|
|
يتنقّل في الليل |
|
|
|
|
تاريخ النشر
17/02/2014 06:00 AM
|
|
|
الرجل الذي لم يغادر مدينته يوماً، بين المدن. يُحلّق فوق البحار والمحيطات، عابراً من مدينة إلى أخرى، مثل طائرة جامبو يمرّ فوق المطارات، لا يُحب النزول في المطارات، إنها أسوأ بوابات المدن، يُحدّث نفسه في كلِّ مرّة يضطر للنزول فيها، لا شيء غير مكبرات الصوت الطنانة، والنظافة المبالغ فيها، كأنك في مستشفى خاص. في الموانئ يتوقف ليتأمل المشهد ويلتقط الأنفاس، تسحره، منذ الطفولة، مشاهد السفن العالية، يتكسر الموج على جنباتها، كما تسحره الشوارع بأضوائها الملوّنة وسياراتها القليلة الخاطفة، عادة ما تكون مبللة في مثل هذه الساعة من الليل. من قلعة إلى كاتدرائية إلى جسر تأخذه قدماه وهي تعدو بخفّة مثل قدمي عداء مسافات طويلة. إنها تعرف أهدافها. في الساحة المفتوحة على الصرخات، وسط الكولسيوم، توقف الليلة البارحة، بعد جولة مدهشة في روما، روما مدينة فاتنة بالنسبة لرجل لم يغادر مدينته يوماً، كانت المدرّجات خالية مثل الشوارع لحظة وقف فيها، وكان المصارعون يُستدعون من السجون البعيدة، إنه يراهم يقطعون أنفاقاً طويلة معتمة ممراتها واطئة قليلة الهواء قبل الوصول إلى الساحة، يقفون في ضوء النهار القوي يبلل العرق أجسادهم ويغطيهم الضجيج، حيوانات تزأر في المحاجر القريبة، تدور حول نفسها وتئن، وناس يملأون المدرّجات الصخرية، تتعالى صيحاتهم مع كلِّ مصارع يدخل الساحة. لا يقصد بطيرانه الليلي المدن وحدها بمطاراتها وموانئها وشوارعها المضاءة، إنه يطير حيثما يدعوه النداء الذي يبدأ خفيضاً لا يكاد يُسمع ثم يأخذ بالارتفاع حتى ليبدو مثل صيحة استغاثة تتصاعد من جوف جبل، يستمع للصوت يملأ عليه المكان فيفتح نافذة غرفته، يسحب نفساً عميقاً ويُغمض عينيه، إنها عادته قبل أن يُسلم نفسه لإحساسه العميق بالطيران. قبل أيام قليلة عاوده النداء، كان يكرر اسماً تراءى له مثل اسم مقاطعة أو مدينة ما من مدن العالم، جوهانس سامبو، بعدما تكرر مرّات بالنبرة الواضحة نفسها تأكد أنه ليس اسم مقاطعة أو مدينة، إنه اسم إنسان، نعم هكذا أحسَّ وتأكد، انسان لم يستطع الصراخ في اللحظة التي قُتل فيها، رأى وجهه حالما أغمض عينيه وبدأ طيراناً طويلاً عبر فيه بحاراً وصحارى، لم يضطر للنزول في مطار، ولم يستجب لرغبته المحببة بالنزول في ميناء ومشاهدة السفن، نزل في مزرعة واسعة، عند مساحة صغيرة متربة فيها، لم ينبت عليها عشب منذ عقود، كانت تتصاعد من حوله أصوات رعد يتعالى، مع تكرارها تبيّن أنها ليست أصوات رعد، إنها انفجارات، ومع الانفجارات أصبحت حكاية جوهانس واضحة في ذهنه، كأنها رويت على مسامعه بهدوء وتفصيل. سمع أصوات رجال بعيدين، لحقتها خطوات تصعد سُلّماً خشبياً وخبط أبواب، ثم أتاه صوت الكولونيل يوجين دو كوك، رئيس الوحدة سي ـ 10، وهي فرقة سريّة أسستها حكومة جنوب أفريقيا العنصرية، يتصل برؤسائه ليخبرهم، بنبرة لا انفعال فيها، بمقتل أفريقي يدعى جوهانس سامبو أثناء الاستجواب، وضع سماعة الهاتف وأملى على زملائه ما تسلّمه من أوامر بنقل الجثة على الفور ونسفها بالمتفجرات، أُخذت الجثة إلى مزرعة، حيث وقف الرجل في المساحة الصغيرة التي ما تزال متربة حتى اليوم، وضعت بين كوم من المتفجّرات وفجّرت. جُمعت القطع المبعثرة، كُوّمت، وفُجّرت مرّة أخرى. كُرّرت العملية حتى لم يبق شئ ليُنسف. في وقفته سمع الرائد تشابيز كوبلر، وهو أحد مرؤوسي الكولونيل دو كوك المشرفين على العملية، يتحدّث عن أملهم في أن يأكل النمل بسرعة ما تبقى، ويمحو أي أثر. الرجل الذي لم يغادر مدينته يُنصت للنداء ويطير، ليلة بعد ليلة، يعبر أمكنة ويطوي سنوات، يعيش في كل ليلة وجهاً آخر من حكاية تتكرّر، لا حدّ لوجوهها، كأن ثمة من يترقّبه فيها، يتأمل تحليقه العالي ويترصد خطاه. إنه الآن ينزل مقابل مقر قيادة الشرطة في شارع Russell Street في ملبورن وقد طار طويلاً، توقف قليلاً قبل أن تعبر به قدماه إلى الناحية الأخرى، أمام سجن الاصلاحية بطبقاته الثلاث. ينظر إلى البناية من الخارج مندهشاً، إنها هي كما تخيّلها بالضبط في وقفته أمام نافذة غرفته. غرف تنفيذ الاعدام مظلمة، لا زوار في الليل، وأقنعة الموت المعلّقة على الحيطان تُغمض عيونها. يمكنها أن تنام الآن بسلام بعد أن انتظرت مجيئه أكثر من قرن كامل. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ لؤي حمزة عباس
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|