أقلب في دفاتري أوراقا كتبتها قبل ٣٦ عاما في أجواء هزيمة أخرى. كدت أحرق هذه الأوراق مع محاضر ومقررات حزبية تجسد مرحلة كاملة فقدنا فيها كوكبة من رفاق ومعهم وطن أرغمنا على تركه الى المنفى. ذهبت هذه الأوراق معي من منفى الى آخر، وفقدتها مرتين.. بعد انسحاب من بيروت عام ١٩٨٢ وانسحاب من كردستان عام ١٩٨٤. استعيدها في العيد الثمانين للصحافة الشيوعية..
12/2/1979 لا أستطيع أن اغيب يوماً عن الجريدة، كذلك الآخرون كما اعتقد. لماذا ترتبط حياتنا بها الى هذا الحد؟ الجريدة لا تعطينا زاداً مبدئياً. الكل هنا يشعر بأنها زائدة عن اللزوم، ومن الأفضل لها أن تحتجب إذا لم تستطع أن تقول ( آخ!). ما يشدنا اليها هو هذه الأخوة التي تجمع هذه الشلّة الضيقة من المحررين.. يستعيضون بهذه الأخوة عن وحشتهم. كل واحد مستعد لأن يذوي من اجل سلامة رفيقه. هكذا نحن.. كلما طفحت ذواتنا ومصائرنا الفردية تذكرنا رفاقنا في هذه الشلة : لسنا وحدنا، يوجد خمسة اوعشرة يواجهون نفس مصيرنا. عندما نجتمع في الجريدة، نلتم كما الطيور في العاصفة ، في غرفة واحدة. نتداول آخر الأخبار ونبحث وضع أي واحد منا. ما حصل له وما يمكن أن يحصل له ونحنو على بعضنا. كل واحد يرى في الآخر ذاته الشهيدة. نشد عزم بعضنا بالقول الدائم (ماذا يهم، ليثبت الحزب ولنكن نحن القلة ثمناً!) . أحياناً أصل الجريدة قبل الجميع و انتظرهم بلهفة، كما انتظر عشيقتي. أريد أن اطمئن الى انهم ما زالوا معي. ما أصعب الأثر الذي يتركه فينا السفر المباغت السري لواحد جديد من هذه المجموعة. يصبح غيابه أشد حضوراً من وجوده ، كالأصيص الذي وصفه ريتسوس في قصيدته (شكل الأشياء الغائبة).. بعد سفره نرنو الى مكانه بأسى ونتذكر حركاته وما تبقى منه، نتذكره بحزن ومرارة.. لقد تقلص عددنا وهكذا نتمسك بالباقين. حين يقول أحدنا انه يريد أن يغيب غداً نبتهل إليه (لا أرجوك تعال!). نريد أن نتحسس وجودنا معاً كل يوم. ظهر كل يوم نجلس حول طاولة الغداء ويسود مرح غريب ترن فيه الضحكات عصبية وقوية. كأنها تقول للذين يراقبوننا من السطوح المجاورة: "ها نحن معاً، افعلوا ما شئتم!". عندما انهيت روايتي فرح الجميع بها وكأنها عمل خرج من قبل هذه المجموعة كلها. كل واحد أراد أن يقرأها قبل الآخر. وعندما ظهر الفصل الأول من رواية (م)* فرحنا بها جداً، وكذلك لما كتبت (ج) *روايتها عن الجريدة.. كأن هذه الأعمال وصيتنا الأخيرة. أحب هذا الجو الحميمي الذي تسامى فيه الرفاق، بفعل الزمن الصعب، على المنافسات والنفاق. وأحببت (ج) وشعرت كأنها الأخت الكبيرة لهذه المجموعة فكتبت بحنو روايتها عن الجريدة وجو العمل فيها. الاستعداد للتضحية بلغ هنا مداه.؟ ولم تعد هناك ذوات ضيقة. لقد تغلبت هذه الأخوة الجميلة التي لا نريد أن نفترق فيها حتى بودنا أن ننام جمعياً في غرفة واحدة وعلى سرير واحد. م: استعارة عن الشاعر والروائي يوسف الصائغ ج:عن الصحفية الرائدة سلوى زكو * * * 13/3/1979 بغداد منذ الصباح وصلت الجريدة ففوجئت: أكثر من خمس من سيارات الأمن تطوق الجريدة، ووجوه غير التي عرفناها تدور في عرض مقصود.. لأول وهلة قدّرت انهم دهموا الجريدة.. أضع هذا الاحتمال في ذهني صباح كل يوم وأنا أتجه الى الجريدة، بل اني تخيلت تماماً شكل عملية الدهم وكيف ستتحول الى كمين لاصطيادنا. عندما دخلت الجريدة رأيت شغيلة المطبعة والموزعين والسائقين في حيرة وقلق ، وللحال عرفت إنهم صادروا عدد الجريدة الذي يتضمن رداً على الجزء الخامس من الموسوعة*. ثم عرفت بشكل المطاردة.. أية سيارة تغادر المطبعة او الجريدة تطاردها الموتورسكلات والسيارات، وحالما تفرّغ الصحف يجمعونها من البائع. المطاردات تحاط بجو يشبه ركض الكلاب وراء الفريسة. ما أرادوا أن يخرج منا عدد واحد من الجريدة. لكن الأمر لن يتم بهذه السهولة. فقد تسربت وريقات ووصل صوتنا الى الخارج. مصادرة العدد بهذه الشكل المربك زاد معنوياتنا. ما من شك في إن الناس سيعرفون بغياب الجريدة وسيتساءلون ويعرفون.. السلطة لا تريد من يقول لها: لا، ومع ذلك هناك من يقولها. وللحال بدأنا نقطّع المقال ونخفيه في ملابسنا لنوصله الى من ينبغي أن يقرأ ويعرف. وقد زادت هذه الخطوة شجاعتنا للتصدي وللاحتيال والمناكدة. هذا أول عدد لنا يصادر من السوق، إذن نحن بدأنا نشكل خطراً جدياً، وإن صوتنا يُسمع الآن بريبة وقلق. منذ زمن كانوا آمنين لأننا لن نقول اكثر مما ينبغي ولا أكثر مما قدروا. لكن الآن بدأ صوتنا الذبيح يخيفهم.. لقد كان هذا متأخراً، لكنه مع ذلك يعطي وجودنا معنى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * مقال يتهجم على تاريخ الحزب نشر في الراصد تحت اسم سمير عبد الكريم * * * 14/3/1979 بغداد الناس في كل مكان يسألونني عن غياب الجريدة فأخبرهم.. الخبر يفرحهم، لكنهم قلقون علينا نحن المحررين. نظراتهم تقول لنا: وا أسفاه على شبابكم، عن قريب سيكسرون عظامكم! ولكنهم فرحون. لأن غياب الجريدة لديهم يضع الأمور في حدها النهائي. ان احتجاب هذه الوريقة أفضل من صدورها في صورتها اليومية وكأن أمرا لم يحدث. صباح كل يوم نذهب الى الجريدة ونحن ملزمون، بعد النزول من الباص، بعبور الشارع. خلال هذه المسافة القصيرة تصبح كل الاحتمالات موضع امتحان حقيقي. في هذه المسافة القصيرة نحاول أن نحتمي بمظهر المواطنين العابرين الذين لا يعرفون السياسة والتحزب. وخلال ذلك نراقب باب الجريدة لنرى ما يدل على انها اُنتهكت، او إن الأمور لا تزال مستمرة كما هي كل يوم. نعبر الطريق ونحن ندرك اننا مرصودون من أعين العسس المتحفزين بانتظار الأوامر. ندخل الجريدة فنجد وجوه المحررين، آنذاك ينحلّ القلق ويعود أمان العادة اليومية. اليوم عبرت الشارع بثقة وبرود غريبين، بل إنني اخترقت إثنين منهم عامداً. أنا ما وصلت هذا البراد إلاّ بعد اجتياز حاجز الخوف الأسود ووطّنت نفسي لأسوأ الأمور. * * * 31/3/1979 في الصباح لبست أفضل ما لدي من ملابس ووضعت زهرة قرنفل في صدري وذهبت الى الجريدة، اليوم هو العيد 45 لتأسيس حزبنا. بأي ثمن وبأية وسيلة ينبغي أن نستدعي الفرح.. قد تكون نفوسنا مصدعة، ولكن ممارسة هذا التقليد تعطينا حيوية وتجدداً. تعانقنا