ليست قصة: لا تسيئوا الظن. ما سأقول تمهيد ضروري يسبق الكلام عن ظواهر حاولتُ فهمها بالحدس : هناك قوة ما تجعل اشياء محددة تتصرف على نحو يناقض استنتاجات العلم، بينها قدح النبيذ وزر القميص والجوارب
كنت مراهقاً حين قرأت عن قانوني التنازع من اجل البقاء والانتخاب الطبيعي اللذين اكتشفهما تشارلز داروين بخصوص نشأة الأنسان، رغم ما اعتراه من حيرة بشأن الحلقة المفقودة التي تتوسط الانتقال من القرد الى الإنسان.
قرأت لاحقاً مؤلفات كارل ماركس التي توضح وتؤكد دور العامل الاقتصادي الاجتماعي في تحريك التاريخ. جاء ذلك، مثلا، في 'الرأسمال: نقد الاقتصاد السياسي' الذي شرح، في ثمانية اجزاء، فائض القيمة ووحدة وصراع الاضداد عبر قوانين الجدل (الديالكتيك) كما بيّن الفرق بين امتلاك ادوات الانتاج وعلاقات الانتاج ومظالم البروليتاريا الخ.
قرأت في نظرية البرت آينشتاين : النسبية الخاصة والعامة عن التجاذب بين الكتل وانحناءات الزمان والمكان والضوء (ذي الطبيعة المزدوجة: جسيم وفوتون) الذي كان واحدا من اعقد ألغاز الطبيعة، وأن الطاقة والمادة لا تنفصلان ولا يمكن إفناؤهما أو خلقهما من العدم ،الخ.
قرأت 'نظرية الكم' التي وضعها ماكس بلانك (كان اسمه الأول ماركس وغيّره بعد بلوغ سن العاشرة) واستند اليها الفنان الراحل محمود صبري في وضع فرضيته 'واقعية الكم' في الفن التشكيلي. وتعد 'نظرية الكم' في الفيزياء أكثر خطورة من نظرية 'النسبية' بفعل تأثيرها البارز والعميق في نظريات اخرى كثيرة.
قرأت عن الإنفجار العظيم (بيغ بانغ) الذي انشأ الكون قبل 15- 20 مليار سنة، والردود الميتافيزيقية على سؤال : ما سبب الأنفجار ؟ ماذا كان قبل الانفجار ؟ لا شيء ؟
قرأت عن محاولات العلماء، بينهم ستيفن هاوكينغ، نسج نظرية موحدة تشرح كل شيء في هذا الكون الغامض ذي الأبعاد الأحد عشر، وليس الثلاثة كما تتوهم العين.
دعونا ندنوا الآن من صلب الموضوع. فهمت كل ما قرأت سابقاً، بما في ذلك صعوبة ادراك آينشتاين دواعي تصرف الالكترون، فهو قال: ' لا يمكنني تصديق أن الالكترون (حين يتعرض للإشعاع) يختار بإرادة حرة لحظة قفزه، بل والاتجاه الذي سيقفز نحوه. في هذه الحالة أفضّل أن أكون إسكافياً على أن أكون عالِم فيزياء.'
انا لست اسكافيا ولا عالم فيزياء، لكن اقتدي بالعالِم الذي لا يقتنع بالملاحظة فقط، وانما يسأل:
- لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
آينشتاين عجز عن ادراك تصرف الالكترون، وعجزت انا عن ادراك تصرف قدح النبيذ وزر القميص والجوارب. هو قال: 'لا يمكن تشييد نظرية علمية بناءاً على ما يمكن ملاحظته بالتجربة فقط، بل العكس صحيح، النظرية هي التي تحدد ما يمكن ملاحظته أو قياسه بالتجربة'.
العجز هو اشد الأحاسيس وطأة. لكن ما حفزني على الكلام عن وجود 'قوة' تجعل اشياء محددة تتصرف على نحو يزعزع استنتاجات العلم او يشوشها، هو قول ماكس بلانك:
- 'فكّر ملياً بكل خطوة تريد القيام بها، وحين تثق أنك قادر على تحمل مسؤولية هذه الخطوة، أقدِم عليها ولا تدع شيئاً يوقفك'.
فكرتُ ملياً ولن يوقفني شيء. اليكم ملاحظاتي عن ظواهر عجزت عن فهمها:
1 ـ لماذا يسقط ويتهشم قدح الزجاج الثمين (وهو ملآن على الأغلب بالنبيذ او البيرة او الويسكي) حين تمسه يدك خطأ (بل حين تمسه ظلال يدك)، بينما لا يتهشم القدح الرخيص (المصنوع من نفس الزجاج) حتى لو استخدمته في دق المسامير على الحائط؟
2 ـ لماذا حين يتهشم القدح تتناثر شظايا على الأرض تكفي لصنع عشرة اقداح؟
3 ـ لماذا تختفي دوما فردة واحدة من الجوارب وليس الفردتان؟
4 ـ لماذا حين تجلس مسترخياً في الصالون، ويسقط قلم او زرُ قميصٍ او اي شيء، بين قدميك، لا تجده حيث سقط. تنبطح على البطن لترى إن كان تحت الأريكة، فلا تجده. ولو واصلت البحث بعناد وحنق ستجده في ركن الطرف الثاني من الصالون، او ربما في المطبخ او المرحاض؟
يقول فلاسفتنا: ان بلوغ الجواب الصحيح يقتضي الوقوف فوق اكداس من الأجابات الخطأ، وصار عندي منها ما يتجاوز اعلى برج في العالم.
لجأت للحدس، وهو مناقض للعقل، لكنه كالايمان، يقين لا يحتاج الى اثبات، فهو لون من الاشراق والوحي يقوم على الفطرة للكشف عن ظواهر يصعب ادراكها. حاولت اتباع مبدأ الاستنتاج، اي الانتقال من حكم، او عدة احكام تدعى مقدمات، الى حكم جديد يدعى نتيجة او استنتاجا. والمعروف ان الاستنتاجات تقسّم الى 'استقرائية' و'استنباطية'. اعتمدت منطق الاستقراء، اي الانتقال من الخاص (او الجزئيات) الى العام، ثم اعتمدت منطق الاستنباط، اي الانتقال من العام الى الخاص، قلت : كل الزجاج العادي يتهشم 'قضية عامة' وقدح النبيذ (الثمين والرخيص) زجاج عادي، يلزم الاستنتاج: القدح يتهشم 'قضية خاصة' ... لكن لماذا القدح الثمين وحده يتهشم والرخيص يبقى الى الأبد؟ لماذا تنفقد فردة واحدة من الجوارب وليس الفردتان معا، لماذا زر القميص الذي يسقط بين قدميَّ في الصالون اجده في المرحاض؟
اشعر باجهاد ذهني مفرط. الموضوع شائك وعويص، يتعلق بالفيزياء والرياضيات والفلسفة وعلوم الدين ... وربما بالسياسة ايضاً !
سأتوقف هنا وأقول ما يواشج قول آينشتاين: لا يمكنني تصديق أن زر القميص (يتصرف كذلك الالكترون) حين يسقط يختار بإرادة حرة لحظة قفزه، بل والاتجاه الذي سيقفز نحوه. في هذه الحالة أفضّل أن أكون خياطاً على أن أكون كاتب قصص.
هنا المقال أهداه محمود الى ابن شقيقته "الكاتب المسرحي وعالم الاحياء (بيولوجيا) حسن عبد الرزاق": محمود البياتي توفي في لندن في 31 من اكتوبر