|
|
تأملات : موت في كوبنهاجن وأحاديث مع كيركغارد |
|
|
|
|
تاريخ النشر
06/05/2015 06:00 AM
|
|
|
وأنا أجرجر قدمي المتعبتين بمحاذاة سور المقبرة في النوربرو، تخيلت في ساعة روحانية موتي والتقائي بكيركغارد المدفون فيها . لقد رأى الفيلسوف الوجودي الميت منذ مئتي عام شخصا قصيرا يتعثر تحت نور شحيح ، بدا من مشيته أنه غير معتاد على موته بعد، غير مصدق ، يتلفت ويتحسس صدره ورأسه، فعرفه على الفور، وراح يتجاذب معه الحديث مبادرا من سؤال مرح : ماذا يفعل رجل من أرض الشمس في أرض البرد والجليد هذه؟ دائما علينا أن نتوقع أسئلة حتى في الأماكن التي تكف اللغة فيها عن العمل. في مقبرة عراقية هناك من يلقننا الأجوبة على أسئلة الملاكين "منكر ونكير" قبل أن ينزلنا الى الغياهب. تعمل مبادئ الهوية الدينية في المقابر، وهي من تدفع بنا ونحن في طريقنا الى عالم الأشياء الى من يمهر عظامنا بإشارة عبور، مثلما في الحياة تطلب منك دورية عسكرية هويتك الشخصية ، تطابق صورتك الفوتغرافية بملامحك الحيّة، وقد يشكك الفاحص بالهوية أو بشخصك ، ويدمر لك حياتك أو يومك الباقي بالإذلال . في العالم الذي جئت منه ينزل تصور مكتبي معنا في القبور. في الدانمارك لا أحد يسألك عن هويتك ، كما لا توجد سلطة ملقنين دينيين ، بالرغم من ذلك ، حتى وأنا في مقبرة غير معنية بأفكاري أو ديني ، وجدتني أعدّ جوابا أواصل فيه لجوئي الى الدانمارك أقدمه لميت قديم احترمته . قلت : جئت طلبا للحرية هاربا من مسدسات كاتمة الصوت . جئت لاستريح من عدوان الجسد ، من ضغط الأخبار السيئة ، من فواجع بلدي ، من انحطاطه الحضاري ، من ميتاته التي تميتني على دفعات وبألم ، من لصوصية السياسيين العراقيين وتفاهتهم وجهلهم. بيد أنني كعادة المتعلم العراقي الذي يعتني بلغته وهو يدرك شخصية المخاطب الثقافية ، أعددت خطابا مارست فيه شغبي كوجودي ستيني أمام مفكر وجودي أصيل. الحقيقة انتابني بعض الارتباك من إمكانية أن أتعثر بين حسيّ المأساوي وسخريتي الفظة. لقد تذكرت السخرية الفولتيرية التي تقول إن الأحياء يزيفون عمل الأموات - لكن هذا في التاريخ والقراءة الناتجة عن تباعد الزمن وليّ الكلمات والأفكار. في حين هناك أمثلة متزايدة على أن بعض الاموات يركبون الأحياء ويستخدمونهم كمطايا مثلما يحدث في بلدي بمباركة من الأخيرين وباحتفالية تُنحر فيها الضحايا البشرية. وثمة حيّ يلتفت الى حياته فلا يجدها فيمارس ميتات ويقظات متناوبة كما في حالتي . أذكّر نفسي : ستكون جديدا على حياة الموت بلا تدريب. ماذا يعني هذا؟ لست متأكدا. ربما أن أعيش بين الحياة والموت هائما مطاردا. في النهاية حزمت أمري وتحدثت بلغة تطرح الأسئلة التي قد تكون مدخلا محتالا : "هل هذا مهم الآن؟ لقد انتهى قلقي – أنت الذي كتبت عن القلق كتابا – ما الذي يتبقى لكي نقلق عليه ومنه أو لا نقلق ابدا ؟ ما الاهتمام الذي ينبغي علينا أن نأخذه على عاتقنا؟ هل ثمة واجبات وأحزان؟ أنت الذي خبرت الموت طيلة قرنين ما الذي يجري؟ ما الذي يصلح للتفكير والتأمل في هذا العدم الأصيل مقابل ذاك الذهني الذي تضعه البلاغة في سياق مفردة تبدو أقل غموضا ألا وهي الوجود؟ أسألك ايضا : هل يمكن الحديث عن الحرية؟ هل نبدو ميتين أحمقين يقفان على الجسر الموصول بالكينونة فيما زال وعيهما يسأل عن الحياة التي غادراها؟". لا يجيب كيركغارد . لم أكن أراه بل أحسّه . قلت في نفسي إنه لا يراني . لعله عالق على ذلك الجسر. هذه الرؤية الخيالية جزء من مشاعر راحت تهاجمني في كوبنهاجن، تصاعدت مع المقالات التي أكتبها عن السياسة في بلدي التي يقبلها قلبي ويرفضها عقلي ، إذ أراني فيها باحثا عن آلة جارحة بدلا من العبارات، ثم توقعاتي عن الباقي من حياتي . دائما تأتيني أخبار من الوطن تؤكد حصول تورم في الموت حتى الفيضان، تمدد سوائل سوداء بسبب الضغط والحرارة ، تحولات لا يمكن ضبطها . لم يعد الموت من هذا النوع المتسلل البارع الذي يندس بهدوء في الفراش ، بل هذا مقتحم المنازل ، الأرعن ، المتكلم في الدين بالاضافة الى وظيفته كقاتل مأمور من الله. موت تجريبي . موت صبياني. موت يتكاثر في رسالة وثقافة وتعاليم . أعترف بأني أفكر بالموت . لم تعد الحياة تُعاش بل يُسأل عنها كأننا نتفقد مريضا . طيلة الوقت أغمض عيني وأتخيل الموت يقتحم أمكنة جديدة ويهدّ التحصينات العادية التي يضعها الأحياء في سياق توقعاتهم . لكن هذا الموت محتال ، يقظ على ضحاياه ، احتفالي ، ينشد أناشيد دينية. إنني مملوء برؤى هذا الموت الذي يدخل بيوت العراقيين عنوة ، أسائله وأنا أتحول، ميتا يتحدث لميت ، حيّا مضطربا يدافع عن الأموات ضد الموت . ولأني أدرك عجزي في أحوال تحولاتي ، ولاسيما أن قدراتي لم تعد تستجيب لأحلام اليقظة التي أتحول فيها الى منتقم عادل ، أراني أموت دائما ، أموت على دفعات ، أموت بؤسا وسخرية ، أمثّل موتا قريبا وبعيدا ، أختلق مناكدات تقع ما بين حياة راحت تضمر وتضمحل وموت يراقب الحياة. هل هذا صعب التصور؟ إنه أسهل وأبسط بكثير من حصاد الموت العراقي اليومي الذي يسجل ما لا يصدق من روايات موت، كأنه ينزلق على سكة، رشيقا، ليصل الى أهدافه بيسر ، فيما الاحياء الباقون يتعفنون في غرف خوفهم ينتظرون الموت ، أو يتمنونه. ما الذي يستطيع الموت أن يفعله إذا ما بات مُعديا؟ لكنه بات معديا حقا تحرسه أوثان الطوائف! ليس ميلا الى القضايا العويصة التي تقف على التخوم ، بل امكانية ناتجة عن هجوم روحي غير متوقع ، وجدتني وأنا أسير محاذاة سور مقبرة نوربرو أفكر بكيركغارد . يقدم هذا المسيحي المؤمن حبل النجاة للايمان الحقيقي بالله بعيدا عن اية سلطة . لقد انتقد الكنيسة ، وألغى كل انواع التوسط بين الفرد والله ، سواء كان التوسط دينيا أو اجتماعيا . لا ستار ولا ظلال بينك وبين الله. لا أحد . لا كنيسة ، لا جامع ، لا معبد ، لا رجل دين . والحال كنت أعرف أن هذا ما كان المسلمون يجادلون الديانات الأخرى به