أُدركُ خطورة أن يتحدث غير السياسي في السياسة ولكننا لابد أن نعبّر عن أسى ونبثّ شكوى 1 ليس مفرحاً أبداً أن يُقتَل أحدٌ من أبناء الشعب. هو خسارة لا أحدٌ يريدها. وأرقام القتلى هي مثار اسفٍ اكثر مما هي ابتهاجات نصر. لكن الإشكال الفكري يواجهنا في حال يحرك ذلك المضادَ الاختلافُ ويبدأ بتخطيط ما قد يسبب ضررا اجتماعيا وإرباكاً للحياة العامة للناس وسياقات عملهم أو مشاريعهم. والمؤسف ان "أبناء الشعب" أولئك قد ورثوا فكراً لعصر آخر تجاوزناه ويريد واحدهم ان يورث ذلك الفكر وذلك التصور إلى وريث لا يرغب بهما! الفرق بين فكر معادٍ وفكر ثوري هو أن الثوري يرتبط برؤى مستقبلية والأول بالماضي. لكي تتحرك الحياة إلى أمام نضطر لإزاحة الاعتراض.
2 الإجرام مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتفكك الاقتصاد المحلي. وأسباب موجات الفِتَن التي تتمظهر بالمذهبية أو القومية أو الإقليمية ليست منفصلة عن فصل مئات من الضباط والإداريين الكبار وخسرانهم للحوافز والهبات والمواقع العليا وما تقدمه الدولة لهم من فرص ونفوذ. وأولاء مرتبطون بعوائل وأقارب وعشائر وكلها تتأثر بذلك. اتسعت الدائرة. أضف لذلك تفاقم البطالة وغلق المصانع بدلا من التوسع وفتح أخرى جديدة. زاده تقلص الزراعة بسبب تزايد التصحر وإهمال الري. النتيجة ان المنتجات الزراعية المستوردة هي أفضل نوعية وأقل كلفة. بهذا أضفنا، إلى البطالة الإدارية والصناعية، زراعيين.
3 إن حجة الدولة بتقديم المعونات الاجتماعية هي حجة مقلوبة الأثر نفسيا واجتماعياً. هي تؤكد للشخص بطالتَه فضلا عن عدم كفايتها وافتقادها روح العمل والكسب مما يعطي مذاقاً للحياة. وإن ضعضعة الطبقة الوسطى لم تلق علاجات عملية ناجعة. على العكس، كان البديل "رأسمالية النهب". لدينا الآن صفقات تجارية يقوم بها وينفذها بالنيابة تجار صناعيات وتجار زراعيات وحتى أدوية!
4 رأسمالية النهب أكثر ما تكون وضوحاً وإثارةً للاستياء الشعبي تبدو في مقاولات المشاريع. وهذا يولّد تبادل الرشا والتفاوضات المحشوة بالفساد المالي مع الشركات الأجنبية التي تتولى المشاريع. أحد مظاهر هذا الفساد هو العزوف عن الشركات المحترمة، الألمانية، الإنكليزية، الأمريكية...، والتفاهم مع شركات فيها فرصة "كومشن" أو "هدايا" و طبعاً هذا يُحْسم من نوعية العمل. هذا ضرر آخر يضاف إلى جسم الدولة. وهذا الضرر يكبر بتوسع الروايات والأخبار، مما تسهم فيه المخيلة الشعبية المستاءة أو المضادة. من إخفاق المصالح الحكومية والتشكيك الدائم. حقاً أم باطلاً، تتوالد الروايات حتى صارت سحابة عازلة من الاستياء بين الحكومة والجماهير الشعبية. إن موضوعات صرف المال العام هي أكثر ما يثير المتضررين أو الذين يعانون من مشاكل في الخدمات. وما يُعلن من مشاريع صار، نتيجة لما سبق، "طوباوية سلبية" تذكّر بسوء الواقع أكثر مما تبشر بالمستقبل.. إن الأفكار الشائعة عن وجود تخلخل إداري في التنفيذ وإرباكات تستّرية في الصرف والاتفاقات لا تلغيه بشرى ببناء مستشفى. ثم أن مشاريع عديدة لم تنجز، تعطلت تماماً أو تأخرت بسبب ما تعرضت له من ابتزاز .. وقد وُضعت أحجار أسس عديدة وظلت أحجار أُسس لسنتين أو ثلاث. إن هذا يفقد الدولة مصداقيتَها ويتحول مصدراً ليأس الناس وإلى نكوص اجتماعي. 