ لعلنا سنسمع في ما بعد بوجود أخطاء دستورية حدثت ، بحيث ندخل دورة تسويف جديدة ، يضحك فيها الفاسدون على الناس . هذا ما أتوقعه إذا لم تتغير حسابات الجماهير ، وإذا لم تنبثق قيادة سياسية منها ، تواصل النضال . لقد أسهم العبادي بنصيبه من اللعبة حتى الآن ، وبدا بطل المشهد ، لكن قراراته المحدودة ، المنزوع عنها الإطار السياسي والفكري ، تشير إلى أفق تهدئة وليس قيادة إصلاح سياسي جوهري ، الا إذا أخذ الامر على عاتقه سواء بدوافع مصلحية أو اخلاقية أو سياسية ، وقلب المائدة مستجيبا الى نبض الشارع. لكنه لن يفعل دون أن تواصل الجماهير ضغطها بشعارات سياسية هذه المرة ، وأن تحذر هي نفسها من الدسائس والمتسلقين والهواة . مرة قال المالكي إن الاسلاميين يقودون الثورات والعلمانيون يسرقونها. ولأنه لا توجد واقعة مثل هذه ، فلا يعدم أن المالكي كان يفكر بالسرقة بوصفها سياسة . الشعب الذي تظاهر ضد من أفرغ خزينة الدولة بمشاريع وهمية ورواتب خيالية ، تظاهر موضوعيا ضد 8 أعوام من حكم المالكي ، وضد حزبه اللصوصي . في الوقت الذي يجب أن لا نتردد بالوقوف مع المطالب العادلة لشعبنا ، ونرى أن خروجه الى الشارع هو تمرين رائع على الحرية ورفض الاستبداد ، يجب أن نفسر ونفهم الاسباب التي دفعت العبادي الى اتخاذ تلك الاجراءات ، وتخليصها من البطولة وادعاءات التفهم والوقوف مع المطالب العادلة . ليس الامر على هذا النحو ، بل لأن النظام السياسي كله في أزمة ، فالدولة مفلسة ، تبحث عن القروض عند البنك الدولي والمقرضين الكبار . نحن دولة مدينة ، غير حرة ، لا تنتج شيئا . لقد جفف السياسيون اللصوص ضروع البقرة العراقية الحلوب . ما عاد هناك ما يُسرق ، وأكثر من هذا ، هناك حرب قائمة تستنزف الموارد الاقتصادية ودم الشباب الشجعان. لن تعترف السلطة بالحقيقة لأنها تريد أن تكون متفضلة ، ولأن من عاث فسادا منذ 2003 لن يمارس الأخلاق والكرم والعفة فجأة . لا عواطف ولا روحانيات ولا دين ، بل لأن الإفلاس نفذ إلى جميع المفاصل .. نفاذ نصل حاد وصل الى العظم . ما الذي عرفه الاسلاميون عن الاقتصاد؟ اقتصاد السمك المسكوف وسيارات الدفع الرباعي ، ورائحة زفر مقززة ، وتلال الأزبال في الشوارع ، وشراء العقارات ، وتهريب العملة ، والسفر الى الخارج ، وقبض رواتب خيالية. هذا هو اقتصادهم السياسي ، ديدنهم ودينهم . بعد إفلاسهم الأخلاقي أفلسوا البلد ، حطموه ، وأفقدوه الكرامة . الإفلاس إذن سيكون مصدرا من مصادر الأزمة الحالية . الإفلاس هو من دعاهم الوقوف مع شعارات التغيير المرفوعة . لقد انتهى عرس المليارات .. والحزب العقائدي الحاكم بات يمارس النقد واسترجاع المبادئ التي أهدرها على مذبح الشهوات. |