ويفخرون، فالإسلام يرفض التوسطات ، والعلاقة بالله هي أن تتوجه إليه كفرد بلا عون من أحد ، بلا كفالة . لكن المسلمين المسيسين لم يفهموا أنهم إنما وقفوا على واحدة من عتبات العلمانية من دون الصعود اليها- العتبة نفسها التي وقف عليها كيركغارد وظل يصعد . بالطبع لم يتوصلوا الى الحل العلماني على مستوى تنظيم الدولة والمجتمع ، بل العكس شوهوا مقاصد العلمانية بالأكاذيب ، ثم توغلوا في كهنوتية مضادة لمقاصد الدين. إنهم يزيفون على أنفسهم وعلى أعدائهم . إن العقائد الجديدة للإسلاميين الجدد تتشكل من تلصيقات وتفوهات تبدو في ظاهرها دينية وفي حقيقتها فاشية معادية للانسان. لقد كفوا عن معرفة دينهم كلما بالغوا بالتدين وانسحبوا من الحياة مودعين الشأن الروحي الى دعاة العقيدة والمتشدقين ، كما أن دينهم بات لا يعرفهم. لقد باتوا عبدة مولوخ الذي تقدم له القرابين الإنسانية. لا يتقدم الزمن بالمسلمين بل يدفعهم الى الخلف، لأنهم لا يعرفون زمنا مقداما بل زمنا راجعا ، ولأنه لا يرجع ولن يرجع يعاقبون المسلمين ويعدونهم كفرة. في رجوعهم الاحتفالي ، في مجموعيتهم المتعصبة التي تقتل الوعي الفردي شموا رائحة دم ، فإذا بهم يجنون . على أيديهم ستتحول قصص لا تصدق ، وبعضها مخجل ، الى فقه فعّال ومنفعل يدعو للحقد ونبش الأحقاد والنفخ بالجمر المطفأ. لقد جرى تحويل الإسلام الى حزب سياسي ، يدخل فيه الناس أفواجا دفعا بالعصيّ والمسدسات والأموال. يقبض الإسلام السياسي الشائع هذه الأيام على الناس من بطون أمهاتهم ويشيعهم الى القبر ، وفي هذه المسافة يحدد لباسهم ومشربهم ومشيهم وقعودهم وكتبهم وأفكارهم وزواجهم ، يندس تحت ألحفتهم ، يشق صدورهم بمشرط ، يثقب رؤوسهم بمثقب ، ويدربهم على طقوس وحشية. لم تعد للمسلم حياة شخصية ، بل باتت التوسطات المذهبية والاجتماعية والطقوسية تستولي عليها. سنحتاج الى كيركغارد مسلم ، أو نحتاج الى إعادة قراءته في سياق تاريخ آخر. نحتاج الى علاج عاجل لمنع اقتحام ضروب الموت القاسي منازلنا . نحتاج الى إرادة مدنية تسحب الإسلام من أيادي الطائفيين والداعشيين والمليشيات الدينية. أخذتني هذه الأفكار من نفسي ، ووجدتني أقفز في خيالي الى داخل المقبرة ، وهناك سمعت هدير ريح خفيفة تخترق أشجار قديمة ، فشعرت برعدة .عندما عدت الى الشارع فكرت : عندما أموت أحب أن أدفن بالقرب من كيركغارد! هذه الفكرة أذيعها ههنا كوصية ، بالرغم من أنني لست متأكدا إن كان ثمة مكان لي هناك. أنا دائما أتأخر أو يتأخرون عليّ. إن إمكانية أن أموت وأدفن في كوبنهاجن واقعية وقريبة من مشاعري وإحساسي بجسدي ، فآلام ظهري باتت لا تطاق ، وعظامي لم تعد قادرة على حملي . لا أتذمر بل أقول الحقيقة ، فأنا في النهاية اجتزت عامي الواحد والسبعين . سيكون موتي مبررا بمرض لم يكتشف في العمود الفقري ، بحزن الغربة ، بكآبة الشيخوخة ، بذعر لم يحتمله القلب . وأنا أكتب هذه الكلمات وصلني خبر وفاة صديق شبابي