في الجريدة وقبّلنا بعضنا. وجلبت (فاطمة) سلة من زهور وأغان وحلوى. يا لقلتنا ويا لوحشة الجريدة! مع ذلك يمكن أن نصنع فرحاً متواضعاً كما في خلية من خلايا الحزب. عللنا أنفسنا بأخيلة لا تحد، عن رفاقنا الذين يحتفلون في كل مكان في العالم. البرقيات التي تتالت أعطتنا إحساساً بالمهابة. هذه المجموعة القليلة هي جذر الحزب في التربة العراقية القاسية، وكنا نعرف كم من انسان فرح في مخبئه وكم من مجموعة أقامت فرحاً سرياً. هذه المناسبات تستحيل كل عام الى مهرجان حقيقي. هذا الفرح الموحش له طعم خاص، كشمعة توقد في قلب المحنة الصعبة. قال لنا رفيق… ليس هذا أول فرح صعب.. لمرات احتفلنا في بيوت الاختفاء، ولمرات احتفلنا في السجون ، وأحياناً في زنازين انفرادية. قلنا إذن ستنجلي السحابة وسيكون احتفالنا الصغير هذا ذكرى جميلة.. في كل العالم يبدأ رفاقنا احتفالاتهم بشرب نخبنا، نحن القلة المحاصرة التي أنجزت العدد الاح?فالي للجريدة بتحدٍ عجيب. * * * 6/4/1979 قبل أن نعود الى بيوتنا جاءنا رئيس التحرير عجولاً وعلى فمه ابتسامة مقتصدة وعصبية: "هيئوا أنفسكم لـ"الفكر الجديد"! فقد أغلقوا جريدتنا لمدة شهر!". فوجئنا بالرغم من علمنا بأنهم سيغلقون هذه الجريدة نهائياً ذات يوم. في البداية كان صمت، وبعد ذلك بدأت أول التعليقات وبسرعة اكتشفنا إن الأمر ليس الاّ مفارقة. لم نحزن، بل بالعكس، عرفنا ان هذه الوريقة التي كنا نستخف بها اصبحت في الأيام الاخيرة موجعة.. انهم لا يحتملون حتى أدنى عتاب على اخطائهم. وما هذه التصريحات حول الديمقراطية وحرية الحوار إلاّ هراء. كنا نعرف إن الأمر لا يمر بسهولة، وإن الناس سيتساءلون.. فكرت بأيام الفراغ الآتية: ماذا سأفعل؟ * * * 7/4/1979 أول يوم بعد تعطيل الجريدة.. منذ سنوات وأنا لا أعرف يوماً لا عمل فيه. في أيام الاجازات أحس بالخطيئة. اليوم شعرت بفراغ مربك .. تجمّعنا كلنا في جلسة احاديث ساخرة. نريد أن نفعل شيئاً مفيداً لا نعرف ما هو. الفراغ سأم وينبغي أن يكون هناك حل.. هكذا.. فكرت. ينبغي أن أعد نفسي من الآن لعمل ما (عامل بناء، بائع، كاتب.. الخ) ، استعداداً ليوم تعطّل فيه الجريدة نهائياً. 14/4/1979 أعبر الشارع وأحيط جسدي النحيل المضعضع بحذر مرضي.. دائماً يراودني هاجس إن سيارة مموهة تكمن لي في زقاق او ساحة او شارع عام ، ستمرق كالبرق لتصدمني. وقد رأيت كيف تطير جثة انسان في الهواء مثل صرة قماش من صدمة السيارة. سيارة أخرى ستفعل ذلك معي وتتوارى بسرعة تاركة جثتي محطمة ممزقة على اسفلت الشارع. لذلك أعبر الشوارع بحذر مفرط يربكني، وألتفت بفزع كلما سمعت صوت سيارة ورائي . تقبلت فكرة الموت وأكاد أرى قاتلي وشكل مقتلي. لكني أخاف من موت غادر كهذا بمصادفة مصنوعة. ما من شك انهم يلفقون لنا مؤامرة ما، يلفقون لنا ذنب يكفي لإبادتنا. وهذا بالنسبة لهم أمر استطرادي. لقد عرفت إنهم أعدموا حتى الآن ألف كردي، والعجلة تدور، وكلما زاد خوفهم دارت عجلتهم الدامية بسرعة أكثر. أنا الوحيد من رفاق الجريدة اتحرك ماشياً في الأزقة والشوارع