مقدمة الدراسة كان رولان بارت يقول ان على "من يريد دراسة المدينة سيميولوجيا، ان يكون، في ذات الوقت، مختصا بعلم العلامات وجغرافيا ومؤرخا حضريا ومهندسا معماريا وربما محللا نفسيا ايضا" (انظر: رولان بارت، المغامرة السيميولوجية، ص. 261). ربما يرى البعض شيئا من المبالغة في هكذا اشتراطات تبدو، واقعا، في غير متناول الجميع. بحدود ما يخصني من الأمر أجد، ولا أفترض مطلقَا صحة ما أذهب اليه، ان رولان بارت محق في الكثير من تلك الضوابط. ذلك ان للمدينة سيميولوجيا تحتشد فيها الكثير من الدلالات بحيث تتجاوز حدود العلامة البنيوية ومعطياتها النصية المغلقة التي تصر على اقصاء المؤلف والمرجع والسياق بحجة أن النص يكفي بذاته على اساس اشتراطات رولان بارت الواردة في اعلاه، سأدرس الجزء الأخير من كتاب الدكتور لؤي حمزة عباس "الكتابة: انقاذ اللغة من الغرق" الصادر حديثا عن دار نشر وراقون البصرية بالتعاون مع دار ناشرون اللبنانية. وفرت لي الافاضات السيميائية التي يشتمل عليها اخر أجزاء الكتاب المشار اليه فرصةً أتناول من خلالها، إجرائيا، مسألة لغوية ظلت عندي، الى ما قبل صدور كتاب الزميل والصديق لؤي حمزة عباس، حبيسة الأطر النظرية المجردة وذلك بسبب افتقادها النص القادر على استيعاب طروحاتها الافتراضية. "كتابة المدن" هو عنوان اخر أجزاء الكتاب المذكور يراهن فيه مؤلفه، في أكثر من موضع، على مسألة أن المدينة المعاصرة، بوصفها بنية نصية ممكنة، تشبه الكتابة (انظر، مثلا، الصفحات 161، 162، 166، 171 من الكتاب). هذه المقاربة السيميولوجية/البصَرِية، المستندة الى كون المدينة، بصيغتها التصويرية العامة، ايقونة بصَرِية (لن يكون خطأً تسكين الصاد في هذه الكلمة الأخيرة كون البصرة، عند لؤي، مدينة عتيقة لها خصوصيات ورمزيات ودلالات كونية منبعها التاريخ والتراث والميثولوجيا) والتي تعتبر الكتابة محورا استبداليا دلاليا وليست مجرد محور تركيبي نحوي صرفي، تسمح بطرح السؤال الكبير التالي: هل من الممكن الحديث عن سيميولوجيا الفضاءات المدينية استنادا الى النص المذكور للدكتور لؤي حمزة عباس؟
الاطار النظري لأعترف مقدما (وليس في ذلك ما يُعيب) ان محاولتي درس سيميولوجيا المدن لدى الدكتور لؤي حمزة عباس ستقع ضمن اطار الدراسات اللغوية البنيوية لسنوات الخمسينات والستينات من القرن الفائت لكني اجد من الضروري، لا دفاعا عن منهجيتي فقط (وان لم يكُ في ذلك بأس)، اقول اجد مهما الفات النظر الى ان المسائل المتعلقة باللغة ما زالت الى اليوم، وان اعترى بعض مناهجها شيء من وهن او ان يكون هذا الاعصار اللغوي (وانا هنا استعير تعبيرا من توماس بافيل) قد فقد شيئا من غوايته، حاضرة في كل العلوم الانسانية سواء اكان ذلك عن طريق مفاهيمها المتصلة بالفونولوجيا او تلك المتعلقة بالسيميولوجيا. ولعلي لا أجد غضاضة بالتصريح ان بعض مناهج البنيوية، لاسيما عند مزاوجتها مع مفاهيم النقد الثقافي، لا تزال صالحة لان تطبق، عند توفر الفطنة لدى من يشتغل عليها، لا على الحكايات الشعبية والاساطير فقط بل حتى على النصوص الحداثوية وما بعد الحداثوية. بالنسبة لسيميولوجيا الفضاءات المدينية، فان هذا المقترب ذا الأساس اللغوي والذي سنستخدمه اطارا نظريا لدراستنا يقوم على مبدأ تشبع المكان المديني بالمدلولات التي من الممكن قراءتها بنفس طريقة قراءة المدلولات اللغوية فهي إذن، استنادا على هذا التقارب، حاملة لمعان تتنوع بتنوع الصور التي تبثها وباختلاف الاذهان التي تتلقاها لان صورة كل مدينة، بابعادها الشكلية والوظائفية والرمزية، هي نتاج تراكم العديد من التصورات الشخصية البحتة.
