(الصورة : مقبرة اور السومرية)
الفن والموت
نُصحت قبل سفري الى القاهرة في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي بزيارة مقابرها ولم أفعل . فما من شيء مهم في مقابر معاصرينا المتقشفة غير أن الاحياء سكنوها بسبب أزمة السكن والفقر . ما من فن هناك ، والرمزية الوحيدة التي قد نخرج بها ، أعني الاختزالات التي تصنعها الكلمات، تتكفل بها السياسة وبرامج التنمية وخطب السياسيين المليئة بالوعود. إزاء ذلك أنا على قناعة بأن مساكن الفقراء في المدن المزدحمة لا تختلف كثيراً عن القبور، كما أن فن بناء المساكن وفن بناء القبور يلتقيان بمعترك الاضطرار الكبير الذي يرجع صدى مفاصل الحياة المتيبسة .
إن الروح العملية التي تغمغم وهي تؤدي عملاً ، والإضطرارات التي لا تنفع معها أية حيلة ، في بلد كثير السكان قليل الموارد ، تلتفان على مبادئ قديمة في عزل البيوت عن القبور. هذا العزل قديم جدا ، عززته المخاوف والتقديسات قديما ، ثم التخطيط المدني والصحي حديثاً. لكن الحياة الواقعية ، حتى في ظروف اعتيادية ، تخلط عناصر يشعر الناس بأنها لابد من أن تعزل لأسباب مختلفة .
الحياة تفجر المسافات وتلغي الحدود ، وهي تكاد أن تكون معادية في أكثر الاوقات مقارنة بزمن الأبدية الذي سندخله صاغرين بوعوده الكريمة ، أو بتهديداته الصارمة.
إن من يراقب المصريين في مدينتهم العتيدة يتعرف على هذا الاضطرار بوصفه فناً. فالمصريون يكرسون الكثير من المشاعر والمشاغل للمزاح مع الحياة لانتزاع ضحكتها وحظوظها . إنه فن غير مفتعل ، طبيعي ، حيّ ، أخاذ ، قديم، ويشكل احدى السمات الآسرة للشخصية المصرية.
والحال أنني في شوارع القاهرة المزدحمة اكتشفت أن هذا الفن يستند في حدوده القصوى الى تجربة قديمة في مداراة الموت ومنعه من اقتحام الحياة عن طريق كدّ رهيب مؤلم يمزج بالتسامح والنسيان والصبر والتعليم الديني.
في زيارتي للمتحف المصري والاهرامات وجدتني أزاء الوجه التاريخي الصلب لذلك الفن . فالحضارة المصرية القديمة كرست اهتماما يفوق التصور بالموت ، يكاد أن يكون مرضياً. بالرغم من ذلك ، فإن هذا التكريس يستند الى استقرار وثبات في الحياة غير مسبوقين في أية حضارة أخرى ، ولاسيما من جهة القيم الخاصة بالسلطة والدين والانتاج الفني المرتبط بهما.
في المتحف المصري وعند الاهرامات نلتقي بفن الحياة ذاك بكل تضليلاته السحرية المركبة التي انشأها الناس لكي يسهلوا الحياة على الأموات قبل الاحياء. لا مفارقة هنا . إن مبدأ العزل مكرس ، لكن لو تأملنا الانشاءات الجنائزية الهائلة فلابد من أن نستنتج أن الاحياء امتلكوا الوقت الكافي ، والجلد ، والحسّ بالقناعة والضبط ، لكي يصنعوا كل هذا الشغل المهندم الفاخر المعد للاموات من قبور ونواويس وأضرحة واهرامات. لكأن زمن الاحياء القصير جدا محدد بمآله النهائي ليس الاّ ، وهو زمن الابدية الذي لا قرار له. إن كمية العمل الاجتماعي المبذول في صناعة كل ذلك الاثاث الجنائزي ، والأموال الطائلة المصروفة بسخاء ، تشيران الى وجود صناعة قياسية كاملة ومربحة ، والى حياة ثابتة غدها معلوم، مع وعد بحياة ثانية تبدأ من ممرات مظلمة تثير الجزع.
