ليس الظرف الثقافي والإبداعي ،في تشكيل ظاهرة كـ(قصيدة الشعر)، خافيا على القريب من طرحها، سواء من كان عضوا فاعلا في الدعوة إليها أو الامتثال إلى ما تَحَدَّدَ من أطرها المستوحاة من ندرة ما أنتجه مبدعوها، أم الذين وقفوا إلى جانبها وساندوها أو تضادوا معها نقديا، أو من حاولوا خطف ثمارها قبل النضوج، فظلت فجة على الرغم من كثرة ما تساقط من مفرداتها.
ومع أن الاستجابة للظرف بكل عناصره الضاغطة تمثل حيوية لكل توجه أو فعل، فإنها تبقى رهينة ذلك الظرف ومرتبطة بمحدداته التي يزول تأثير ما أُنتج بحافزها انسياقا مع زوالها، ولكن هل كانت (قصيدة الشعر) ناتجا مؤقتا، لا يملك قوة خلخلة الممارسات الشعرية والمفاهيم التي اُعتيد عليها، مثلما تنطوي على قدر من الخلخلة في المستقر من المصطلحات؟ إذا كيف يمكن الجمع بين الظرفي الطارئ والجوهري المستمر؟ الجمع يأتي من أصالة الظاهرة وحيويتها من جهة، والموقع الزمكاني الذي تشغله، وطبيعة ما تمثله من جهة أخرى.
فقد جاءت رد فعل على تهافت التجارب الشعرية التي كانت سائدة في العراق، وربما في العديد من البيئات الشعرية العربية، ولاسيما ما كان يكتب مؤطرا بالإيقاع الموروث ( البيت الشعري الموزون )، والإيقاع الشعري الحر ( التفعلية)، على الرغم من الزخم الموضوعي الحاد وبلوغ الأزمات، غير المفضية إلى منفذ مأمون، حدا أقصويا، ما بين سني الاختمار والاختبار الفني ـ العملي لها ( 1996ـ 1999)، إذ شهدت سنة 99 الولادة العلنية (الرسمية) لمشروع قصيدة الشعر، في ملتقى الرصافة الثاني للشعر العربي (13ـ 15/ نيسان /1999)، تنظيرا وتحليلا ونماذج، وقد ضم العدد السادس من مجلة (أشرعة) ـ محدودة الانتشار ـ الصادر في تموز 1999، أعمال هذا الملتقى، لكن التصاعد في التجريب، الذي استمر حتى سنة 2001، واجه في معظم هذه التجارب نوعا من الضمور الجمالي / الفني .
كما جاءت ( قصيدة الشعر) رد فعل على تسيد نماذج قاصرة لقصيدة النثر، بعضها اتكأ على الاستسهال في الكتابة مع فقر التجربة، وبعضها استغل ضعف الاستجابة للإبداع، نتيجة حراجة الظرف الحضاري، الذي كان يمر به البلد ليمرر تهويماته المنضبة من طاقة الإبداع .
ولكن العامل الأكثر حسما في نقاط التقاطع مع الآخر( المختلف) هو التطرف والتنافر المزدوج / المتبادل، فقد كان الموقف بإزاء الطرف الأول ـ وتشغله التجارب الشعرية الموزونة ـ ناتجا عن الإقصاء الذي مورس على كل أنموذج مطور أو مختلف عن السائد الراكد والهامد، الذي استسلم للنظم على حساب الجوهر (الشعر)، وقد ظلت العلاقة مع هذا الطرف ـ من جانبه ـ مبنية على الصمت المنطوي على رفض المواجهة، وذلك لأن المواجهة ترفع الجديد ( قصيدة الشعر ) إلى حيز المأسسة، ليزيح سيادة المؤسسة الشعرية المهيمنة على المشهد . أما الطرف الآخر وتشغله تجارب قصيدة النثر فقد كان تطرفه ورفضه للمغاير، بحجة استقراره في منطقة الماضي (السلفي) ، وأنه لم يعد مناسبا للعصر، سببا في الدعوة إلى نسف مرتكزاته الفنية وإزاحته من منطقة الشعر وكان رد الفعل في طروحات من تبنى (قصيدة الشعر)، السعي لتهشيم قاعدة الانتماء إلى الشعر بحجة الافتقار إلى تكاملية الأداء فيه، إذ إن قصيدة النثر قصيدة ولكن ضمن حيز النثر، لذا يقع منجزها خارج حدود اكتمال الفعل الشعري المكتفي بعناصره، المتناسبة مع خصوصية ذلك الفن في الثقافة العربية، على حين تقع قصيدة الشعر في حيز الشعر ولا ينقصها عنصر من عناصر فعله الإبداعي .