بين بارت وحمزة أظن ابتداءً ان تاسيس سيميولوجيا للمدينة استنادا الى نص سردي، ايا كان نوعه، ممكن. حاول ذلك، قبل لؤي حمزة عباس، رولان بارت ونجح في مقاربة السيميوطيقا من حقل المبني مشتغلا على الاسس اللغوية والوظائف الرمزية لهذا الاخير. تماما كما فعل لؤي حمزة مع بغداد او البصرة، فكك رولان بارت مدينة طوكيو سيميائيا معتبرا اياها مدينة تمتلك بعدا علاماتيا قويا ذا محمول دلالي عالي الرمزية. معنى ذلك ان مقاربة المدن من بعضها البعض ممكنة من حيث المبدأ طالما أن فضاءاتنا المدينية اصبحت، على نحو من الأنحاء، ترتدي زيا واحدا وإن تبدلت الالوان او تغيرت الواجهات فنحن نكاد نعثر على علامات مشتركة بين كل مدن العالم قربت من بعضها او بعدت حتى غدا من الصحيح القول ان أصغر مدينة تحوي ما يميز كل مدينة غيرها، ذلك أن "المدن مهما تعددت واتسعت وتنقلت في المفاوز والجهات مدينة واحدة" (انظر ص171 من الكتاب موضوع الدراسة). لا يضر أن تكون بعض جوانب هذا البعد العلاماتي بين بغداد والبصرة من جهة وبين هاتين الدالتين ومدينة طوكيو من جهة اخرى عائمة وشديدة التباعد مادام وجه التباعد يكمن في أن مدن لؤي، بحكم كونها اسطورية او مؤسطرة من قبل المخيال الجمعي، تنتج علامات اكثر تعقيدا واشد قسوة من تلك التي تنتجها طوكيو أو باريس او نيويورك التي لا يمل ساكنها، عكس ساكن مدن لؤي المحكوم بخرافة استحالة الوجود خارج المجموع، من الاحتفاء بوحدته وسط الحشود. هذا التباعد النسبي في التاويل العلاماتي لا ينبغي أن يصرف الذهن عن تقارب محتمل على مستوى الاحتفاء بالعلامة البصرية يتقاسمه سكان مدن لؤي مع سكان مدن رولان بارت حيث "العين لا تخفي هواجسها ورغباتها في التبصر والاكتشاف. ص 168"، اكتشاف الفاتن والسري والمخبوء.
المدينة المعاصرة: نسق علاماتي بعيدا عن لعبة التفكيك والتركيب التي تجيدها السيميولوجيا، تبدو دراسة ميكانزمات العلاقة بين المدينة والكتابة في الجزء الأخير من كتاب الدكتور لؤي حمزة عباس موضوع البحث بناءً على مقترب بنيوي ممكنة أقلها من ناحية سيميائية بحتة شرط الانفتاح على المرجع وعلى الحيثيات السياقية الخارجية وهذا غير مستبعد طالما أن المدينة محكوم عليها، سيميائيا على الأقل، بكونها نظاما من علامات يمكن رصدها عن طريق اجراءات واليات سيميائية. يذهب هذا المذهب كبار السيميائيين كرولان بارت وامبرتو ايكو. هذا الأخير كان يعرف السيميولوجيا بانها العلم الذي يشتغل على كل الظواهر الثقافية كما لو كانت انظمة علامات. تاسيسا على ذلك تكون المدن، كل المدن، فضاءات مشبعة بالمعاني الظاهرة/المستترة المضمرة/المعلنة الحقيقية/المتخيلة المتطابقة/المتنافرة الحسية/الرمزية المتهتكة/المقدسة الدنيوية/الميتافيزيقية. هذه العلامات وغيرها جعلت من المدن فضاءً تعثر العين على جدرانه وواجهات متاجره على جزء كبير من خيالات الذهن البشري وأعقد التباساته واستيهاماته وتوتراته (الجنسية خصوصا). المدينة المعاصرة، وفق الميكانيزمات البنيوية/السيميائية للجزء الأخير من كتاب المؤلف لؤي حمزة، مجموعة صور يلتقطها ويفككها كي يعيد تشكيلها لغويا ودلاليا ساكنوها أو المارون بها دون الالتفات دوما الى تطابق الواقع (الدال) مع المتخيل (المدلول) وهي بذلك تقترب بشدة من مفهوم العلامة لا بحسب طرحه السوسيري الأولي فقط والذي يقر بعدم ارتباط الصورة بالمفهوم بل، خصوصا، بشكله اللاكاني (نسبة الى جاك لاكان) الذي يرى أن الدال من الممكن أن يعوم وان المدلول له أن ينزلق. بحسب هذا الفهم الأولي، الذي تنطبق الكثير من جزئياته على النص موضوع البحث، تصبح المدينة مؤسسة على نظام من دوال تقترب في تعالقاتها من النص المكتوب. يكتب الدكتور لؤي حمزة في الصفحة 166 من كتابه ما نصه "تكتمل المدينة في الوقت الذي تنجز الكتابة صورتها". هذا التعالق بين النص والمدينة كبير الى الحد الذي يكفي للنظر اليها، اي الى المدينة، على انها دالة تنتج مدلولا او مداليل متعددة بعضها واضح وبعضها مشوش تتساوى بذلك مع المفردة اللغوية بكل ما تحتويه هذه الاخيرة من قابلية على النماء والتوليد والتبدل وانتاج الدلالات والانتظام في أنساق معينة رامزة ودالة.