سواء مشى الأحياء مرحاً أو خفراً فقد أعدوا العدّة مسبقا للنزول الى الظلام . هناك ، في الداخل ، يستهلك الأموات عمل الأحياء رمزياً وفعلياً . إن القبر يمتص العمل الحي بما يفوق التصور.
بدأ الفن من الموت ، من القبر على وجه التحديد . فالموت سر الأسرار، تفرعت منه الصور الذهنية والتخيلية الاساسية. إن ما سندعوه فناً كان ملحقاً بالمفهوم الديني والسلطة وليس بالبصر والمتعة والذهن الحر ، ومن المؤكد أنه ظل لفترة طويلة يمارس وظيفة دينية مباشرة بالمعنى اللاهوتي ، فضلاً عن وظيفة ما ندعوه بالاديولوجيا. في القبر هناك مشاهد تضج بالحياة من بحيرات وأوزات سابحات أو طائرات لا يراها أحد غير الاموات الذين ربما استيقظوا ذات يوم في تلك الممرات المظلمة وساروا بنور المشاعل نحو ضياء "رع" المتفجر. إن الحي مستنزف من قبل ميت ، والإسراف في الاستنزاف يستهدف الارضاء . إن مملكة الاموات هي من وجهة نظر المفهوم الديني ممر نحو الإله ، والميت لن يعبر من دون جواز مرور وتعريف بالهوية الشخصية المستوفية شروطها بما يدعى بالقرين – الكا - (كتابات وأدعية واستخارات وتماثيل) ، ومن دون زاد الرحلة (أغذية ومناظر مسلية). في داخل القبور تعبر المراكب المقدسة المعدة لرحلة الموتى اللامكان واللامرئي، وهي شبيهة بمراكب النيل . تتماهى الوسائط إذن ، وقبل ذلك يتماهى الحي بالميت لأغراض لا تخلو من روح نفعية ، فالحي يتوقع الإهتمام نفسه عند الموت ، من هنا يتفانى في خدمة الراحلين.
تغلق على مملكة الأموات الأبواب من الداخل والخارج بحرص شديد، مع تمويهات مبتكرة خشية من لصوص المقابر، فالأخيرون حتى لو كانوا مندمجين بقيم حضارتهم من ورع وخوف، يأخذون حقوقهم مما بخلت به الحياة من الموتى الاغنياء. إن ما يجري في الأعلى يتسرب مثل حركة الماء والرمل الى الاسفل .
بيد أن طرق الإخفاء وأعمال الطمر وإهالة التراب وحيّل البنائين ، هذا الذي يجري بليل كعمل سري، مظلل بصرحية الموت الهائلة للأهرامات. إن الهرم قبر ، لكنه أكثر من هذا ، فهو صرح للسلطة . ليس الهرم مجرد بوابة موت ، ليس مدفناً صريحاً ، بل ثورة في التفكير السلطوي . قبر الفرعون المغيّب داخل بطانة من الدهاليز والغرف والجيوب الداخلية، يغيّب على نحو كامل بالشكل الخارجي الصرحي، بهندسية تجريدية منتظمة ذات حجم خرافي شكلته حجارة دهرية. إن خارجية القبر عرض قوة ، ووظيفتها في احتواء مثوى مستحصلة ، عرض قوة مسلط على الناس ، مسلط علينا ، مذكرة إيانا بعزلتنا وانعدام حيلتنا ازاء السلطة (من يقف في اعلى الهرم السياسي والاجتماعي) ، وازاء الموت (القبر الثاوي في الهرم الذي يحتضن رسالة الاله) : إن القبر الصرحي يحرس مملكة الاحياء ويشرف عليها ويضبطها داخليا!
