كان اسمُهُ «سوق السراي» منذ عرفته نهاية السبعينات، رغم أنه في ذلك الوقت تقريباً جرت تسميته بـ«شارع المتنبي» بعدما انتصب على نهر دجلة، قريباً من المكتبة الوطنية، تمثالٌ «للكوفيّ المارق» من أعمال النحَّات محمد غني حكمت مع أنه لا يوجد في سيرة ضجيع «دير العاقول» ما يشير إلى أنه دخل بغداد مرَّةً، ولم نقرأ له شعراً فيها ولا في لياليها.
كان الطرفُ النهريُّ للشارع، يضمُّ مبنى «القشلة ـ الثكنة العثمانية» ومجمع المحاكم المدنية، ومقهى لاستراحة المتنازعين والقضاة والمحامين، وطاولات للعرضحالچية (كتاب العرائض ومتابعي الدعوات والنزاعات المدنية) وسوقاً لبيع القرطاسية والمداد الذي كتبت به محاججات نزاعات طويلة قبل أن تقدَّمَ لمجمع المحاكم بشتى اختصاصاتها. كلُّ هذا اختزل بزقاق منسرب عن شارع الرشيد، الشارع الذي وصفه جبرا بالضيق في روايته «صيادون في شارع ضيق». زقاق يموجُ بالبشر بين «الرشيد» و«دجلة» بين «الثكنة العثمانية القديمة» والمكتبة الوطنية، بين «القيصرية» ومقهى «الشاهبندر» وهذه التقسيمات في الأمكنة، ليست مسافة مكانية فحسب، وإنما مسافة بين جماعة وأخرى! في سنوات الحصار، وبعد حريق مكتبة «المثنى» نهاية الألفية الماضية، وشيوع ثقافة الاستنساخ، عاد الشارع/ الزقاق للواجهة من جديد، أضاء التمثال وخبا «السراي». توقفت ساعة القشلة الضخمة، ونامت أبواق الجنود، وتخلَّت المحاكم عن المزيد من النزاعات المدنية، بينما استيقظت بسطات الكتب، وشاعت الطبعات المقرصنة، وغدا الشارع محجَّ المثقفين الأسبوعي في جُمعتهم، صَلاتهم وصِلاتهم. إنه شارع الثقافة العراقية بالعبارات الحميمة كصيف بغداد، وعبارات النميمة الموروثة عن إرث بلاد الشقاق، حيث دجلة على بعد بضعة أمتار «يُسرفُ في شحِّه والنَّدى» كما يقول الجواهري، الذي وُضِعَ له تمثال يقترب في تكوينه من الكاريكاتور. هو الهامشُ في عطلة المتن وعطالته، هامشُ التمرُّد والردَّة الضرورية في زمن الأصولية حيث للمثقفين برلمانهم المفتوح بين تماثيل من حجر أسود، وأرصفة من كتب بنكهة مختلفة في زمن الطوائف! والشارع، بهويته الحالية، ليس جزءاً حيوياً من ذاكرة مثقفي المنفى، فهو من ضرورات مرحلتي، الحصار والاحتلال، ربما باستثناء صوت الغناء السبعيني القادم من مكتبة «كريم حنش» في القيصرية! المنفيون وإن احتلت كتبهم حيزاً مهمَّاً على رصيفي هذا الزقاق البغدادي الضيق! إلا أنهم حين يحضرون في زيارة ما، يمرون في الزقاق كطيور عابرة ليس لها سربها ولا تجد أعشاشها، وإنْ كثرت حولهم صحبة مشبوهة، فهم ليسوا من «جماعات» المكان ولا ينبغي لهم. كتبهم كتبت لعراق آخر وعن أزمنة أخرى، لذا فهم لا يتعرَّفُون تماماً إلى تلك الخرائط الغامضة، إلى المكان وجماعاته المستحدثة في عراق ثقافي ملتبس يمثل الشارع أوضح صورة تقريببة له. ألف متر من الكُتبِ والمحاورات المبثوثة، تلخص شِقاق النُّخب وضفاف النزاع في العراق، فالأمر في شارع المتنبي لا يتعلق بكتاب، لكنَّه حكاية بين رصيف، وضفة نهر وبينهما وقائع لمعركة ستظلُّ مُحتدمة في العراق، بين الثكنة والمكتبة. |