"لقد انتهت أسطورتك الكبرى أيتها المدينة مذ لم تعد هناك تنورات يرفعها الهواء بلطف لتعيدها أصابع الفتيات، وهي ترتعش، إلى الأسفل هواؤك العاصف لم يعد قادرا على إزاحة الجبب والبنطلونات هواؤك لم يعد قادرا أن يرينا القليل من النعومة والبياض لا في ساحة الميدان، ولا غيرها"
ليس هناك من مقطع شعري يكتب تاريخ المدينة من هذا المكان ، من تاريخ أنوثتها ، كما يفعل هذا المقطع لحميد قاسم ، حيث عاش هذا الشاعر وجيله ، كثافة أنوثة بغدادية لا تعرف الأجيال اللاحقة عنها شيئا . في لحظة ما ، من تاريخ المدينة ، كانت الشوارع والباصات والحدائق والجامعات تزدحم بالرقة والجمال والنعومة والرشاقة واللهجة الفاتنة وموسيقاها ، لحظة يصعب فيها ، انك تصادف امرأة غير جميلة في نهارك ، قصة تواري هذا المجد الأنثوي ، هي قصة المدينة التي لم تكتب بعد ، التقطها حميد قاسم بحس الشاعر العميق ، ولكنها بحاجة الى بحث معمق ، بحاجة الى دراسات أكاديمية . المدنية في جوهرها هي أنوثة ناعمة ، تمنح الامكنة الحس الفريد بالسلام والأمن . كم كنا في حظرة ذلك الجمال شبابا وديعين مهذبين ، وكم أصبحنا بدونه بهذه الخشونة والذكورة الفارغة والمفزعة في آن . للاسف الشديد ، انتهت تلك المغامرات الشجاعة التي خاضتها المرأة العراقية ، عندما تقدمت للعمل في كل تلك المسالك المحتكرة من قبل الرجال ، لقد شاهدنا نساء جميلات في كل مكان ، حتى في محطات تعبئة الوقود ، كانت هناك صبايا واثقات من أنفسهن ، كن عاملات رائعات لم يخطر ببال احد منا أنهن موضوع للذة المبتذلة على جادة الطريق . عندما وصل النظام السابق الى الحكم ، كانت ثمار الدولة العراقية بنسختها الملكية قد أينعت ، فاضطر الى مماهاتها ومن ثم تحويرها عن مسارها الطبيعي ، أتاح للمرأة فرصا للتعبير عن ذاتها ، وشرع لها قوانين مدنية ، ولكن الثمن كان باهضا ايضا ، عليها ان تكون جزء من ايديولوجية ، وفي داخل اي ايديولجية فان المدنية وتمظهراتها كالانوثة ستنحرف عن طريقها حتما . الحرب العراقية الايرانية ، تركت لنا الاف الارامل ، الاف من اللائي تعبت انوثتهن بانتظار الشباب الأسرى والمفقودين . ثم جاء الحصار والحملة الإيمانية المزيفة لتشوه كل شيء ، الانوثة بحد ذاتها اصبحت موضوعا للنقاش ، الإيمان عندما يتحول الى حملة فانه الفساد بعينه . لقد اصبحت المرأة في سنوات الحصار ، جاهزة للتنازل عن أنوثتها ، اصبحت سيدة مغلقة كئيبة ، بطولتها الوحيدة هي الصبر الاضطراري على كآبة الحياة ، وزادها المجتمع عتمة عندما حول صبرها هذا الى أسطورة خرقاء للمدائح . اليوم وبعد سنوات من سقوط النظام ، اصبحت صورة المرأة العراقية ، عبارة عن برلمانية سليطة اللسان ، كئيبة المنظر ، او نازحة مشردة ، هي وصغارها محل عطف قاس ، وضحية تعاطف مجتمعي جبان . او موظفة تتعرض لشتى انواع العنف الاخلاقي ، والتحرش الجنسي من مدير امي ومعوق عاطفيا . لقد حولت الأحزاب الدينية المتخلفة ، صورة المرأة العراقية الى موضوع لذة سافلة بالكامل . وعلى الرغم من وجود أعداد لا باس بها من تلك النساء الشجاعات اللائي يحاولن الخروج من هذا الظلام ، فان المجتمع متسلحا بالقوى الدينية العنيفة في طبعها مستعد في اي لحظة للقصاص من هذه الجرأة ، ولطالما يفعل ذلك رجال يدعون انهم مدنيون . لا يمكن العودة الى تلك اللحظة التي يرثيها حميد قاسم ، الا بانتهاء صلاحية تلك الموجة الدينية الفاسدة التي تغلف حياتنا . ذلك النفاق الجماعي الذي تورط فيه المجتمع . تلك الحفلة الكبيرة من الفساد الاخلاقي التي تقف خلفها نصوص سخيفة ومقولات تافهة ، العنف الذين نعيشه الان بهذه القسوة ، واحدة من اهم اسبابه هي الكبوتات الجنسية ، تلك الذكورات الجبانة ، التي تخشى الانوثة وترتعد أمامها فتعمل على قهرها . بدون تلك النعومة وذلك الدلال الأنثوي التلقائي ستبقى الحياة غير محتملة لا في بغداد حميد قاسم ، ولا مدننا العريقة ، ستبقى المدينة مغلفة بالسواد ، باستثناء بعض الوجوه التي غيبتها طبقات المكياج الصارخة كناية عن الغياب ايضا . المكياج الصارخ هو نوع من الكآبة ايضا . نوع من القهر المجتمعي . نوع من التورية . |