المتحف والخبرات الرهيفة
عرفت رجال آثار فضلوا حياة الحقل الصعبة على العمل داخل المتاحف. إن لهم اسبابهم ، لكن إذا ما تسنى لي أن اكون منهم ، لقلت أسبابي الخاصة بأقل الكلمات : الفرار من الإحتواء. إن في حياة الحقل إغراء أن نعالج وحدنا، في مفاهيمية أقل صرامة ، وبالإمكان تصحيحها بالتجربة، حياتنا الداخلية. إن التعليم الروحي مهم للموضوعية، ومن المؤكد أن البراري الصامتة ومواقع الآثار البعيدة تضمنان لنا بعض الاستقلال والوقت الكافي لمداواة جروحنا بهدوء، ولمعرفة الرواية الانسانية مطبوعة في التراب. حقيقة أننا مهما اكتشفنا في باطن الارض لا ننقذ الكثير، وعمل الانقاذ نفسه يرتبط بأسئلة أرواحنا المعذبة من الماضي والحاضر أكثر من رفع الانقاض وإخراج الآثار من باطن الارض.
إذا ما فكرت بألفاظ العمل الحقلي لقلت إن المتاحف تغير من موقعنا بعد أن كانت قد غيرت من موقع الأثر ودمجته في تنسيق جديد. لن أزعم أن هذا سيء ، وبالعكس فطريقتها ترشد وتعلم عن طريق وضع أثاث وأدوات وعناصر تعبيرية عديدة في ضرب من التتابع الخطي أو النمطي وفي إطار جديد منظم تنظيما منهجيا. بيد أن المتاحف تلزمك بهذا التنظيم وتفقدك بمرور الوقت القدرة على التقاط الخبرات الرهيفة في داخلك ، وفي تعابير الأثر عندما كان في مدفنه الاصلي.
تتحدث المتاحف بلغة الانجاز فيما أبحث أنا عن الخبرة الداخلية . هل أقول إنني أبحث عن نفسي؟
كل الآثار تأتي من الحفر، حتى الشواهد والصروح الكبيرة الظاهرة للعيان تكاد تأتينا من وهاد عميقة يسودها الصمت. إن الأثر يتبع قوانينه في التخفي وإهالة التراب . إنه ينزل الى الاسفل في تبعثر أصيل وحقيقي ، تماما كالموت. ولكي نكتشفه ونخرجه الى النور علينا اتباع القانون نفسه ، وهو النزول الى الاسفل. إذا حرصنا على تأمل مثل هذه التجربة وجدانياً ، لوجدنا أننا لا نبحث ما جئنا نبحث عنه فقط ، بل ونعيد بموازاته – إذا شئنا - انتاج خبرة التأمل الباطني التي تنزل بنا الى نفوسنا من أجل أن نلقي ضوءاً عليها، وقد نحطمها أو تحطمنا في بعض الظروف. برغم اختلاف الادوات ، والمجال الحيوي ، والمواد ، فإن هذه الخبرة المتوازية تشير في الحالين الى أمكنة سرية يجب أن تفتح باحتراس تام ، في مثاويها الاصلية ، وفي فجاجاتها وتعاساتها وصمتها وأسرارها الخاصة.
في متحف الآثار في القاهرة أعدت اكتشاف هذه الافكار بمساند واضحة ، ففي حضارة أعطت اهتماما يفوق التصور بالموت ، وجدت أن الأثر يتبع خط الموت بوضوح أشد وبسلسلة كاملة من الانشاءات الخاصة به التي تخفي وتموه وتهيل التراب وتحكم اغلاق الابواب . لعلّ الاهرامات ، وهو أثر غريب في هندسته وتمويهه الخاص ، تكاد أن تكون الطرف السائب لهذه السلسلة ، بل هي ثورة في التفكير المعماري والحلول الانشائية التي تتجاذبها قوة التصريح القاطع والإخفاء شديد المكر.