تحت أنظارهم، أثير شهيتهم كفريسة جاهزة سهلة. كم من الأمور سأتركها مبتورة بعدي. ولكني أعوّل حقاً على تضامن رفاقنا من الخارج. حتى الآن لم يصل البعثيون الى مرحلة الاستهانة بهذه الحملة. لي في الخارج اصدقاء ورفاق كثر. أنا متأكد من إنهم سيفعلون الكثير إذا حدث لي مكروه. بدأت أضيق بمنع السفر. بودي لو يسمحوا لي بالسفر أياماً قليلة. بشبق اتذكر وأنا وسط هذا الضيق الخانق، تلك السواحل الاوربية الجميلة المكتظة بأجساد النساء. اتذكر المدن والساحات الفارهة. بودي لو أسافر. 26/4/1979 أكان هذا وداعاً.. اليوم كانت عواطفنا أزاء بعضنا مرهفة رقيقة كأجراس بعيدة. قال لي يوسف الصائغ : مهما كانت الأمور لابد أن نلتقي بعضنا. وقال نبيل ياسين أن الحزن يكبس قلبه منذ أيام. تبادلنا العناوين والأرقام والوسائل التي سنتصل ببعضنا عن طريقها.. كأننا التقينا بعضنا صدفة في الطريق، ذاهبون الى (محطة) غامضة. وكان محزناً جداً أن نفترق بهذا الشكل.. كأن إحساساً ما خلف هذا الوداع الحار بأنه وداع غير مضمون يجلله الخطر.. في أعماقه كان كل واحد منا مثقلاً بهاجس مرير بأنه لن يرى هذه الوجوه التي عايشها طويلاً. شعرت بأسى عميق على هذا الرجل(ع)* الذي يحمل هموم الحزب بيد ووحشته باليد الأخرى*. في أعماقه يود لو إننا بقينا معه، لأن الوحدة شديدة العذاب عليه ولكنه لا يريد أن يضعنا عرضة لخطر لا فائدة منه. يعرف إن في تجمعنا معاً خيطاً من الأمان، يكون لكياننا العلني حجم منظور ولكن ضرورات العمل أكبر من مشاعره وأكبر من أحزاننا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * رئيس تحرير الجريدة عبد الرزاق الصافي * * * 26/4/1979 منذ الصباح حملت روايتي إلى (ع) ليقرأها كما وعدني. رأيت على وجهه شحوباً غريباً. أخذ الرواية وأعادها إلي. قال فات وقت قراءتها. ربما سيعتقلونني اليوم. ثم ساق الخبر المفاجىء: لقد اعتقلوا ابو نصير وابو سامان والسائق محمد. عوائلهم اتصلت قبل قليل وقالوا إنهم لم يصلوا البيت. إذن فقد اختطفوهم من الطريق. وأنا اتحدث معه جاء أحد سائقي جريدتنا وقال إنه بحث في كل تلك الطرق عن سيارتهم فلم يجدها.. خفنا أن يكون حادثاً مقصوداً قد حدث لسيارتهم في ذلك الطريق. وخلال ذلك جاء من يخبرنا بأن فاضل الربيعي * خرج من البيت صباحاً ولم يصل. لقد باشروا إذن بتنفيذ وعدهم. بدأت الحملة النهائية. ألهذا صلة بالأخبار الآتية من كردستان: لقد اصطدم رفاقنا بالجيش وقتلوا 25 جندياً في معركة مع كمين نصب لهم؟ تجمعنا معاً في غرفة واحدة. نضحك ونسخر ونتذكر المفارقات. لكن كل واحد منا يعرف إن هذا الضحك كاذب. من النوافذ كنا نرى سياراتهم تدور حول الجريدة في إستعراض استفزازي ولكن ليس لمجرد الاستعراض. وأنا أستعد للخروج اقترب مني (ع)* وقال لي لا تخرج ماشياً! وكأننا نرثي أنفسنا، تحدثنا عن رفيقينا اللذين اعتقلا، كلاهما مريض وكبير السن. في داخلي قلت إنهما سيساومونهم?