صراع الوجود هو الذي كان يحكم العلاقة، لا التطلع إلى تحقيق الجديد فحسب وضمان الانتقال إلى مجال الإضافة بدلا من التبعية والانتشاء بالامتداد، وإذ كان مثل هذا الصراع غير منظور أو مكتوم ولم تشأ له ظروفه أن يظهر، فإن ذلك بسبب التعتيم المتعمد ـ آنذاك ـ سواء من المؤسسة التي تئد كل ما يحاول زحزحة استقرارها المشخصن، أم من المضاد لهذه المؤسسة ممن يحتل مساحة خارج رسميتها، إن كان في ذراعه الداخلية أو ذراعه المتصلة بالخارج وكان الحضور من على ممكانتها هو الهدف الاسمي لدى البعض، لذا لابد من الاحتكام إلى ذائقتها وإتباع خطاها، وإقصاء ما يغايرها، وقمعه إن أمكن . وذلك منتهى الظلم الذي أصاب ثقافة فاعلة كالثقافة العراقية آنئذٍ . ولكن هل من أسباب ذاتية لا سلطة خارجية عليها، لم تجعل للحراك الإبداعي أن يبرز؟ لاشك في ذلك وهي بحاجة إلى معالجات جذرية لأنها ما زالت مستحكمة حتى الآن .
فيما يتعلق بقصيدة الشعر فإنها شهدت تخليا فنيا ـ لأسباب شتى ـ عن التمعن الحقيقي فيها وتنمية حضورها الفاعل بامتلاء، لا باستحضار شبح ما أنجزته في أوائل بزوغها، والمتاجرة به، أو الوقوف على أطلاله من دون صدق بقدر ما هو ذريعة للوجود في مشهد الإبداع، أو ادعاء مركزية الفعل فيها لا الالتحاق بحراكها (مسيرتها) فحسب، أو تضخيم حجم منجزها من دون مسوغ، فالتجربة التي تحرز نجاحا ـ استنادا إلى وعي أصحابها ضمن مرحلتها ـ في بداية الانطلاق، لا تكرس أثرا مشهودا ما لم تتحول إلى نمط كتابي راسخ ولو مرحليا أو أن يتمأسس على وفقها النتاج الشعري، ويؤرخ لما قبلها وما بعدها، وإن كانت الأرخنة للأدب ضعيفة في ثقافتنا لدوافع في الغالب شخصية وديماغوجية، وهذا لا يمنع اقتراب منحى قصيدة الشعر من كثير من التجارب لا في العراق فحسب ، التي قد تكون غير مهتمة بالتأسيس النظري أو الإسناد النقدي، لكنها تكرس التوجه من خلال التجربة الشعرية.
طرحت قصيدة الشعر برنامجا كتابيا، مبنيا على ممارسات إبداعية متحققة وأخرى مرتجاةـ وربما المدعاة ـ ولكنها كما مر مرتبطة براهنية ما طُرحت بإزائه، يؤكد هذا البرنامج على ثوابت الانتساب إلى دائرة الشعر النقي منها :
ضرورة الإيقاع :
المقصود هنا الإيقاع الذي تصنفه معظم الدراسات بأنه (إيقاع خارجي)، وينحصر في الوزن الشعري إن تحقق عروضيا، قائما على( البيت)، المحتكم إلى الأبحر الشعرية الموروثة أو المستحدثة، أو تحقق بالاستعمال المقيد والحر للوحدة الإيقاعية الأصغر وهي (التفعيلة)، وهو المجال الساند للأداء الذي يحدد مجال الكتابة على وفق نظامه، ويؤطر التعبير فيها، وعليه فهو جزء أساسي لا يمكن فصله عن التجربة الشعرية، التي يكون فيها هذا النوع من الإيقاع، عاملا عازلا للتعبير عن عمومية الخطاب المتداول حتى في توجهه الجمالي، فهو إذاً ليس زيادة يمكن الاستغناء عنها كما أنه ليس عنصرا تتحقق به الشعرية، إذا ما كان منفردا (مجردا) أو كان مضافا لتعبير نثري ذي قصد غير جمالي / إبداعي ، إذ يتوافر على طاقة الاستيعاب في النظم فحسب، ولا يكون عازلا جماليا بقدر ما يكون آلية للتمييز وإبراز الأثر وإسناده بدفق تطريبي، كما في المنظومات التعليمية وقصائد الموضوعات ذات التوجهات الأيديولوجية البحت وغيرها . ويلحق بهذا الإيقاع (الخارجي) إيقاع من مادة الأداء التعبيري المنحصر بالكلام، وقد عبر عنه بصور مختلفة كتعاضد الترتيب الإيقاعي القائم جزئيا على تراتب (متحرك ـ ساكن ) والعنصر الصوتي مع التكرار في نظام التقفية . أو التكرار اللفظي والصوتي، كما رصدت ذلك متون البلاغة أو القائم على تكرار دوري لا كلي كنظام اللازمة، ويمكن أن يشكل ذلك إيقاعا داخليا، مادام من مادة الأداء نفسها، إلى غير ذلك من فنون تأطير التعبير الشعري إيقاعيا، وعزله عن العموم التعبيري الفاقد للإيقاع في النثر، وهذا يعني ضرورة التخلي عن نظرة التشدد في ماهية الإيقاع والنظر إلى وجوده الجوهري، بوصفه عنصرا أساسيا في تحقق الشعر كفن، لا مظهرا من مظاهر الشعرية التي قد تتحقق بفقدان عنصر من عناصر الشعر، ولا يعد اشتراط الإيقاع في قصيدة الشعر انحسار النظر إلى إيقاعات غير الإيقاعات المعروفة، فحالما يتحقق الشعر فنيا في نص ما يجترح إيقاعا مناسبا فلن يكون خارج دائرة ما تضمه تجربة قصيدة الشعر .