تصبغ هذه السلسلة الفن المصري القديم بلون فريد، فهذا الفن بمجموعه مبرقع برداء خفي، مستور، مستحيي ، أخلاقي ، منكفئ على مثال تعبيري وجمالي لا يحيد عنه (لم تتغير القيم الجمالية التعبيرية طيلة اربعة آلاف عام الا في فترة اخناتون القصيرة). وفيما ترتقي الصنعة به الى حد الاعجاز، مودعة فيه صبراً وتقنية ومواد متداخلة وحلولاً انشائية مبتكرة ، وكميات غير عادية من العمل الانساني ، فإنه يظل لا يقيم وزنا كبيرا للبصر. إنه دوما تحت اقدام الموت يتأمل ويستدعي سلوكاً باطنياً . على عكس الفن اليوناني ، الحسي ، والانساني ، يعكس الفن المصري ظلال مملكة الموت التي تدفع بسطوح كتله النحتية والمعمارية نحو الداخل . تنغمر تعابير التماثيل بحجم الكتل الكبيرة وتندمج بها وبالمادة ، حتى التعابير الانسانية تتبع هذا الاندماج، وهي في الأصل مشغولة بأصابع الورع والرهاب.
السيطرة
من بين كل الأشياء التي رأيتها في القاهرة لم أشعر بهزة عنيفة كتلك التي شعرت بها حين شاهدت المتحف المصري القديم والأهرامات. ابتداءً من أول قاعة للمتحف حيث تسلمني قبر فرعوني في المملكة القديمة، وعبر عشرات القبور والنواويس والتوابيت، وحتى الأهرامات التي تهزم النظر، ثمة نفق خفي يعج بالأموات غير الظاهرين... نفق يتصل بحاضر تعيه وتكابده منعزل عن فنون السياحة وعروض الآثار، وينفذ إلى الفن الوحيد الباقي للإنسان في إنفاق عمره والموت وحيداً.
إن فكرة الموت تدوّم هناك، لكنك لا تستطيع الإمساك بها إلا للحظات تكون أنت نفسك جزءاً من سلسلة الموت النازلة إلى الأسفل في عمليات رهيبة من الضم والإحتواء، أو تكون في أفضل الحالات ملتصقاً بكينونة جردت من الآمال، وأنظمة السلطة والإحتواء الإجتماعي. إنك لن تأول شيئاً مما تراه في هذا النفق، وبالعكس عليك أن تصارع التأويل الذي يسلطه حاضر يتمسك جيداً بأهدافه ويضرب الأمثلة على براءته. إن هذا التأويل سلّط على الآثار ذاتها، فهي في مكانها الجديد لن تظهر من خلال تبعثرها الأصيل، بل بترتيب يجعلها تتكلم بلغة ملطفة وباحتراسات تقي الفرد الأعزل من الهواجس ، لكأننا إزاء رواية تاريخية مسلية. ترى هل بإمكان بعثرة هذا الاثاث من جديد؟ هل بالإمكان قطع الرواية من المفاصل الموجعة التي تربط بين العضويات الحزينة حيث نرى الموت وحده يسلط إرادته على كل حياة عشناها أو عاشها أسلافنا؟
إن في الموت قوة تجريدية خارقة تثير فينا الوعي وتسكت فينا الكلام. ما من وعي يقف على الحفر العاثرة الحظ أو القبور الفخمة باحثا عن الموت او واضعا اياه في مساءلة إلا وفرّ بعيداً لسؤال آخر عن أكثر الآمال خرافة وأكثرها واقعية في الوقت نفسه، تماماً كفرار جلجامش، وفي دورة مأساوية تستلخص معانيها في ما بعد، ومن دون اقتناع كبير. لعلّ تلك السلسلة التي يقيمها هملت اعتباراً من الدودة التي التهمت الملك وانتهاءً بمعدة شحاذ، تشيد بالمفارقة المضحكة المبكية الوضع البشري الذي لا معنى له والذي برغم ذلك نستدعيه لضرب الأمثولة التي لا أمثولة بعدها. إن الموت يقيم إنشاءات زائلة إلى ما لا نهاية وباقية إلى ما لا نهاية. والآن حتى إذا لم نتعمد إذلال الأحياء في تذكيرهم وإذكاء تواضعهم