، تحت وطأة التعذيب، ليكونا ضمن التشكيلة المصطنعة الجديدة التي ستستلم الجريدة بعد تصفيتنا. دخلت الى الجريدة مجموعة استفزازية تريد ان تعلق لافتة تقول (من لا يحترم الزمن لا يحترم الوطن!). ومن النافذة أشار الي (ع) على رجل الأمن المكلف بمراقبته. كان يرتدي بدلة خضراء ونظارة سوداء وهو يتطلع الى الباب باستمرار ساهياً عن نظراتنا. لقد تأكدنا اليوم من إنه سيلقى القبض على من يغادر الجريدة. لوقت طويل بقينا ندور داخل هذه البناية المحاصرة التي صمدت بوجوههم اكثر مما يجب. إنهم الآن يتململون لأنه آن الأوان لوضع حد لهذه اللعبة. سلوى سألتني ببساطة: هل لك أن تعطيني فكرة.. كيف سيأخذونني؟ قلت حدث لكل الرفاق الذين أخذوهم من سياراتهم: يعترضون السيارة وينزلون سائقها او يركبون معه الى المعتقل. وكانت تفكر بأولادها، فقالت لي: أيصح إنهم سيأخذون اطفالي؟ لقد اتصلت بالبيت فلم يجبني منهم أحد. كنا نريد أن نبقى مع (ع) لأطول فترة ممكنة لنحميه بوجودنا. لكنه كان يستعد بوجه شاحب وهادىء يصفي أوراقه. لقد بقي وحيداً يحمل عبء الحزب.. يا لوحشته وصلابته. قبل ان نغادر الجريدة تلمسنا أعناقنا وأجسادنا كأنما نودعها. (ع) قال لنا أن نخرج لنجرّب أنا وسلوى. رجاء وقفت وقالت (يا عيني).. يعز عليها أن تعرف إنهم سيعتقلوننا بعد قليل. خرجنا بسيارة سلوى واخترقنا حلقة التطويق وعيونهم تراقبنا بشهوة الصياد لفريسته. وهكذا وصلت البيت واصبح علي أن أعد نفسي لمرحلة الاختفاء، اذا أفلت من هؤلاء الذين ينتظرونني تحت. * * * 5/5/1979 (اليوم الأخير في حياة الجريدة) ما استطعت اليوم البقاء في مخبئي. خرقت التوجيهات وذهبت الى الجريدة. وأنا في الباص رأيت حارسنا في مكانه. نزلت وذهبت الى البناية ومن جانب عيني كنت أرى السيارات والموتوسيكلات التي تطوقها. دخلت البناية فرأيت الشلة الصغيرة المتبقية من محرري "الفكر الجديد" متجمعين في بهو الجريدة. استقبلوني كأني أعود إليهم بعد غياب سنوات. مع هذا الحزن والوحشة كانت العواطف متوقدة كالمجامر وأخبروني إننا سنتوادع عما قليل لأن "الفكر الجديد" ستُغلق وإن هذا آخر يوم لوجودهم هنا. أعطينا لبعضنا خطط اللقاء ووسائله. تجولت في البناية.. كل الغرف قد اغلقت والمحارق تبعث دخان آخر الأوراق والوثائق. كانوا قد أحاطوا بنا كما تحيط الأسورة بالمعصم.. احتلوا البيوت المجاورة واغلقوا الأزقة المؤدية الينا .في كل يوم يرافقوننا على دراجاتهم النارية، من البيت الى الجريدة - إلى البيت . يجددون عسسهم حتى يتعرف أكبر عدد منهم على وجوهنا . كانوا يعدون لـ(ع) مقتلاً يليق بقائد عذبهم ولم يستسلم لضغوطهم. طوال فترة التطويق لم يفقد صوابه، كان يدرسهم بمقدار ما يدرسونه، يبحث فيهم وفي تحركاتهم عن ثغرة، وبهدوء وسرية رسم خطوته وأفلت منهم . والمضحك إن هناك من شاهد الحراسة مستمرة حتى بعد يومين من هربه. يا له من هرب جميل وشجاع. أنا قارنته بهرب ذاك الأرنب الهلع (م.ع) وباستسلام الاثنين اللذين كانا يسيران أمام مراقبيهما بأمان حتى خطفوهما. بالرغم من إننا نتوقع الضربة الانتقامية، لكننا اجتمعنا في الجريدة مرة أخرى. وما أخطأنا فقد كان هذا اللقاء الأخير جميلاً يساوي كل خساراته المحتملة.
|