الأول القاص والكاتب محمود البياتي في لندن . هو الآخر كان مأزوما بسبب العراق الذي أخذ منه شبابه ودفعه سريعا الى الشيخوخة والمرض والدفن في أرض الغربة. ترى الشخصية الرئيسية في روايتي "التل" أن الموت يُتعلم . إنه ليس الدرس بمعنى أن يُضرب مثالا للأحياء لكي يتعضوا – لأن الأحياء لا يتعضون ، بل هو تدريب على تسهيل معركتنا مع الموت أثناء ما هو يسري في أجسادنا. الموت لغة ، آثار ، علامة . الموت العادي – وليس هذا الذي ترمينا به مسدسات مأجورة - ينمو معنا. الواقع أنني ما زلت أقف على قدمي حتى لو استعنت بعكاز وحبوب مخففة للألم، كما أنني ما زلت عندما أستشيط غضبا من الحياة أكتب كأنني أطلق النار. ما زلت منتجا ، لكنني منتبه كذلك الى الخطوات الوئيدة باتجاه ذلك الممر الحزين ، وأدرك أن المقاومة لا تجني نفعا ، وأن عليّ قبول هذا الذي تبقى ولا أستطيع إنكاره أو مقاومته من دون أن أسبب لنفسي ولإحبائي مزيدا من التعاسة. القبول؟ لن يفوتني هذا التدريب النيتشوي ، لكن بسبب أنني هُزمت قبل أن أعيش الحياة حقا ، أحاول أن أعوّض ما خسرته بالاستئناف والتمرد ، فأفسد على نفسي قبولا قويا كهذا عن طريق إرادة عاجزة ، وعن طريق الأفكار، الأفكار بوجه خاص . بيد أن الافكار دائما حزينة ، ناقصة ، غير تامة ، تحتاج الى زمن ، في حين يفسدها الزمن ويبددها. تجعلك الأفكار تعتقد أن عملا ناقصا ما زال ينتظر أن تنهيه ، لكن في اللحظة التالية تصدم نفسك بحقيقة أن لا شيء يُعمل. لحسن الحظ هناك الفكاهة. ولست أدري لم يرتبط الحديث عن الموت بالمزاح ، كأن تظن أن الموت ما دام لم يظفر بك في العراق فسيخف سلطانه عليك ، وسيكون بمقدورك المناورة من أجل تأجيل الضربة القاضية ، بالرغم من أنك تعرف أن الأمر لا يعدو مصادفة . الموت اعتباطي ، بلا ماض لأنه الماضي كله ، بلا مستقبل لأنه المستقبل كله ، من هنا لا يتبقى لنا سوى التسليم به ، وتحويله الى فكاهة مؤانِسة ، أو شيء ذهني كئيب لا فائدة منه يُنصح بالابتعاد عنه في العمل واللامبالاة. إن نصيحة صاحبة الحانة لكلكامش تتكرر منذ عصر ما قبل التاريخ وحتى اليوم. على سبيل الفكاهة أقول لنفسي : وهل تصدق أنك تموت في بلد اوربي ، وأن تدفن في هذه المقبرة الساحرة وسط العاصمة كوبنهاجن؟ هل تصدق وصول نجدة ملائكية قررت أن تحفظ كرامتك وتهبك مترين على أرض بعيدة؟ هو ذا سؤال مازح يريدني أن استبدل هاجس الموت بمماحكة كلامية ، بيد أنه يذكرني في الوقت نفسه باستحقاقي كعراقي في البقاء شقيا والموت في مقبرة السكران حيث دفنت أمي ايام الحرب بتاريخ 5 شباط عام 1991 في مكان تحول الى مأوى سري للصواريخ ، ثم دفنت أخي سمير بالقرب منها في الذكرى العاشرة على انتهاء الحرب مع ايران في 8 – 8 – 1998 : الموت والحرب ، ثم السلم المهزوز الذي انقلب الى حرب. هل هذه مصادفة؟ في تاريخي العائلي حادث آخر، فقد توفي والدي في 6 كانون الثاني 1963 ، أي في ذكرى تأسيس الجيش. وقبل أن نبني قبره حصل انقلاب 8 شباط ، وذهبنا أنا وأخي سمير الى التوقيف ، فيما حكمت محكمة عرفية على أبي المتوفي بالسجن لمدة 7 سنوات . بعد هذه المحنة بحثنا عن القبر ولم نجده. لقد ضاع في العشوائية العراقية وهلهلتها التي تضيّع الناس في الحياة ثم تستخف بموتهم بمقابر سيئة أشبه بالخرائب . إن إدارة المقابر هي نفسها التي أدارت الحياة المدنية للأحياء في العراق ، ضيعتهم وذهبت بهم الى حروب خاسرة وملأت نفوسهم بالخوف والكراهية وتركتهم يضحون طعاما للإمبريالية والقوى الإقليمية الحقود. هل هي مصادفة أن قائدا شيوعيا قديما بلا قبر؟ أبدا . إنه تهديف لا يخطئ ! يقول حفار القبور في هملت إن الماء عدو الجثث . في أرض النار العربية العدو هو الشمس والحرارة ، من هنا يجب دفن الموتى بسرعة . لكن بأي سرعة يجري نسيانهم ، وتحويل مدافنهم الى مكان رث تهرسه الشمس وتعافه النفس وتهرب منه؟ باتت مقبرة نوربرو ، ومقبرة فالبي القريبة من بيتي، مكانين مناسبين لرياضة تحولاتي . بيد أنني بمرور الوقت بتّ أنتبه الى ما يحيط بي من بيئة مصنوعة بجمالية معدة لحياة الأحياء واحترام الأموات . ففي الظل الوارف لأشجار نوردية سامقة تتحرك أطرافها العلوية الناتئة مع الريح ، في الصمت الوقور الذي تشيعه الشواهد الحجرية ، في المساحات الخضراء المبتلة بالندى ، والمماشي التي تخترق المقبرة وتهب لها اتجاهاتها وقياساتها وتوزيعات مساحاتها، تبدو الحياة أقل غموضا ، كأنها لوحة فنية معدة لراحة البصر والذهن المتعبين. إن الدانماركيين الذين أراهم في المقبرة يتنزهون ويتريضون ويريحون أعصابهم ، متحررين من الخوف ، لا ينتبهون الى ما هو بديهي في حياتهم المدنية ، في حين أنا ممتلئ بحكايات كاملة عن ضياع الأحياء والأموات في بلادي الذي بات صناعة عادية ، عن الكآبة التي تعصر قلوبنا كلما زرنا المقابر بعد أن ألهانا التكاثر. حتى القبور لم تسلم من التخريب والنبش والتمثيل بالبقايا وحرقها في عروض جنونية. من الغريب أن محطمي القبور ونابشيها مأمورون من موتى . لقد بات الدين بيد جهلة ومفسرين موتى تتمطى سيقانهم وتتمدد على أجساد الاحياء . بات هذا ممكنا بسبب الإفقار الحضاري والمدني وانحطاط الدولة وتحولها الى ملحق هزيل بالأنظمة السياسية . من وجهة نظر اجتماعية لا يتحكم بالحياة اليوم غير البدو والريفيين المتطيفين في شروط الإنقسام السياسي والطائفي ، وهم يرون في الشجرة الوارفة نموذجا على عظمة الخالق ، لكنهم لا يرعونها ، ولا يرونها رابطة تربط السماء والارض والانسان والمجتمع ، ولا رمزا للنماء والاستقرار والانتاج. العقل الحضاري وحده هو من يجمع الرمزية الدينية والحياة الفردية والجماعية بالموطن الذي يمنح الكفاية المادية والعاطفية. ما من مجهود للجمع الا بوجود لمسة الإنسان الحانية وأنسنته للمقدس. وهاهم أولاء غير مدربين أخلاقيا وثقافيا على الجمع بين الأرواح. هاهم الذين يشهدون على عظمة الخالق يكرهون الخلائق ، منشغلين