عن فدرالية الجنوب
بعد ظهور مقالتي عن فدرالية البصرة اتصل بي بعض الأصدقاء مشيرين الى أنني قد أجد نفسي في صف فدرالية الجنوب من دون علمي. أحدهم سألني سؤالا شاكا: " أما كنت تعلم بوجود مشروعين للفدرالية فلماذا أمسكت بخناق فدرالية وائل عبد اللطيف وحدها؟". أدرك ما تفعله الحالة العراقية من دوار: تؤشر الى الشرق فيدعوك أحدهم : والغرب؟ تقول رأيا في البصرة فيشيرون عليك أن تتناول العمارة أو كركوك. الحالة العراقية المضطربة المنقسمة تنداح بالأفكار وتعيد توزيعها توزيعا جديدا ، قد تدرجها بدرج غير متوقع ، وقد تعلّمها بألوان لا تعود لها . لقد تناولت فيدرالية البصرة لوجود أفكار محددة عرضها صاحب المشروع في ندوة أدارتها فضائية الحرية. هذا ما قلته من البداية بوضوح. لم يكن الموضوع مناقشة الفدرالية كفكرة بل كمشروع مطروح على مدينة بناسها ومؤسساتها وشروطها في الوضع العراقي الراهن. كنت أدرك مسبقا أن وجود نص دستوري عن الفدرالية يبرر مشاريع الفدرالية وينهي كل نقاش بشأنها، إلا أنني فهمت، عن خطأ أو عن صواب، أن اطلاق مشروع البصرة على الرغم من أنه سليم من ناحية الشكل الدستوري، الا أن الدستور نفسه لم يخرج من "المطهر" بعد، بل يحتاج الى اطلاق التعديلات المتفق عليها والتي لولاها لما واصلت العملية السياسية الحياة (1)، هذا فضلا عن الحاجة الى موافقة رئيس الوزراء، بما يجعل الأمر قابلا للنقاش، قابلا للمداولة في بحر الصمت المخادع القائم على دستورية يقال إنه جرى حسمها نهائيا ، ويجري الآن حلبها وتجسيدها. من هنا، وفي محاولة للحاق بالفدراليين والدستوريين عند منعطف ما، لم أخف رأيي بالشروط السيئة التي أطلق فيها الدستور نفسه، وبالطريقة اللاشعبية التي جرى فيها مناقشته، وبأي شروط أمنية مفزعة. ولأنهم يحيلوننا إليه، بل ويخيفوننا من انقلابات عسكرية إذا لم نلتزم به ، بات من المهم أن أؤكد، مجددا، ومرارا، الطريقة التي حصلوا فيها على مكاسبهم. فبينما كان شعبنا يئن من الإرهاب والعنف والجوع والعطش والمرض والفساد، كانوا هم يعالجون اتفاقاتهم في الغرف المغلقة، ويمررون إراداتهم، ومصالحهم السياسية والمادية. كانت العدالة منقوصة إذن، والشروط غير طبيعية، والدولة الوطنية غائبة، والدبابات الامريكية هي التي تحمي الشرعية وتنتقص منها على مدار الساعة. لقد صنعوا أمراً واقعاً وقالوا: هذا هو الواقع! لو أن السياسيين الحاليين يحبون المغانم السياسية والمادية فقط لهان الأمر، ففي العراق الكثير من الملهيّات التي تستجيب للغرائز والتي ربما تشبع أصحابها وتجرّهم الى العقلنة السياسية والاقتصادية، لكن المصيبة أنهم فيما عدا حبهم للمغانم ، يحبون التشظي والتآكل والخصام والحفر بالجروف المتآكلة. هذا خطر. هذا يشعر الناس بالقلق وعدم الثقة. فهل ننكفئ على أحزاننا أو نهرب من تقديم شهاداتنا كمواطنين؟ هذا السؤال طرحته علي نفسي اليائسة المنسحبة، بيد أن الأمر يشبه التحدي والمراهنة. يشبه ما تقوله كلمات هذه القصيدة:(قل كلمتك وامضي..). والحال فيما يتعلق بمصير وطننا الذي نحب، ثمة دائما أمل في المراجعة وإمعان التفكير، أو في الأقل تأجيل الذهاب الى النار وهي تستعر. إن تجربة الصراع والألم والموت والاصطدام بالواقع التي عشناها قد تعلمنا شيئا جديدا إذا ما زلنا قادرين على التعلم، أو قد ينزل علينا الرحمن رأفته بنا فنرأف بدورنا بهذا البلد المتألم . من يدري؟ قد يساعدنا الأمل على عدم الجنون. قد يواتينا الحظ . هل جئت متأخرا؟ لكن هذا ليس ذنبي. هم من ركب صاروخا. هم أصحاب المشاريع والدكاكين السياسية عجّلوا بكتابة الدستور في شروط لا تصلح لكتابة مقال سياسي جيد. لقد احتاجت المانيا الى 7 سنوات بعد الحرب لكي تطلق دستورها الديمقراطي الاتحادي الجديد وتنشئ برلمانها، وقبل ذلك كانت قد استعادت أمن مدنها وقراها والقاعدة التحتية لنموها الجديد. ولعل تنظيمها الإداري الحالي يحمل أصداء البلدات والدوقيات القديمة. لقد دخلوا الى الحداثة ووراءهم ماض غني في الفكر والتجربة والتذكارات والإنجاز. ويبدو أننا عباقرة بما فيه الكفاية لكي نصنع كل شيء بحركة اصبع في الفراغ! لقد فرض أمر واقع، ويراد الآن أن نبلع غصباً مشاريعه العملية في شروط سيئة من التجهيل والأزمات المعاودة ، في شروط محاصصة معطلة وخبيثة، ودولة لا تعمل كما يجب، عملها الراهن ما زال يجري على تثبيت البديهيات، وهو استتباب الأمن واحترام القانون ودفع الرواتب. أعرف ثلاثة مشاريع للفدرالية، ولأني أبديت رأيي بفدرالية الكرد في مقال سابق، ووجدتها مبررة ومعقولة بسبب ما هم عليه الكرد من مميزات قومية، وشروط بيئية وثقافية، وأخرى سياسية. ولأني صفيت حسابي مع فدرالية البصرة التي أطلقها القاضي وائل عبد اللطيف في مقال آخر، لم يتبق غير فدرالية الجنوب التي كنا نسمع عنها بين الحين والحين والتي يبدو أنها هي الأخرى تبرر نفسها بالدستور وبعض العموميات التي تكاد لا تتماسك. في ظروف العراق تختلط الشائعات والحقائق على نحو لا نسمع ما نسمع ، ولا نصدق ما يصدق. بدت فدرالية الجنوب شيئا بين الشائعة والتلاوات الدستورية التي نسمعها بين الحين والحين في حواريات الفضائيات. كانت تصريحا يتوقف ولا ينمو أو ينعطف. هناك التباساتها أولا، فقد فهمنا أن فيدرالية الجنوب إذا لم تشتمل على البصرة بالفعل فهي تضمها بالقوة. ومن حيث ترابط الدلالات اللغوية- في الأقل- لا فروق كبيرة بين الجنوب الذي يضم البصرة وبين البصرة التي تضم الجنوب. البصرة هناك في أقصى الجنوب، وبهذا المعنى هي هناك دائما في كل تفكير يؤشر الى تلك الجهة. والحال لا فرق كبيرا إذا ما انطلقت الفدرالية من البصرة او العمارة، وإذا ما اتفقت البصرة والعمارة والناصرية، الى جانب حصول اتفاق بين النجف وكربلاء والحلة على تشكيل أقاليمها. هذا هو الدستور الذي ينتظر جمع التواقيع وتقوية الرصيد الديموغرافي لأصحاب الطلبات. هذه هي الفدرالية العراقية كما هي في الدستور، وتلك هي لوحة كلامية