تفكيك المدينة تبقى هناك اسئلة يجب التوقف عندها قبل الذهاب بعيدا في البحث: كيف يمكن لرموز هذه المدن التي يعيد تشكيلها المؤلف لؤي حمزة ان تعمل بشكل ملموس؟ هل من الممكن تقديم وصف لها لا يكون مجانيا او لفظيا بحتا؟ هل يتقاسم الجميع نفس هذه التمثلات الرمزية للمدينة؟ الاجابة على تساؤلات كهذه تستدعي مستوى من القراءة يتوجب فيه حتما فك شفرات مدن لؤي تاريخيا وسوسيولوجيا بعد تفكيكها سيميائيا وذلك بغرض إبراز مخزونها التعبيري وقدرتها على اللعب بالدلالات. اننا نظن، وليس ذلك ظن في غير موضعه، ان دراسة نص الكاتب لؤي حمزة من الناحية السوسيو/سيميائية من الممكن ان تؤسس لتحليلات علمية حقيقية ترصد ظواهر اجتماعية تشمل مختلف تمظهرات حياة أهل المدن المتقلبة بين طرفي المادة، من جهة، والمعنى من جهة اخرى. ذلك ان اللغة بوصفها متقدمة وجوديا على الوعي تستطيع ان تفتح حقلا بحثيا قد يسمح بتجاوز التعارضات التي اصبحت بالية اليوم بين الحرف والذهن والواقع والتخييل. دليلنا على ذلك ان مسائل السميوطيقا لا تزال حاضرة بقوة في الهندسة المعمارية وفي البحوث المدينية لاسيما في الولايات المتحدة حيث شد، منذ عدة سنين، البعد الرمزي للمدينة والناشئ بلا جدال من النظرية العامة للمعاني انتباه العديد من الباحثين الما بعد بنيويين الذين يرون أن هذه الجوانب المدينية الكثيرة الدلالات مناسبة اكثر من غيرها لمعالجة لغوية كونها تتحرك، حالها في ذلك حال اللغة، بطرق تستدعي التفكير والتصنيف والفرز على شكل مجاميع فارزةً بذلك مشاكلة متجانسة من التعارضات والتوافقات تشبه الى حد بعيد تلك التي تحكم النص المكتوب. هذا التنظيم المرتب من العناصر غير مدرك من قبل اهل المدن بقدر عدم ادراك متحدثي لغة ما للقواعد الفونولوجية والصرفية لتلك اللغة. ان هذا الجانب البحثي الكاشف عن اهمية خاصة جدا لتحليل المدينة ذات الطابع الغرائبي الذي يميز فضاءات مدن ما بعد الصناعة المشحونة بقوة رمزية لا ينبغي ان يستثني المدن ذات التطور التاريخي البطيء. هذه المدن التقليدية، أو التي تبدو كانها هكذا، وحدها التي يلتفت اليها الدكتور لؤي حمزة ربما لكونها حاملة لمعان غنية ومتعددة تتشارك بنظام تمثلات تتزاوج داخلها عدة مستويات اجتماعية، دينية، اقتصادية وذلك بفضل شبكة من العلاقات المنظورة وغير المنظورة والمدركة وغير المدركة. نحن نعلم ان البنى الرمزية لهذه المدن القديمة تسجن الفرد داخل نظام اخلاقي شامل لا يعطي مكانا للشخص بالمعنى السوسيولوجي للمصطلح ولا يسمح الا بالقليل من المسافة بين ساكن المدينة والاطار المبني الذي يعيش فيه. على هذا الأساس فان نصوص لؤي حمزة عن المدينة تفسح المجال امام الدارس للربط بين مقترب سوسيولوجي ليس على غير علاقة بالرمزي وتحليل سيميولوجي وهو مقترب متماسك وان كان قابلا للاعتراض عليه من عدة وجوه. ان هذا البعد السميوطيقي اللغوي المتعدد المعاني الذي يضفيه المؤلف على المدينة يجب أن يوضع داخل الاطار التاريخي والسياسي لزمن الكتابة بمعنى انه لا بد من أن يخضع للسياقات التي شهدت انتاج النص كفكرة شفوية ثم كجملة مكتوبة. ان محاولة الربط بين النص والمدينة التي قام بها لؤي حمزة عباس نادرة وشائكة فهي تطرح العديد من المشاكل التي تستحق الدراسة إن على مستوى اليات التشريح والتفكيك والهدم والبناء التي اقترحها اللغويون الفرنسيون بنيويون وسيميائيون وتفكيكيون أو على مستوى المقاربات التاريخية والاجتماعية والانثروبولوجية التي ترى في المدينة مختبرا اجتماعيا كبيرا حيث الصور والفضاءات علامات تصلح ان تكون موضوع تأويل متعدد الاتجاهات ياخذ بالاعتبار التأثير الذي تمارسه العلامات غير اللغوية (المرئية منها خصوصا) بوصفها حاملة لمعانٍ مميزة بامكانها أن تختزل العلاقة بين الفضاء وساكنه. |