إستراتيجية الانزياح :
ركز الجهد النظري لتوجه (قصيدة الشعر)، مسلحا بطاقة ثورية تحاول مفارقة ما أنتج من متون شعرية، على ( التجاوز في علاقة الانزياح)، ويقع هذا التوجه ضمن دائرة التعبير الشعري الذي لا يفارقه التعبير في قصيدة الشعر، لذا استلزم الاختلاف ـ أو الرغبة الملحة في الاختلاف ـ الانتقال من مفارقة الوجود الفيزياوي للعالم، وما يمثله من خطاب مرجعي، لا يخرج عن منطق التواصل والإبلاغ، إلى مفارقة ما أنتج من تعبير شعري، جوهره استعمال اللغة كمادة في صنع منطق مفارق لمنطق التعامل المعتاد مع الواقع وقضاياه ، لمعالجة ما يستعيض عن لغة التواصل بلغة المواقف، غير المعنية بإبلاغ تخاطبي قائم على الفعل ورد الفعل .
وقد كان للطاقة الثورية أثرها في تصعيد المد النظري للممارسة الشعرية حين تقرر أن يكون التجاوز مقترنا بالرؤيا ( التي يحملها الشاعر متجاوزا بها حتى المجازات وأنظمتها التي لم تعد تتسع لسعة هذه الرؤيا)، ولكن هذا التجاوز يجب أن لا يفهم على أنه افتراض منطق جديد لنظم التعبير المنزاحة عن لغة التواصل، مما يوقعنا في منطقة خارجة عن الشعر إلى ما يضادّه، وإنما هو محرك لفعالية تنطلق من تمثل لخزين التجارب السابقة، لتفرض منطقها الانزياحي الخاص، ليس بالضرورة خارج مجال ما هو مكرس من نظم الانزياح، ولكن برؤى مختلفة متفاعلة مع عصرها ووعي مقتضيات التفاعل مع هذا العصر وتعقيداته، لذا تكون بإزاء طرق مختلفة في التعبير عن مركب الموقف الرؤيوي والفعل الجمالي وأفق التلقي التي تحكم المنجز الشعري . وعليه فإن طاقة الثورة التي تشابه طاقة الخطأ المنتج أحيانا، يمكن أن تكون خلف اختطاط وممارسة نهج يقوم على معاملة ( المجازات معاملة حقيقية توجب على الشاعر بإزائها ممارسة فعل انزياحي تجاوزي ) ولكن إلى أين وكيف ؟؟ وهل يعني ذلك الانفصال التام عن قاعدة الاستجابة، التي يمكن خلخلتها ولكن لا يمكن نسفها بالكامل، وهل يعني هذا إنتاج معميات تفرزها سعة مخيال منفلت من توجيه الرؤيا، أو الانشغال بحجاب الشكل والاستغراق في اعتباطية الانزياح الفاقد للدلالة الأولى المحفزة، والدلالة الثانية المرسخة بدولها الفائقة . الإجابة عن كل هذه الأسئلة وغيرها، لا يصح أن تثار من اتخاذ حرفية الإشارة إلى ضرورة البحث عما يتجاوز التعبير المنزاح أصلا، فيذهب الوهم إلى أن القصد منصرف إلى إيجاد بديل عن عالم الحقيقة من عالم المجاز وتجاوزه . بل القصد منصرف إلى التعامل ببكرية موجهة ـ من حيث الأداء المنزاح ـ إلى ما يراد التعبير عنه، ويقترن بجذر واقعي يتعمق باستشعاره الفرد المبدع (الشاعر)، لذا يكون ممارسا للتمثيل الجمعي في التفاعل معه .