تحيل الى الدستور ولا تحيل الى رقم أو حقيقة محددة. أما من حيث صورة الفناء الداخلي لهذه الاقاليم فلا توجد فروق في الهوية الاجتماعية والثقافية التي تجعل شخصا من أهل البصرة لا يفهم لهجة أهل الناصرية. لكن ثمة فروقا حسابية مؤكدة يمكن أن نبني عليها روايات مأساوية وليس فيدراليات: زيادة الفقر هنا ، انحطاط أشد في شبكة الماء الصافي هناك ، وجود عناصر مخربة اكثر أو أقل في ذلك الركن ، زيادة نسبة مرضى السرطان في تلك المدينة، مع زيادة أمراض السكري وتصلب الشرايين في قرينتها. إن ما يوحد الجميع ( حتى مع أبناء مدينة الصدر في العاصمة المركزية الظالمة!) هو الحظ السيء والخراب الواسع والفساد المعمم بالرغم من الخطب الدينية المتماثلة تقريبا، ثم نسب الأمية، وانخفاظ مستوى التعليم، وأطماع النخب المحلية التي تختفي خلف المشروع الفدرالي التنموي. إن ما يوحدنا اليوم، بعد تسييس الطوائف والاثنيات، والحماقة الامريكية في سحق إطار الاستناد المتمثل بالدولة، هو البؤس والحاجة والخوف. هذه العناصر تستثمرها النخب المحلية للقول إن الفدرالية هي الحل الوحيد حتى من دون أن تقدم دراسة تتضمن أرقاما وحقائق عن "الإقليم المحظوظ" غير تصريحات سياسية تكرر على سمعنا التأكيدات والتطمينات نفسها. إن البؤس العراقي يواصل العمل كلما أعيدت علينا دروس الفدرالية التي يمكن تحفيظها للأولاد في المدارس. دعونا نستمع الى دروس الواقع ، فهدفي من نقد فدرالية البصرة والجنوب والوسط لا يعارض مبدأ الفدرالية كلها، بل يقدم عليها- الآن - ستراتيجية تأخذ بالحسبان الانتهاء من هدف ذي صيغة داينميكية يخص البناء الاجتماعي كله، هدف يرسم معالم الأهداف الأخرى ويضعها في سلم من الأولويات. أصوغ هذا الهدف على هذا النحو: علينا بناء الدولة العراقية المستقلة والديمقراطية أولا. هل هذه فكرة سيئة؟ إنني لا أقول غير البديهيات. منذ متى بات طرح البديهيات مكلفاً؟ لو أن فرسان الفدرالية أمعنوا النظر جيدا، لو جربوا قمع أطماعهم في التحكم والسيطرة، لاكتشفوا فكرتين مثمرتين، الاولى متفرعة من البداهات نفسها: وهي أن الفدرالية تصدر بالضرورة من إنشاءات الدولة نفسها، من نموها، واضطراراتها، واحتياجاتها واحتياجات المجتمع بمجموعه. المطلوب إذن أن تنمو هذه الدولة بدلا من أن تحبو، أن تنشأ وتستجيب عضويا وليس ميكانيكيا، وأن تتعرف على حقلها، واحتياجاتها،واضطراراتها، مقابل يقظة المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقانونية على نفسها ومتطلبات نموها الأفقي والعمودي. هل يجب الاعتماد على تصيرات موضوعية أم نكتفي بخطب الدستوريين الفدراليين وتوضيحاتهم ودستورهم الذي لا يزال البارود يغطيه؟ لنفتح صفاً لمحو الامية فيما يتعلق بالدولة، لنذكًر بأننا نتحدث عن دولتهم، دولتنا، وليس الحكومة المركزية. الدولة الوطنية صاحبة العلم المرفرف والقوانين والمستشفيات والمدارس والجامعات والطرق والجسور والمعرفة. إنها ليست دولة صدام ولا عبد الكريم قاسم ولا الملك ولا أحد من القادة المحبوبين أوالمكروهين، بل الدولة التي بنتها عبقريات ومجهودات العمال والفلاحين والمهندسين والأطباء والتربويين والمعلمين والفنانين والكتاب والصحفيين والساسة الشرفاء وقادة الفكر والعمل الاجتماعي. دولة المحظوظين والفقراء ، النساء والرجال والأولاد الصغار قرّاء الأناشيد المدرسية في الصباح ، دولة التجربة ، بأخطائها ، بمعاكسات الحظ ، بالخطأ والصواب، بالصبر والإلهام. والآن إذا ما خفت صلابة أصحاب المشاريع بسبب كلماتي أو بسبب رحمة نزلت على قلوبهم، وإذا ما انتابهم الشك، شاعرين أن الوقت فات على التراجع، فأنصحهم بالفكرة الثانية التي يعرفونها، وهي تجربة دواءهم النيابي المجرب، دواء الكتل المتنافسة والتي تتعب من كثر التنافس فتغلق ما تحت أيديها بالتأجيل. كم مرة أجلوا اتخاذ القرارات؟ أجلوا هذه كذلك من أجل إعادة الدراسة والفهم في الاقل .. ولنر! أنا لا أدعو أن تتقوى الدولة على الآكراد، ولا أن تتقوى الدولة على البصرة أو على الجنوب. من يسيء الفهم في هذا المسألة متقصد. من لا يجيد إعادة بناء الدولة العراقية المحطومة، وغير قادر على الإخلاص لها ووضعها في خدمة الناس، لن يبني فدرالية منتجة بل هو ينشيء مشروعا تجارياً ليس الا. لماذا يفهم البعض أن قوة الدولة تقف ضد الفيدرالية؟ الجواب : سوء النية! جواب آخر : شانتاج التجارة السياسية! والآن دعوني أؤكد الأفكار السابقة نفسها بطريقة أكثر تركيبا : أرى أن الانزلاق الى أي تنظيم فدرالي يجب ان يبدأ من دولة قوية. اعطوني مثالا واحدا على فدرالية نشأت من دولة ضعيفة؟ بل دعوني اسألكم : قدموا مثالا واحدا عن دولة أسسست فدرالية لمجرد أسباب اقتصادية وتنموية من دون ملابسات سياسية وتاريخية وجمعية وثقافية – ملابسات تقترب من حيث المضمون من الوضع الكردي المعروف الذي سلمنا بحججه. وما هي الدولة القوية؟ إنها الدولة الديمقراطية الحديثة التي لا يركبها النظام السياسي فتتوحد واياه. دولة القانون والمؤسسات والدستور. الدولة التي تجدد نفسها وتبني القاعدة القانونية والمؤسساتية لكل تطور لاحق ، الدولة التي تفكر وتعمل مستقلة عن النظام السياسي . أنا لا ألقي بالحزازير، بل أواصل حديث البديهيات. فنحن حقا نتقدم بمشاريع لا أسس لها، وغير مبررة. إن الفيدراليين يعملون في محيط لا وجود لثقافة فيدرالية فيه، بل ولا ثقافة دولة بالمعنى المدني. فماذا يريدون حقا؟ إن الادب الفدرالي في العراق غير متوفر الا في دكاكين السياسة الفقيرة، حتى الفدرالية الكردية هي نتاج أمر واقع قومي مستقل ولم تنتج حتى هذه الساعة ثقافة قانونية وسوسيولوجية واضحة، ولسوف نرحب بإشعاعها عندما تنتقل الى الإنجاز الذي لم تنتقل اليه بعد. في الفدراليات الأخرى لم يتحدث غير السياسيين الذين نعرف دوافعهم، وكثيرا ما ( يتحدثون بما لا يعلمون). لم ينطلق رأي واحد عن فدرالية الجنوب والبصرة والوسط صادر عن رجال خبرة : فكر، اقتصاد، فلسفة، فقه، علم