بالموت، فإن كامل الإنشاءات التي يقيمها البشر لموتاهم لا تقودنا إلى القبور بل تتوسل بسلطة الأحياء لتعيد كل شيء إلى مكانه الآمن في تاريخ يختلط فيه العضوي وما فوق العضوي ضمن هدف مخمن لكنه مدعوم. إن الموت لا يتحدث، وآثاره من مقابر ونواويس ومومياءات وأهرامات ليست إلا إنشاءات أحياء، كما أن الموت الذي يقطع الرواية التاريخية إلى عدد لا نهاية له من النقاط يشيدها من جديد على مستوى آخر من الإتصال بين الأحياء والأموات وبوساطة أيديولوجيات مدعومة بشهوة إلى السلطة لا تهدأ، وبتكرار دؤوب للأحداث والأفكار. إن الحضارة تواصل عملها الخطير بين الحفر. إنها توصل رسالة، وبالتأكيد لا توجد قراءة واحدة لهذه الرسالة، لكن اختلاف القراءات لا يوصلنا إلى نتائج مهمة، إلا على مستوى تضمينات قد نقبلها ولا نقبلها. ما نتسلمه عن الأحياء نعيد دمجه في نوايا وظواهر لا تختلف كثيراً عن أهداف صاحب الرسالة الأصلي وإن اختلفت الأزمنة وصنّعت أهداف مركبة من الصعوبة عزل بعضها عن البعض. فالقائم بالعمل (صاحب الرسالة) يمتلك تفسيراً لعمله... إنه يشرح ذاته، ويعظّم معنى يفهمه كنسق من البداهات والمفاهيم التي تشكل عنده علماً. أما قارئ الرسالة المعاصر فهو أكثر احتراساً في إضفاء معنىً ذاتياً جديداً يفكك به ذلك النسق. فهو يستنتج المفهوم الحضاري الاصلي من عشرات الوثائق والآثار الكتابية مفسراً او مقدماً وصفاً تقريبياً. لعله يقدم تاريخاً لا يخلو من ظن ، لكنه يدرك اليوم اكثر مما مضى بعد أن تداعت المركزيات الثقافية أن التاريخ هو رواية محتملة. في روايته التاريخية هو لا يساجل خصماً، إلا إذا كان الأموات خصوماً (وأنا أفترض حسن النية طبعا . بيد أن هناك ادلة معاصرة على وجود أحياء يعيدون قتل بعض الاموات يوميا، وهناك أحياء يمسك بهم الأموات). بوجه عام نكاد نشعر باطمئنان إلى أن رواية التاريخ الحضاري القديم مسيطر عليها في عمليات إعادة الترتيب المكانية (المتاحف)، والمفهومية (التاريخ).
السلطة والاستثمار
تعد إجراءات السلطات في التعامل مع الآثار أكثر قيمة من حيث الدوام والفوائد الاجتماعية من اي تأمل فردي ، فهي تعالج الماضي بإدخاله إلى سلطة الإستثمار والتملك، أما آثار الموت فستندمج مع أثاث متنوع وفي خزائن مروّضة تشي بسلطة شاملة من الإستحواذ على الماضي والحاضر على حد سواء.
في متاحف الآثار العامة التي تتجاور فيها آثار القبور والآثار الأخرى من رسوم وكتابات وحاجيات استعمال وغيرها، تندمج الآثار كلها باصطفاف مكاني وظيفي يمليه الفضاء الهندسي للمكان (المتحف ووسائل العرض). هنا التنظيم يعامل الآثار كلها من خلال فكرة الإنجاز، ويقترح مفهوماً عن النمو والتراكم على نحو متصاعد... من أقدم الأزمنة إلى الزمن المعاصر، وفي مكان مقبوض عليه. إن الحاضر يعيد تنظيم الماضي على النحو الذي يصبح فيه الوريث الشرعي له. في هذه العملية تملأ الفجوات وتقمع السلاسل الصغرى التي تظهر بعد دمجها في سلسلة واحدة متصلة بما يجعل الصنعة تغطى على الإنفعال، والإنجاز يغطي على الخبرة الداخلية والعلاقات الخاصة الرهيفة جداً، وصوت الحي السلطوي يغطي على الكبرياء الحزينة لشعب الأموات العريق.