5 الأعداد ممن يُلقى عليهم القبض من متلاعبين وسراق وتجار مخدرات ومهربي آثار ولصوص ومرتكبي جرائم نشل وتزوير .. تزداد، وتشكل هذه الأعداد مظهراً للإفرازات التي تحدثنا عنها. وقد تكون لها نتائج مفزعة أخرى في الطريق إذا لم تحدث انعطافة حقيقية في التفكير والبرمجة وقبلهما في العمل السياسي. فلا مناص إذن من التعرض للدولة ولقراءاتها السياسية. وهنا ليس عيباً أن تقر الدولة بمؤثرات الخارج مما لا يُبقي استقلالية الرأي كاملةً . المهمة ليست سهلة والمؤثرات تأتي من الدول المحيطة كما للدول الكبرى ضغوطاتها أو إنذاراتها. لكن مع الإقرار بالتأثيرات الخارجية يجب أن تكون لمعالجات الداخل خصوصيتها. فلابد، لذلك، من نظر سديد ودقيق للوضع الحرج الذي تجد فئات كبيرة من الشعب نفسها فيه. إن بعض الإجراءات الإصلاحية تبدو بلا معنى على مدى السنوات المقبلة ،مثل توزيع الأموال للأفراد لتأسيس مشاريع صغيرة. أولاء يواجهون التخلخل الأمني والأحداث التي قد تُذهب بمشاريعهم الصغيرة. هذا إذا لم يواجهوا الفشل بسبب المنافسات أو قلة الخبرة . كما أن توزيع الأراضي البعيدة لا يحل مشكلة السكن. ما وُزِّع قبل عشرين سنة وأكثر ما يزال أكثره أرضاً وليس إلا بضاعة يتبادلها سماسرة العقار. وحتى إذا افترضنا شركات قادمة ،فذلك بعيد ولا يوقف الاستياء كما هو لا يزرع ثقة بسلامة التنفيذ. الحل هو أن تستكمل الدولة بناء المجمعات وشوارعها ومدارسها وأسواقها وخطوط النقل ثم تبدأ بالتوزيع. 6 إن استمرار عطالة المنشآت الصناعية وعدم فتح مصانع كبيرة وتوقف المشاريع السياحية مع تزايد عدد الخريجين ولا حركة عمرانية كبيرة بسبب استمرار غلاء مواد البناء ،ويندر أن يقامر رأسمال في مشروع كبير ...، هذا كله يعني تزايد عدد العاطلين ،وتزايد العاطلين يعني تزايد الاستياء. شعبياً، نقص المال وغلاء أجور النقل يجعل الفتيان والشباب العاطلين عن العمل مكبّلين في أماكن متعفنة تتردى خدماتها كل يوم. إذن كنتيجة حتمية، تزداد حوادث السرقة والتطوع للإرهاب والمخدرات والشذوذ الجنسي. هذه نتائج لن نستطيع تجنبها. وهذه الأحوال مجتمعة تحبط التطلع إلى المستقبل. كما نرى، لا شيء يعطي مغزى للتغيير السياسي بالنسبة لفقراء الشعب والعاطلين عن العمل والمرضى حين تكون المستشفيات الرسمية في الحال التي عليها. ما يستثنى هنا هم الذين كانوا مطارَدين سياسيا. وأولاء الآن، غالباً ما يكونون موضع اتهام في عدم أحقيتهم للمناصب والوظائف وبعضهم متهم بالكسب غير المشروع وبعدم الجدارة العلمية ،وحديث الشهادات المزورة لم يعد سراً.
7 مجانية الحديث عن الواقع الجديد والتصريحات اللاعلمية ونبرة الإعلام الواضحة، لا فعل لها في الإصلاح والتغيير. وهي على عكس المتوقع تضيف إلى الاستياءات استياءً ساخراً وفرصة للانتقاص والتكذيب. الحاجة هي: إلى تشخيص وبيانات صحيحة وإلى منظومة تفسيرية ومنظومة برامج. البِدَل الفاخرة والأربطة والتباهي المظهري والحمايات ليست هي التي تنجز فعلاً وتحدث تغييراً في الواقع اليومي للناس. أولاء "الكبار" ممثلو البيروقراطية الجديدة، على درجة من الجمود لا يستطيعون بها الإنجاز وليست لهم الرغبة الحقيقية فيه أصلا. البيروقراطية إذا ما تركت لمنطقها فإنجازاتها تقتصر على تقسيم السلطات إلى وزارات ومديرات عامة. والوزارات حتماً، متباينة المستويات ثقافياً وقدراتٍ إدارية. فلن يُرى منها غير منطق الملفات التي ينبغي تحويلها واللجان والاعتراضات على اللجان ..، والناس يزدادون غضباً !