اجتماع، قانون. والحال أن كل الآراء أعادت إنتاج ما قيل في الدستور مع بعض التوضيحات والمهارات الشخصية، والمجتهدون منهم قدموا نزعة مضللة تعتمد على مبدأ خصوصية تاريخية – مثلما فعل القاضي وائل بأمثلة ناقشناها في مقال سابق، أو خصوصية قائمة على ازدواج الغنى والفقر وهو تبرير جامع يستخدمه الجميع، أو التحرر من السلطة المركزية للدولة التي نعرف جميعنا أنها فرية تستخدم الماضي الدكتاتوري في الوقت الذي يشكو الجميع من عدم وجود دولة. كيف جرى الاتفاق بين كل هذه المؤشرات والتبريرات المتهافتة ، ولماذا تجمعت في وقت كانت الدولة فيها منهارة، والأمن مضطرب، والقاعدة القانونية في حالة انهيار، والخدمات كذلك، وفي وقت انصب فيها جهد السلطة على عملية استتباب الأمن والنظام؟ لأن المشاريع الفدرالية هي الصورة المنعكسة لكل ذلك الخراب. إنها فصاحة سياسية جديدة للأطراف التي باتت تهيمن سياسيا وثقافيا على المركز، على الرغم من أنها بلا خبرة، تنخر بها تناقضات الجماعات المحلية الدينية والسياسية، وهي بالكاد تتماسك من الناحية المدنية، كما أنها تفتقر الى ثقافة وتقاليد ديمقراطية. بالطبع علينا أن لا ننسى الاسهام الكردي في هذا المأزق الجنوبي، متمنيا من سياسيي الكرد أن لا يتورطوا بما ليس بهم حاجة. ففدراليتهم تنطلق من تجربة متشعبة وباتت لها سيرة زمنية، أما فدراليات الجنوب، فقد عثرت على الدستور الفدرالي ( لعلها تعثرت به) بسبب تفرع سياسي كلامي من الفدرالية الكردية، فضلا عما أدت اليه نقاشات المعارضة في الخارج قبل سقوط النظام من اتفاقات ومراهنات وترضيات، وقد لبت بعضها احتياجات النخب والأعيان للظفر بصوتها الخاص واستقلالها عن الدولة، على الرغم من تغير الظروف وظهور صورة الواقع البشعة. لعلّ كل ما تريده هذه النخب سوف يتفكك على أيديها في النهاية، لأنها بلا خبرة إدارية وثقافية ومدنية ، فضلا عن وجود تناقضات من النوع السيء تنخر فيها. بيد أن علينا أن نشير في هذا السياق الى بعض الحقائق المزعجة التي جعلت كل هذا التوليد المشوه ممكنا. فعندما أراد الامريكان تشكيل إدارة عراقية حاكمة لم يجدوا قوى تتحدث عن العراق، الدولة الموحدة والشعب الموحد، بل تحدثت عن مصالحها المحلية المترابطة مع مظالمها السابقة. لقد شكلت صورة الدولة المحطمة الميؤوس منها والتي تركت تموت في الشوارع تاريخا جديدا راحت القوى المتنافسة على السلطة تعوضّه باللجوء الى مركزياتها الطائفية والاثنية. إن مجلس الحكم كان هو الإختراع الذي عكس هذه الصورة المفككة للواقع السياسي الجديد، وهو شكل من أشكال السلطة القائمة على تقاسم السلطة بين قوى متناقضة داخل بلد محتل. وعندما ظهرت حكومة من الانتخابات عمدت الى تلخيص هذا التقاسم بالمحاصصة. بالتأكيد كان هذا الشكل بقدر ما عكس ما تبقى من التهشيم ، لبي طموحات أكبر تاجر بالمفرد في منطقتنا، وأسوأ رسام تجريدي لصور الحل لمشاكل الشرق الاوسط المتعددة : الولايات المتحدة