إذا ما دققنا النظر في هذه العملية فسنلاحظ أنه عمل يوازي ما كانت الحضارات البائدة تفعله في حفر أمواتها... فهي تغطي على الموت بإيصال فكرتها ومزاعمها الخاصة إلى أمواتها لتهيء لهم الأمان في رحلتهم الأبدية، ثم لتلجم انفعال الأحياء وتجعله في حدود دنيا من التوتر والخوف.
إن استثمار الموت حركة دائرية لا تهدأ، كذلك أعمال الإحتواء الإجتماعي.. فيما الموت باقٍ لا يتغير. إنه صورة على حد تعبير باشلار.
في التربة العراقية
في عام 1977 تسنى لي معايشة الحملة الدولية التي نظمتها دائرة الآثار لانقاذ آثار حمرين قبل أن تغمرها مياه السد. قضيت هناك متنقلا ما بين التلال الاثرية نحو عشرة أيام أفضت بي الى أن أكتب عدداً من التحقيقات الصحفية، وكتابة رواية "التل" التي ضمنتها مزاعمي وتأملاتي الخاصة عن الآثار والموت والحياة. تشكل التلال الاثرية التي يزيد عددها عن 70 تلاً خط سكن قديما يلاحق نهر ديالى . المياه التي جاءت بالناس الى السكن بالقرب منها وجعلت الحياة ممكنة وسهلة دفعت معاصرينا الى الهجرة والى "شعب الاموات" بأثاثه المتبقي الى الغرق. كل عصر له أهدافه ووسائله في تدبير أمره في الحياة . فيما عدا هذا فإن خط السكن القديم الذي واصله الناس دون انقطاع هو نفسه خط الموت . إن انشاءات الحياة اللاعضوية تهبط الى الاسفل مختلطة بالموت العضوي كما في كل حضارة قديمة . لم يعد هذا يحدث في زمن الاديان التوحيدية الكبرى بوجه عام ، ليس بسبب زيادة السيطرة والتحكم وحسب - وبالاحرى كم خلقنا وسائل تجعل من تجربة الموت مؤلمة وجماعية- بل ولأن فكرة وجود رحلة ثانية اندست بنسق ثنائي جديد : الجسد والروح . الاول يجب أن يُلحد بسرعة والثاني الذي سيجيب على الاسئلة الصعبة ينتمي الى "علم السر" الإلهي. لم تعد المغادرة تحتاج الى زاد بل الى تلقين ديني. لا يمكن تصوير الروح ، واللامرئي لا يمكن اختزاله بقرين رمزي محدد. إنه استنتاج ذهني وعاطفي . السر مقدس . والحياة ، لهوها وغرورها، هي الرحلة وليس ما بعد الموت. بسبب من عقيدة التجسيد شذت المسيحية فيما يتعلق بالتصوير مع بقاء الافكار الرئيسية هي نفسها.
في تل الإمام إسماعيل (وأهل القرية يسمونه النبي إسماعيل، إذ يعتقدون أن النبي إسماعيل مدفون هنا)، اختلطت قبور القدامى بالجدد ، اقوام عراقية واجنبية كالفرثيين وأهالي قرية الزاوية الذين جعلوا من التل مقبرة قريتهم، ومن هنا فإن التنقيب جري بتعثر، وفي الطرف الجنوبي من التل ليس إلا حيث لا توجد قبور للأهالي. الناس هنا لا يحبون أن يجري التنقيب في هذا التل. قال لي ذلك الشيخ المسؤول عن مرقد الإمام إسماعيل. قلت له: الأثريون يريدون أن يعرفوا تاريخنا ليس إلا.. ألا تريد أنت أن تعرف هذا التاريخ، وهو تاريخ مكانك هنا على أية حال؟ قال: أريد أن أعرف، لكن القبور لا تريد ذلك، منزلة الناس تكبر عندما يموتون!