8 لا أراها حجة فاعلة مسألة ترِكَة الماضي والتدمير الذي خلّفه الحكم المباد. هذا الكلام صار مملّاً بعد كل هذه السنين على انتهاء ذلك العهد الذي نصفهُ بـ المباد . المباد تعني أنه أُبيد وانتهى. أما التخريب الذي يتم من أعداء التغيير، فهذا في قسم منه نتيجة للأوضاع المرتبكة والمتخلفة، وكثيرةٌ هي العيوب التي تحدثنا عنها. العمل التخريبي للمجتمع حصل في الغزو الأمريكي. إذ لم تُدمر فقط البنى التحتية جسوراً، مصانع واتصالات.. لقد دُمِّرت العلاقات الاجتماعية وتقاليد العمل وتقاليد النضال الوطني. الأحزاب الجديدة ليست أحزاباً. هذه كتل. وهذا يعني أنها تكتل مصالح وأهداف غير ثابتة محاطة بفيض لفظي يخاطب عواطف الناس من وراء المكاتب. هي ليست لها ستراتيجيات بعيدة المدى وتفتقد النظرية، فلا مسعى للتطبيق. حين هوجِمَتْ الأحزاب الرئيسة النضالية، لم تكن البدائل ناجعة. وحرية الأحزاب والتنظيمات لم تصحبها روح النضال الوطني. فكانت النتيجة تنظيمات تعمل عمل دوائر رسمية. فلم تعد المبادئ والتنظيمات غير مجدية فقط بل صارت موضوعات للاتهام. السوء ازداد كثيراً. لنا مثال من فرنسا .. فبعد عزل الوزراء الشيوعيين 1982-1983 ، صاروا يعلنون "بعدَهم" بأن الحال ليست أفضل وأنهم مضطرون لغلق هذه المنشأة الصناعية أو تلك و"أن مناضلي الأحزاب صاروا يناضلون بـ البطاقة! " 9 بعد أن تفككت أنظمة العمل والعمل النقابي، لا أتفاءل بإمكان استعادة روح النضال النقابي الصِدامي. النقابات اليوم يظللها الطابع الرسمي. ومعلوم ان تزاحم التنظيمات السياسية "المرحلية" في بقعة محدودة وعياً وثقافةً، أربك الرؤية النضالية عموماً وتهافتَ الروحُ الثوري بين الإفادة من المرحلة أو خسارتها. القادة أفراد يمارسون، إذا مارسوا، نضالا "هادئاً" وربما نفعياً، والأعضاء المنتمون ليسوا ورثة النضال النقابي لما قبل وبعد ثورة 14 تموز 1958. أيضاً وبسبب العدد الكبير للأحزاب تعددت نقابات المهنة الواحدة. وهذا واضح في نقابات أو اتحادات الصحفيين، المرأة ، المتقاعدين ...، بينما النقابات المهنية والحرفية خامدة حتى أنها لا تظهر في المشهد. وقد فُرض الطابع الرسمي على التي تساند الأحزاب الحاكمة. الفرق ليس جذرياً بينها وبين تلك التي كانت قبل التغيير السياسي. هي تفتقد الروح النقابي النضالي. إذاً هي ليست نقابات ولكن جمعيات.
10 حتى في ظروف الهيمنة الشمولية كان هناك نوع من العلاقات الاجتماعية المنظمة على وفق سياقات ألِفَها الناس وإن كانت علاقات تحت السيطرة. تقابلها تآزرات من الاستياءات العامة بما يشبه المعارضة الخفية أو العمل السري البطيء غير المنظم. وبعد انكسار الفرح بالتغيير السياسي، بسبب ما آلت إليه الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية وتدهور الأمن وظهور أحزاب متنفذة وهيمنات متقاطعة، تفككت تلك التآزرات وأعقبها تفكك التآلفات وصار الاضطراب واللاوضوح وأعداد القتلى، قتلى الولاءات والأجندات والمافيات ..، صار كل ذلك يحرك في الناس مكامن قلق شديد تؤكده العسكرة الواسعة وعدم السيطرة على الأمن أو ضمان حقوق الناس أو ممتلكاتهم، كما ان مؤسسات الإرهاب، وانضمام وموالاة المستائين من الأحوال الجديدة، لم تغلق أفق المستقبل حسب ولكنها جعلت الحاضر غير محتمل. ما يمكن قوله اليوم : إن المفاهيم الوطنية التي كانت واضحة، تتصدع وربما أكملت تصدعَها. والعلاقات الراسخة من قبل آلت وتؤول إلى فساد. التدمير لحق بالمجتمع من الداخل ومن الخارج. ضعضعة شبه كاملة للبناء الاجتماعي وللمحتوى التضامني والمفاهيمي للناس. إن الإنسان مهما أُعطي من حِلم لا يستطيع أن يأملَ خيراً في القريب من الأيام. ربما بعد عقد من السنين. أما الأيام القادمة فيُخشى أن تكون لاستكمال الخراب! |