عقبة التغريض :
لا مجانية في الدلالة لقصيدة الشعر، وإن تعددت موارد تأويلها اقترانا بخصب مخيال المتلقي ونوع ثقافته، لكن ذلك لا يعني خضوعها لراهنية تعبير مؤدلج أو قدامة مبدأ ما أو حتى حداثته، فكيف يمكن التوفيق بين هذين الضدين، في طرح يبتعد عن وسطية زائفة، أو مواربة تتملق طروحات متضادة، مثلما يبتعد عن تفسير قاصر لنماذج إبداعية يتوازى فيها الفعل الإبداعي، من حيث عمق ما يتثقف به النص من معطى معرفي، مع أصالة الأداء وجدته التي تخرق أفق التلقي الساكن وتشكل إضافة نوعية لا تلغي الأفق السابق بل توسع من أمديته، وهي بعد لا تفتقد اشتراط المنحى الجمالي غير الناضب أو لما يؤثثه من جمالية مغامرة . وهذا المنحى الفني ، لا يُعنى به أميو التلقي المعاصر، والسطحيون في فهم ضرورة الفن وموازاته لأعلى قيم الحضارة، والمنشغلون ببهرجة الشكل غير ملتفتين إلى خواء المعنى إنتاجا واستجابة، وإذا كان للتخلف أثر في نجاح مداعبات المستقر من ضغط تراثي (سلفي) على الجمهور، فإن ما ينتج سيكون رهن الزوال، حالما يزداد الوعي، وهو ما شهدته تجارب الماضي بكل تحولاته، فلم َ لا يتحقق في الحاضر والمستقبل ؟ ذلك أن المحافظة على الصلة مع الجمهور، بحضوره الأفقي الشامل ـ الكمي لا النوعي ـ تقتضي الاجترار، وإنتاج نسخ مزيفة عما هو مألوف من نصوص التراث في الماضي البعيد والقريب وشذراته الشائعة، لا النادرة، التي لا تنضب طاقة إشعاعها دورات الزمن، وتلك وظيفة المطرب المؤنس،لا وظيفة الشاعر الرائي، كما أن منطقة المطرب ،تكرس أصالة في الاداء لا ينبغي أن يزاحمه الشعر ـ بوصفه فنا مستقلا ـ عليها . ذلك المنحى الارتدادي وسواه هو ما يعزز النكسات الحضارية، ويبعث على الكسل في تحصيل إرساليات الفن والمعرفة، وهي قضية ترتبط النظم التعليمية والثقافية التي تهيمن عليها سقوف واطئة ، ومن الخطر أن تتبناها النخب الابداعية والثقافية .
إذاً لا بد من المكوث خارج حدود ما يرسمه الغرض، سواء بمحدداته القديمة أم بأقنعته المعاصرة التي لا تغادر الانقياد إلى تراثها، أو الموضوع المستحضر قبل الشروع في إكسائه ملامح صياغية جمالية ( تزويقه)، وهو ما يعمِّد تجربة التغريض التي حاصرت الكثير من التجارب وأخرجت مقول الغرض من جسد النص، وهشمت بنيته الكلية المتماسكة . كما تقتضي المغايرة أن لا يستسلم لاستعراض إمكاناته التعبيرية على وفق مجانية، تصل إلى الآلية في الرصف التعبيري ، والتداعي المبني على المصادفة الجمالية .
ولكن هل قصيدة الشعر مع الغموض المجاني ، المنضب من طاقة الابداع من المنحى الدال في الفن ، وهذا التوجه يقصي الشعر بنيويا عن مجال الانتماء الى الكتابة الأدبية ضمن هذا الفن . الأمر منحصر في الخلوص لطبيعة الشعر ونمذجة القصيدة التي لا تشاركها فكرة قبل حضورها في ذهن (روع) الشاعر الحقيقي لا الناظم ـ ذي الشاعرية الزائفة ـ الذي يقدم موضوعه أو موقفه الفكري أو الاجتماعي أو سببه حتى النفسي على فعله الإبداعي،لأن هذه الممارسات ما لم تكن هاجسا، لا ينفصل عن مادة الشعر في القصيدة لحين اكتماله، ربما تنتمي إلى وعي الفصل بين القصيدة وموضوعها / غرضها، أي ممارسة التغريض التي كانت موجهة بدوافع غير ملتزمة فنيا بنقاء الشعر وانفصاله عن الراهن، وربما تكون من مخلفات فصل افتراضي ليس للشاعر دخل فيه، لأنه مورس بعد طرحه نتاجه، وان كان هذا الفعل مستنفدا فعلى قصيدة الشعر شأنها شأن موجات التجديد، أن تحرر الشعر منه لضمان بقائه حيا .
الموقعون : د. فائز الشرع، د. مشتاق عباس معن، علي محمد سعيد, نوفل ابو رغيف، حسن عبد راضي ,د. علاء جبر الموسوي، قاسم السنجري، د.مهدي جاسم،احسان محمد التميمي، طاهر الكعبي.
القاهرة |