منطق قوي. لكن ما لم يقله، فيما عدا مخاوفه التقليدية، هو أن بعض الموتى أقوى من الاحياء ، وهم ما زالوا يمدون اقدامهم في مزارعهم وعوائلهم. إن فقراء الريف تحتضنهم قبور سريعة التلف. وفي كل الاحوال قد يكفي مرور 3 اجيال لكي تضعف الوراثة الاجتماعية للأموات أو تتبدد، وتربة مثاويهم تكون قد غيّرت رعاتها الاحياء أو غيبت بعضهم، ولا تعود حتى الشواهد فيها قائمة . تحوي المقابر على قبور منسية أضعاف من القبور التي تُزار عند الأعياد. إن الزمن متطامن مع هازم اللذات ومفرق الجماعات، لكن النسيان والاهمال هما إسمان آخران للحياة - الحياة بكل ما تضعه علينا من مهمات عاجلة ومزعجة.
لم يزعج العراقي القديم نفسه في بناء انشاءات دهرية ضخمة ويمنحها صفة مقابر، ليس لأنه أضعف ايمانا، ولا اكثر شجاعة، بل لأنه ولد في مكان حضاري مضطرب يقع على خط الهجرات المفتوح على السهل الرسوبي الذي ولدت فيه أول حضارة في التاريخ . لقد كان منشغلاً دائما ، حتى وهو يبدي استسلاماً للقضاء والقدر، داخل بيئة غنية جداً لكن صعبة ومعادية. إنني بالتأكيد أقول هذا وفي ذهني مقارنة ما بين الانشائية العراقية والمصرية (قدمت بعض أوصاف مقابر الاخيرة) . إنها مقارنة تعكس في طياتها اختلافات في المفاهيم الثقافية والمواد المستخدمة في البناء والبيئة الجغرافية. ولعلّ هذه المقارنة توضح نوعية الاضطرارات الملزمة التي حددت قدراً من استجابتيهما.
يؤمن السومريون حالهم حال المصريين القدامى بوجود رحلة ما بعد الموت ، والمقابر لدى الحضارتين تضم زاد هذه الرحلة، لكن فيما يعرف السومري أنه ذاهب الى العالم السفلي الرهيب حيث لا عودة ، يؤمن المصري انه سيلاقي "رع" في نهاية النفق ، وعن طريق بركته يدخل الى الجنان. إذا ما حذفنا اللجاجات البيروقراطية التي يوفرها كتاب الموتى المصري (اندساس بارع لرمزية الدولة وهيمنتها) من تلقين للاموات المصحوب بالادعية، فإن الفروق الدينية في وصف هذه الرحلة قريبة في عقليتها الرمزية من أصحاب الديانات التوحيدية. إن المفهوم العراقي لا يبدو أقل دينية أزاء الموت بل أكثر يأسا، أكثر وحشة ، أكثر تسليما ولا مبالاةً. إن عودة دموزي (تموز) من العالم السفلي الى الحياة مؤقتة، هي صدى حكاية زراعية يلفها طقس كامل ، طقس حزن وبكاء وضرب صدور، وله مواقيت زمنية محددة كعادة كل الطقوس الدورية. ما نعوّل عليه في توضيح المفهوم السومري ، والعراقي بوجه عام ، ليس طقساً في انبعاث ميت عظيم، بل رحلة قام بها أحياء في الحياة لفهم الموت والتغلب عليه. بدلاً من الدخول الى الدهاليز المصرية المظلمة ، حيث اللاهوت صارم، وأعمال التدقيق تشبه ما يقوم بها محاسب قانوني، سنكتشف في نهارات منيرة رجلاً حياً يصارع من أجل انتزاع حظه: كلكامش!