الامريكية! والآن هاهي الفدرالية العراقية من دون فكر غير دستور كتب عندما كان الجميع يتفادون الرصاص والمفخخات. إنها حتى الآن من دون فقه غير فقه البؤس الذي راح السياسيون بواسطته يضرمون نار الأحقاد والتمايزات وتفكيك العراق. أعطونا كتابة واحدة تحترم نفسها تبرر فدرالية البصرة، أو فدرالية الجنوب، غير صيحات الأغنياء والأعيان عن فقر المحافظات، غير قيام الأغنياء بإثارة غرائز الفقراء. إننا لم نسمع حتى الآن غير أصوات الديماغوجيين في تحريك الشارع ! عندما غزا صدام الكويت جرى التعميم على الصحافة بشن حملة ضد القارونيين الأغنياء، وتغذية غرائز الصراع الطبقي على مستوى الأمة. كان النظام قد أفقر البلد بحماقاته العسكرية، واحتاج الآن الى حماقات لفظية مثّلت حقا شهيته في أن يستولي على ثروات الآخرين. لقد استخدم الالحاق القومي الفاشي زوج (فقر- غنى) عندما احتاج الى الموارد ومن ثم الى الغزو، واليوم تستخدم القوى المحلية في بعض المحافظات هذا الزوج نفسه للتفتيت. إن ثقافة الابتزاز والرقص على الحبال قديمة في العراق. وما يستحق التنويه هنا هو أن الزمن لم يغيّر الكثير من المهارة ومستوى الذكاء واستخدام اللغة، فلا أحد ابتكر حججا مسلية أخرى بل واصل الجميع استخدام ألعاب قديمة بعد أن أعادوا توجيهها. في سياق الاستعارات من الخرج الفاشي، قرأت مقالة لأحدهم ينتقد فيها فدرالية البصرة لوائل عبد اللطيف على أسس ستراتيجية طائفية. فهو يرى أن هذا المشروع المشبوه يستهدف "فدرالية الجنوب الشيعية" عن طريق حرمانها من البحر! إنني أخشى كثيرا من الأفكار الستراتيجية التي يحملها بعض العراقيين الذين ظهروا الى السطح بعد 9 نيسان 2003، فتحليلاتهم شفوية اتخذت من الفضائيات منابر لها، وهي أقل تماسكا مما يكتبه المحللون السياسيون الجدد ، كما أنهم يتدربون على أفكار غيرهم من دون أن يستطيعوا التحكم بغرائزهم المذهبية. فحين يفضحون أفق المشاريع التي يعارضونها يفعلون ذلك بقوة على نحو يفضحون أفق مشاريعهم هم. في ما مضى كانت الكويت تمنع البحر عن العراق. ومن أجل الخروج الى البحر ألحقت الكويت بالعراق فجرى تدمير الأخير. الا أن فكرة المنفذ البحري، المحملة بعطور الرومانسية والتجارة، ظلت مغرية، وستراتيجية، وتمسك بأعناق الستراتيجيين المصدقين. طبعا هناك اختلاف صنعه الزمن السياسي، فبينما كانت الكويت هي التي تمنع عنّا البحر، باتت البصرة بفدراليتها التي يقودها التجار والوجهاء من أحفاد السندباد البحري هي التي تمنع البحر عن فدرالية الجنوب "الشيعية". الغريب في هذا "التحول النقدي" أن صاحبه لا يشير الى أن فدرالية القاضي تمنع البحر عن العراق كله. لقد نسي العراق تماما بعد أن وظف نفسه حارسا على حدود "الفدرالية الشيعية". وههنا لب الفدرالية التي تعتمد على الطائفة والمصالح المناطقية الضيقة، فهي في ظروف الاحتلال والصراع تشعر بالتهديد، كما أن تذكاراتها وشعورها بالغبن يجعلها تسعى الى الاحتكاكات لتنزلق بعدها تماما الى نزعة ذاتية متعصبة، وفيما تفتخر بنفسها ستبحث عن البحر فتجد أنها ظلمت ، فتطالب بالبر لأنها لا تريد أن تظلم زيادة. إن النزعة المناطقية تبحث دائما عمن تتشاجر معه، فكيف حالها إذا ما باتت طائفية وتشعر بأنها حائزة على مجد ما وعليها الحفاظ عليه ضد الآخرين؟ (اقرأوا علي الوردي!) هل يجب ان نأخذ ذلك الرأي مأخذ الجد؟ لا أدري حقا، الا أن علينا أن ننتبه ، فهذه الأفكار تطرح في بيئة غير مستقرة تغذيها قوى الاحتلال والأطماع الاقليمية، ما يجعلنا نقلق منها. لقد سمعنا أن فدرالية الجنوب هي مشروع إداري وليس طائفيا ، وسمعنا تأكيدات على ذلك. هذا يطمئننا بعض الشيء، بيد أن الواقع الديموغرافي المذهبي له ثقل ضمن التوزيع الحالي. لقد كان له ثقل في الانتخابات، أي في صلب السياسة، فلماذا سيخف ثقله ويتحول الى لون من ألوان التنظيم الإداري؟ ما الضمانات في هذه العجاجة العراقية التاريخية -الاجتماعية المليئة بالمشاكل والتعاسات؟ إذا كانت المحاصصة حولت الوزارات الى نوع من الفدراليات ( هذه لك وتلك لي) فما الذي ينتظرنا عندما نتوغل في الفدراليات الاقليمية؟ إن هذه الشكوك لها محكات واقعية، فالدولة المركزية التي يراد تقليم أظافرها ليس لها أظافر بعد ، بل ليس لها أصابع ، كما أنه لم تجر حتى الآن تحولات ملموسة في العراق كله على مستوى القاعدة الثقافية والقانونية والسياسية، وعلى الجملة لم تصبح الديمقراطية ولا تنظيماتها المؤسساتية هي القاعدة السياسية للمجتمع. إن دولتنا مصنفة على أنها من الدول الفاشلة ، وأنها من الدول الأكثر فسادا، من هنا ستبدو الفدرالية هروبا من مشكلة إعادة البناء الأساسية التي تحظى برتبة وطنية استثنائية. إنها ستبدو كذلك صورة مضحكة لفرار تقوده النخب المناطقية مع الادعاء بأنها من طينة خاصة قادرة على تجاوز المحنة لأنها من هي ، وضعت مركزية المركز خلفها نحو حرياتها الفدرالية. أخشى ما أخشاه من هؤلاء الظافرين أن يعملوا في سوق التجزئة الشعبوي، عندها علينا أن نقرأ الفاتحة على العراق الذي سيباع قطعة قطعة للاولغارشيات المحلية وعبرها الى دول الجوار وما بعد دول الجوار ناهيكم عن شركات الاستثمار النفطي وغير النفطي. العراق في وضع لا يحسد عليه: احتلال، إدارة أمريكية جديدة منزعجة مما حدث، يحتل فيها صاحب المشروع الفدرالي على أسس طائفية المستر بايدن منصب نائب الرئيس، قوى اقليمية تتآمر عليه وتريده على هواها، انقسامات طائفية وسياسية ومناطقية، تراجع أسعار النفط ، خراب اجتماعي واقتصادي، عقد سيكولوجية، عشرات الالوف من خبرائه وتقنييه ومهندسيه واطبائه ومثقفيه هاجروا أو في طريقهم، والسادة الفدراليون غاضبون على المركز ويطالبون بحصص أقاليمهم من الوليمة ! كانون الثاني 2009
--------------------------------------------- 1-أذكّر بأن من دخل العملية السياسية بشرط أن يجري تغيير بعض الفقرات في الدستور نسي هذا الشرط وشارك في وليمة تقاسم المغانم . |