قصائد آتية من بعيد، ونصوص من قريب، تروي فصولاً من سيرة مدينة استثنائية، مسكونة منذ تأسيسها بالتاريخ والأساطير والانكسار والانتصار، انتقاها الشاعر العراقي محمد مظلوم في «ديوان بغداد.. مدينة تروي وشعراء يدونون» الذي يجمع تجارب شعراء بالجملة - بغداديين، ومتبغددين - شهد كل واحد منهم جانباً من تاريخ المدينة المحتشد بالأحداث، منذ منتصف القرن الثاني الهجري، وحتى سنوات قريبة.
عاصمة الألم الخلاق
يقول عبدالوهاب البياتي (1962 – 1999): «أم الدنيا بغداد. بناها المنصور لتصبح عاصمة الألم الخلاق.. وفد الشعراء إليها من بعد المنصور.. فباسوا تربتها.. سكبوا فوق ضفائرها خمراً.. حتى صارت بستاناً ومزاراً لطيور البحر.. وبدو الصحراء.. من كان يحجّ إليها ينسى حبيبته الأولى.. ينسى مفتاح الدار ويموت فيها سكران.. خلبت لب معري النعمان.. فظل يردد: بغداد! كانت أحلى امرأة، وستبقى أحلى الحلوات». بعين ابن المكان، يقدم مظلوم «ديوان بغداد» الذي صدر حديثاً عن عن دار التكوين، مهدياً إياه «إلى بغداد.. مدينتي.. وأم العراق»، أو «أمّ الدنيا»، كما عبر الراحل عبدالوهاب البياتي في إحدى قصائده التي يجمعها «ديوان بغداد» الذي تتلاقى في صفحاته حالات وتجارب متنوعة، تربو على الـ80، تبدأ بشاعر تصادف ميلاده مع ميلاد بغداد ذاتها، وهو أبونواس (145 هجرية)، إذ استهلت قصيدة له الديوان الذي يختتم بأشعار محمد مظلوم، من اختار القصائد وقدم لها، وقطع مسيرة بحث طويلة، ضربت في تواريخ بعيدة، واستعانت بنحو 200 مصدر ومرجع من التراث والكتب المعاصرة والمجلات، كي يخرج في النهاية بهذا الديوان البغدادي الذي يقع في 336 صفحة.
في مقدمة «ديوان بغداد» يسلط مظلوم الضوء على إنشاء المدينة الذي يتداخل فيه التاريخ بالأسطورة، وحريق تأسيسها الأول، وهي بعد مشروع مدينة، لما أراد أبوجعفر المنصور أن يراها عياناً فكان الرماد والنفط والنار. ويبدو من يومها أن ثمة ناراً جاثمة تحت رماد المدينة، تنبعث كل حين، فتحرقها من جديد، مرة على يد الخلفاء المتناحرين، وأخرى على يد مغول القرنين السادس والـ14 الهجريين.
ومن التأسيس، إلى الاسم، تبقى الأسطورة، وتتضارب الروايات، هل بغداد فارسية المسمى، أم كلدانية أم صينية حتى كما رأى البعض، إلا أن الجميع اتفقوا على أن هناك تركيباً في الاسم الذي كرهه فقهاء، واستبدلوه بأخرى: مدينة السلام، الزوراء، دار الخلافة، وغيرها كثير، إلا أن ما صمد كان بغداد. ومن الاسم، إلى ناس المدينة وأهلها، الذين كانوا «خميرة غير متجانسة» أو «الخميرة الاجتماعية العصية على التشكل» - حسب تعبير محمد مظلوم - فثمة مهجّرون دائماً، وكذلك وافدون جدد: و«بغداد ظلت جغرافيا بشرية قلقة، أو خزاناً كوزموبوليتياً يضخ ويستقبل كما مياه دجلة، خزاناً ليس للمياه، لكن لتداخل الدماء بدلالتيها: القتل والولادة، وما بين تلك التي تسيل بفعل القمع والغزو، وتلك التي يجري تجديدها بوفادات جديدة، استمرت العاصمة أكثر مدن العراق تغيراً على كل صعيد، خاضعة لتبدلات ديموغرافية لم تهدأ في يوم من الأيام».
أسماء كثيرة يضمها «ديوان بغداد»، مشهورة ومغمورة وربما مجهولة أيضاً، قامات كبرى في التاريخ الأدبي، من بينها أبونواس، وأبوتمام، وابن الرومي، والشريف الرضي، وسعدي الشيرازي، والأخطل الصغير، وأحمد شوقي، وبدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وسركون بولص، وآخرون عديدون في الديوان الذي يقدم لكل شاعر، ويروي طرفاً من سيرته، ممهداً لكلماته عن بغداد.
ومن القصيدة الختامية لمحمد مظلوم: «القتل موجز الحكاية، من الخلد إلى النهاية!.. قصر للخلد يتركه الملوك المخلوعون.. إلى مناف يموتون فيها.. قصر للزهر يشمها ليل العراقيين.. وهي تسمع تدبيرات مشبوهة وراء السياج.. قصر للرحاب يستريب بقصة شعر الملك الصغير ليلة مقتله!
وقصر للنهاية التي يغادرها سجناؤها إلى الذكريات!».
يشار إلى أن محمد مظلوم، ولد في مدينة الكرادة ببغداد، عام 1963. تخرج في كلية الشريعة جامعة بغداد. وغادر العراق عام 1991 إلى سورية، وعمل في صحافة المعارضة العراقية آنذاك، أصدر مع آخرين مجلة كراس للإبداع المغاير في بيروت عام 1994. ومن دواوينه الشعرية «غير منصوص عليه»، و«النائم وسيرته معارك»، و«إسكندر البرابرة»، و«أندلس لبغداد». وله عدد من الإصدارات النثرية والدراسات المتنوعة.
|