بالرغم من فارق الزمن يحتل كلكامش موقعاً في الدراما الانسانية كما فهمها الاغريق، حيث تطيح الاقدار بالنبلاء وأغنياء الروح في صراعهم الاجتماعي والسياسي ، بيد أن كلكامش أضاف لصراعه بعداً وجودياً واضحاً. تدير الملحمة تأملا فلسفيا في الحياة في لحظة موت يضرب الأحبة والاصدقاء. بالاعتماد على البداهة الانسانية ، وبانعدام حيلة جذري، سيكون الواجب تقليل الاسئلة التي لا جواب لها أو إهمالها. إن الاخفاق مقرر سلفا في أي بحث يمسك بسره إله، كالخلود . ما الذي نلقاه غير تأملات مضطربة ازاء مصيرنا ، كجثث متفسخة اولاً، ثم كغياب ثابت ومديد ثانياً. نجد في تأملات تجري على التخوم أن الحياة مؤقتة على مستوى الوجود الفردي، نجد فزعاً ، بكاءً خاوياً ، تساؤلات من دون اجابة ، حلاً تمنحه مسرات الجنس والشراب نخرج منه أكثر خوفاً، ثم البحث المضني عن الخلود الذي يضطرنا الى قطع مسافات خرافية ومواجهة العفاريت والجن . لكن لا مفرّ من النهاية. إن الانعطافة الاخيرة للفهم، ومن ثم القرارات المتبقية للآفلين، ستقررها نبالة كلكامش المؤكدة، ومتطلبات استمرار السلطة، وهي تتلخص بالاستسلام والالتفات الى الحياة والمباشرة في بناء أثر.
يبدو هذا معاصراً جداً ، فهذا ما نفعله ، حتى لو لم نمتلك حظاً بالنبالة الطبقية ولا إمكانية بناء أثر. إن الاخلاق الرمزية الدينية قد تكتفي بالسيرة الحسنة ، لكن الاطماع في السلطة والمال تغري حتى أصحاب القداسة وتمرغهم بالوحل. إن أبناء الارض مرحون حتى في يأسهم.
أهي مصادفة ، أم هو تفرع عن أعمال تكيف بطيئة، هذا اللقاء الغريب المنسجم ما بين المواد المستخدمة والافكار؟ إن بطش المفهوم المصري يجد معادله في الصخر القاسي ، ويجد تتمته في العزلة الجغرافية ، والري المنظم. لكن حضارة اعتمدت على الطين في أعم انشاءاتها ، ووجدت تتمتها في فيضانات مرعبة لا مواقيت محددة لها ، ونظم ري استدعت وجود دولة مركزية مدركة ويقظة، مثلما احتاجت الى تعزيز دفاعاتها الحدودية خوفا من جيران مثابرين، لا مفر لها غير أن تدفع بقواها نحو تنمية ما يبقيها حية وليس تنمية لاهوت كامل العدة، مع تصورات وهواجس مكتبية على حفر المقابر. إن السيطرة على الحياة كانت المهمة الأصعب.
في العصر الحديث تأسست منظومة الري الجديدة على الحقائق المرعبة للطوفان الاول، والفيضانات المستمرة التي كانت تهدّ أسس المجتمع السياسي وتوزيع السكان. من هنا فقد شيد معظمها لدرء الفيضان وليس لمتطلبات الزراعة. اليوم يعاني الناس من العطش والزراعة تبحث عن المياه : ها هو التاريخ السياسي يغمر بتحولات بيئية وبشرية سها عنها أبناء البلد. إننا ندفع ثمناً مضاعفاً في السياسة والاقتصاد بعد فقدان التوازن الطبيعي بسبب الإهمال ومشاريع الري الخاصة بالجيران التي لا تبالي بمصائر العراقيين ، في زمن تفككت فيه الدولة المركزية.
إن المفاصل المتيبسة للمجتمع السياسي التي أدت بالناس الى السكن في المقابر في مصر، راحت تطقطق في العراق بقوة . وفيما يزداد الاهتمام الميتافيزيقي للناس بازدياد قلقهم ، ضعفت الروحانية الانسانية التي هي زاد الناس المعاصرين. إن الموت (في) الحياة، وهو ما يجري في الحياة الاعتيادية ، راح يسرع ويهاجم العراقيين بقسوة ، وهو أعنف من الموت البيولوجي , ومسرّع اليه ، مع احزانه واضطراباته وتكاليفه ، وله تأثير سيء على قواعد الضبط الاجتماعي، ولاسيما أنه يزداد عنفاً مع ارتفاع مناسيب النفاق الديني ، والورع الزائف.