|
|
1- الجنون والقادة :قاعدة الحماقات والتلاعب |
|
|
|
|
تاريخ النشر
26/02/2015 06:00 AM
|
|
|
منذ تشكيل الدولة العراقية وظهور حقل سياسي بخصائص وطنية حديثة ، أي قيام ممارسات ووظائف ومواقع سياسية وأحزاب تتناول تنظيم الدولة والمجتمع ، تكرر ظهور سلوك لاعقلاني وتآمري ذهب بعيدا عن معنى المصلحة العامة واحترام الحياة وأثار اضطرابا في البيئة السياسية ما زال قائما حتى الساعة. من هنا اقترحت أن لا نخشى من استخدام علم النفس المرضي، ومناداة المرضى بأسمائهم. أعترف أن هذا الاقتراح تولد عندي من تأمل بعض التحليلات السياسية التي قدمها شيوعيون بشأن 14 تموز وعبد الكريم قاسم ، فقد انطلقوا من مقولات عامة ، اختفى فيها الاشخاص الواقعيون مرتين ، مرة عندما حلّت محلهم نماذج ذهنية منمطة، ومرة حين جرى عدّهم ممثلي طبقة أو جماعة محددة ، من دون الأخذ بالحسبان حياتهم الشخصية وعقدها. إن مثل هذا التحليل يغيّب الخصائص الفردية التي كثيرا ما تبدي شذوذا واضحا عن المقاييس الموضوعية، وفي وضعية تاريخية انتقالية تحتاج هي الأخرى الى دراسة تستوعب خصوصيتها. إن المقاربة التي ترى أن القادة يمثلون موضوعيا طبقات او جماعات محددة في تعابيرها السياسية والذهنية الى حد التطابق تتصف بالمثالية ، وهي جزء من تراث الإتجهات الحتمية . بيد أن هذه المقاربة نفسها ، في حدود المصالح الموضوعية التي يقرها القانون في المجتمعات العضوية الديمقراطية، هي موضع اتفاق اجتماعي سياسي . في مجتمعات حديثة ذات تبنين اجتماعي واضح ، ومصالح موزّعة ومعرّفة سياسيا واقتصاديا وذهنيا ، وتقاليد سياسية تتصف بالثبات مثلما هي مراقبة من قبل نظام دستوري وصحافة حرة، فإن تمثيل مصالح محددة في سياق المصالح العامة للمجتمع تبدو واقعية جدا ، ومعترف بها من قبل الجميع ويمكن اثباتها في جميع النظم الديمقراطية الحالية. لكن حتى في هذه الحالة تمارس الفرديات بانفتاحها وانغلاقها وثقافتها دورا يتطلب فحصه على أسس اخلاقية وسيكولوجية. في العراق لا يوجد هذا التبنين، والخصائص الفردية للقادة هي التي تضع المقاييس وتتحكم بالحياة الاجتماعية لتحيطهم مرويات وإشاعات تصورهم أقمارا مضيئة مرة ، وشياطين متعطشين للدماء مرة ، فيما تلقي الثقافة الاجتماعية الريفية والقيم البدوية ظلالها على كامل المنظومات السياسية وتغطيها. إن ما أقوله هنا ليس مجرد تحليل او مقاربة تائهة بل تجربة واقعية اتصفت بالتكرار. لقد حكمنا زعماء أبدوا شذوذا كاملا عن مقاييس الحد الادنى من الموضوعية وسلامة التقدير والاختيار، وفي وضعية سياسية فوضوية لا مقاييس لها غير السلوك الفردي الذي يفلت من أي رقابة ، ولا يلتزم بالمصالح الوطنية العليا ، وغير معني بالتكاليف الباهظة التي يدفعها الشعب جراء سلوكهم . أليس هذا يعد سلوكا غير سوي، من الصعوبة ردّه الى الطبقات والفئات الاجتماعية بوضوح وثقة؟ لقد أثبتت الأزمة العراقية أن النظام الدستوري العراقي لم يمنع شخصا مثل المالكي من التصرف بالدولة كما لو كانت إرثا له. فكيف نفسر حدوث هذا في نظام برلماني يدعي الديمقراطية؟ إن البطرياركية السياسية الطائفية هي التي رسمت ملامح السنوات الثماني التي حكم فيها المالكي وليس النظام البرلماني الديمقراطي. بل إن البرلمان كله عكس علاقات القوى الطائفية في أبشع صورها وأكثرها خبثا، ما أثار انقساما مجتمعيا وضعنا على شفير الحرب الأهلية. في النهاية خاض المالكي معركته الاخيرة باسم الاستحقاق الدستوري ضد خونة الدستور والديمقراطية. إن اللعب بالكلمات ، واستخدام موارد الدولة وقدراتها ، والتلاعب بمقدرات المواطنين وتخويفهم ، هي مجرد أمثلة على المرحلة الجنونية التي ميزت حكم رجل جاء بعد انتخابات ديمقراطية. واضح أن هذا المثال يشير إلى أن البنى القديمة ظلت تتحكم في المجتمع والدولة ، وكانت قادرة على ليّ الحقائق عن طريق استخدام تنظيم حزبي ومجموعة من الأشخاص احتلوا مواقعهم عن طريق انتخابات جرت قبل أي اصلاح سياسي وقانوني يعيد تشكيل البيئة السياسية ويهيئها ثقافيا ومعرفيا. إن التخلف الثقافي ، وسيطرة قيّم قوى ما قبل الدولة الرجعية (الطائفة والعشيرة) ، ستواصل عملها في الحياة السياسية حتى وهي تتخذ لنفسها اسماء ممتازة . إنها كلها قد تتجسد في عضو برلماني فاسد وجاهل يلقي محاضرة عن الديمقراطية وهو بكامل حلته الرسمية ! أكاد أتخيل ركضة بريد لا يكتفي فيها المتسابق بتسليم الرسالة الى متسابق آخر، بل وينقل له عدوى حب السلطة والاستعراضات والخطابة والكذب والتآمر وعدم الثقة بالآخرين. إنه خط جنوني يحافظ على مورثاته بنقلها الى اصحاب الاستعداد البيولوجي والنفسي والذهني، والقادة بدورهم يسممون المحيطين بهم ويحولونهم الى راقصين دائخين ، وهؤلاء بدورهم يصيبون الجماهير بخبال ليس من السهولة الشفاء منه. هل نرد السياسة المتخبطة لعبد الكريم قاسم الى البورجوازية الصغيرة فقط؟ سيكون الامر اختزاليا جدا، لكن صورة قاسم تتضح أكثر عندما نضعه داخل مؤسسة عسكرية اخترقتها العقائد السياسية والاديولوجية المتناقضة والمتنافسة، فلم تعد سوى آلة انقلابية قوية خرقاء تفسد الدولة. هذا ما أدركه صدام القريب من العسكريين فألحقهم جميعا بحزب يتصف بالصرامة والعقائدية، ومن لم يلتحق به كان يقتل او يصمت، ثم قام بخرق أوسع عندما ألحق الدولة بالنظام السياسي، بل بالعائلة، وحوّلها الى مطية ، ثم أكملت جماعة 2003 هذا الخط بتحويل الدولة الى بقرة حلوب. كل هذا جرى في بيئة سياسية متطرفة ، تتحكم فيها الامية والجهل وأعمال التجهيل والتزييف والعنف والتدخلات الخارجية. إن مصير الدولة المأساوي هذا شكّل قاعدة للجنون السياسي منذ تأسيس الحكم الوطني عام 1921. إن تجيير مؤسسة ضخمة كالدولة لحساب النظام السياسي ، ثم تلاعب السياسيين بها وبمواردها ، أرسى قاعدة التدريب الاساسية لتزييف الوعي ونشر الخبث وتحويل المواطنين الى وحوش . إنه القاعدة التي انطلقت منها الانقلابات والحماقات والتبريرات الكاذبة والوطنيات الزائفة. لقد غطى انقسام سياسي عنيف في المجتمع ارتبطت بعض خيوطه بالخارج على الزعيم قاسم ، فلم يفعل لتفاديه غير أن يصبح الرمز المدبب له. لقد استهان بأعدائه، ونكّل بأصدقائه محطما مصلحة وطنه وشعبه ومصلحته الشخصية بيديه. كيف نفهم هذا بغير استدعاء حالة شاذة من التفاهة الناتجة عن الجهل والغطرسة؟ هل هو وطني؟ بالطبع.. لكن هذا لا يعني الكثير ، وقد يعني منح وطنيين مثله البراءة والحق بالتصرف الجنوني ، ومن ثم توليد حقل سياسي خاص باللاوطنيين أو الخونة ، وبهذا تتحول البيئة السياسية الى بيئة ينقسم فيها الناس الى وطنيين وعملاء، شرفاء وفاسدين ، وينقلب فيها نقاش عادي الى مماحكة طويلة تنتهي بالمآسي ، وتتحول فيها حياة القادة الى مرويات شعبوية تعمل بمقتضى عواطف الحب والكراهية . لقد ظن الباشا نوري السعيد أن دار السيد مأمونة وهو في بلد مترع بالغرائز الانقلابية للعسكريين وضغوط الانكليز والتسلل الاميركي الذي طلّت بشائره من سوريا الخمسينيات، وشعب بلا حقوق سياسية دائم الهيجان. في النهاية اضطر هذا الساهي عن المعطيات الموضوعية الى ارتداء عباءة نسائية محاولا ايجاد ملجأ . لقد حكم العراق ليس على طريقة النظام الدستوري الذي أعطاه وظيفته ، بل على طريقة ضابط عثماني يكره الشيوعية فجعلها تنمو ، خدم الانكليز فهيأ للامريكان موضع قدم . إنها نتيجة لا تتفق مع خصائص رجل يوصف بالثعلب! لنقل إنه ذكي كثعلب في سياق علاقات قوى تتصف ببعض الثبات، الجزء الموضوعي منها يتشكل من بنى ما قبل الدولة المسيطر عليها بالقوة العسكرية والنظام الاقطاعي، والجزء الذاتي منها هي مخططاته التي كان الانكليز يثقون بها لأنها خدمتهم على المدى القصير، في حين أنها كانت غير ديمقراطية وتسيء الى النظام الملكي. إن أزمة لا يحلّها الاّ هو، بكارزميته الطاغية ومرح روحه البغدادي، أمر لا يتفق مع نظام برلماني دستوري ودولة حديثة، لكنها بالتأكيد ترتبط بثعلبيته مضرب الأمثال. لقد جاء مقتله من ثقته المفرطة بنفسه واحتقاره لأعدائه وسهوه عن التطورات الدولية والعربية ، وللأسف كان مسؤولا أكثر من غيره عن مقتل نظام دستوري ملكي أسس الدولة العراقية بإرادة عبقرية تخطت صعاب بلد غير متجانس صعب الانقياد ، ليحولها الانقلابيون المصابون بجنون العظمة الى قلعة معزولة يخترقها النظام السياسي متى شاء. من وجهة نظر النتيجة السياسية النهائية التي نشاهد فقاعاتها وأبخرتها حاليا، أرى أن انقلاب 14 تموز بكل ملابساته الداخلية وأخلاقيات قادته ومصاحباته العربية والاقليمية والدولية ، هو الذي جرّ خلفه ودفع أمامه كل الانقلابات التي قادها عسكريون غير أسوياء من الناحية السلوكية ، اختفوا خلف شعارات قومية ووطنية واشتراكية ودينية. إنه مرآة عكست أخلاقيات ثكناتهم التي كانت تقاد بالزمجرة ، وتقاليد تراتبيتهم المهنية التي ترقى الى مستوى المقدسات ، والهلهلة الاجتماعية والنفسية لعشائرهم وطوائفهم وعوائلهم. إن الانقلاب التموزي الذي أفضى الى فاشية سافرة هو الذي أرسى عادة تحطيم القانون لمصلحة أشخاص يتصفون بالحمق والتفاهة. لقد تفتحت الخيانة الاولى للعسكريين على تفسيرها النفسي الاسقاطي ، طاوية حتى مناقبهم الاخلاقية النبيلة تحت جناحيها القذرين! - يتبع - |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ سهيل سامي نادر
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|