بميراثهم الاول : التناسل والغزو والتحطيم. بين الحين والحين أزور مقبرة نوربرو معززا علاقتي بأفكار الفيلسوف الدانماركي التي تبدو حديثة جدا، بل إن بعض نصوصه تقترب من نصوص ما بعد الحداثة . تحت ظل يتضوع بالروائح واصلت نقاشا مؤجلا بيني وبينه عن قضايا الوعي الذاتي ودوره في المعرفة. كنت قريبا منه في رفضه لموضوعية معطاة بلا ذاتية . فالموضوعية ليست منفصلة عن ذات تعيد وصف الظواهر كما تعيد بناءها وتنتخب أداة القياس والمحكات المنهجية في التجربة . كنا متفقين تماما ، بيد أنه لم يعد بحاجة الى أن يجادل بقوة من أجل هذه الفكرة التي تنتصر للإنسان الحر والكفء ، في حين كنت ما أزال أعيش مصاعب حضارة تحطم الفرد وتسيطر على المجتمع ، حضارة منكمشة لا تنتج شيئا الا بتكرار الماضي ، وتحارب من أجل الماضي . إنها تكاثر الصلابات التي تغدو واقعا لا يتزحزح . الحجارة موضوعية ، لها وجود مستقل ، تؤكد ثقلها وحجمها عندما تسدّ العقل وتضغط على القلب . في اللحظة التي تنقلب الأفكار والاديولوجيات الى اتفاق اجتماعي - سياسي لا يخضع للتجربة والنقاش ، وتضحي بناءً موضوعيا فوق العادة ، ستتحول الى حجارة ، وستظهر بالضرورة سلطة غاشمة تدعونا الى الطاعة والصمت. في بلدي لا يموت الناس بسبب العنف وحده ، بل بسبب تحول الأفكار الى حجارة ، وتحول الدين الى سوط ، وتحول الطائفة الى ملاذ. إنه ليس الموت وحده بل الموات .. هذا الذي يجعل الحي ميتا في العقل والروح. الآن حتى وأنا أمارس دور الميت يخترقني عطر الاخشاب القديمة ، أشعر بوخزات ماضيي المتعب المعطر بروائح الخوف والهزائم ، وأنني عارِ أكثر عريا من عظامي البيضاء . ربما ما زلت نديا على تجربة الموت ، نداوة تحمل طبعات مجتمع راح يتراجع نحو جاهلية محاربة حاقدة. هل كان كيركغارد يطيّب خاطري حين قال : انتم تعيشون ما سبق أن عشناه في القرون الوسطى الاوربية . إنها دورة قد تنتهي بانتصار الحياة على الرجعية. لكن المتوقع أن أي دورة حضارية على مستوى هذا العالم الذي تديره التقنية تنحل في تركيب أعلى . تلك هي جدلية هيغل التي عرفها كيركغارد جدا ، وخشي من صرامتها وتجسداتها في دولة التركيب الأعلى البروسية ، فنقلها من الافكار الى الحياة - الحياة التي لا يمكن لسلطة متعالية أن تضبط مساراتها وتحولاتها وتفسرها في سياق حتميات تجريدية. كيركغارد معني بالوجود ، بالحياة ، بمأساويتها ، بقلقها ، وليس بفكرة تنفتح وتنبسط في عقل تجريدي . هذا ما اتفقت فيه معه متحولا الى عرض ما يحدث لنا . قلت : بسبب التخلف علينا تسجيل جدلية راجعة. فنحن لا ننحلّ بتركيب أعلى ، بل نتحلل في ماض فائض متكاثر . نحن نرجع في خشية مخجلة من الحرية . هذا ما اخبرت به كيركغارد في النهاية فرد عليّ بحكمة معلم يلاحظ تلميذا مستشاطا : نعم أنت مازلت نديا!
|
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ سهيل سامي نادر
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|