دفاتر خردة فرّوش هي إكمال لما فتح الأخرس من سراديب في كتاب المكَاريد. قصص الفقراء، أحزانهم، والفوارق الطبقية ودور المثقف ، هذه المواضيع هي أبرز ما يتحدث بشأنه كتاب "دفاتر خردة فرّوش". كشكول الأخرس الذي يبدأ بعرض حكاياته ومواويله في كتاب ثان بعد تجربة المكَاريد.
استخدام كلمة "خردة فرّوش" الفارسية لوصف العودة الى المُهمَل، لكنها تفتح شهيتي الى مضمر في أستعارة كلمة فارسية عنواناً لهذا الكتاب.حديث الأخرس يخالطه الكثير من القصص التي تثير قضية مهمة مثل التبعية وتهمة الأصول الفارسية.
كتاب الأخرس لا يقتصر على المكَاريد وحدهم، فهنالك قضايا يتطرق لها الكاتب تخص الطبقة المثقفة والمثقف. فمن اللوم ما يقع على المثقف وليس على الطبقة الحاكمة "هل تخلص المثقفون من هذه اللوثة؟ كلا بالتأكيد فهم أبناء شرعيون للمنظومة عينها. أقول ذلك وأنا أتذكر ضاحكا هجاء الرصافي للعانيين، (اغسل يديك إذا صافحت عاني).. ثم أراني أغرق بالضحك من تعريض خبيث لشاعر يكره الأعظمية، الأعظميون لا يوفون إن وعدوا .. والأعظميات لا يخلفن ميعادا!!".
قصص التهويد وما تجود به الأمهات على أطفالهن عند النوم. موروثنا المُشبع بالخوف والرعب. خيال الأمهات التشويقي مليء بالقصص التي أبطالها وحوش وطناطلة. قصص كحمدة وحمد، السعلوة ، هؤلاء أبطال أفلامنا قبل النوم. المرأة ليست ناقلاً لهذا الفلكلور بل هي المخترع لكثير من هذا القصص وهي من يقوم بطنطلة الفلكلور الشعبي. "هذا مشهد معتاد يصطف الى جانب المشهد الفولكلوري حيث تنتاب صغيرك ذا السنوات الثلاث نوبة من البكاء فترعبه الأم بالقول "اسكت يجيك الواوي"، فيصرخ مرعوبا فتضطر للقول "لا، أجذب عليك بس اسكت". ثم حكاية الليل وهو كما يصفه الاخرس فصل الرعب اذ السعلوة تذبح الناس وتأكلهم والامهات يقتلن أبناءهن بأيديهن ومن ثم يتهمن عماتهن.
بعفوية وبدون مراوغة ينقل الأخرس مآسي الجوع والفقر حتى لو كان هو يمثل دور البطل. لم يمنع الأخرس حاجز العيب (والفشلة) عن سرد ما مر به من مواقف جوع وفقر، فيقول: "ذكريات لا تنسى في الأردن، بعد شهر من مقامي، نفدت الدنانير التي كانت لدي. ثم مرت أيام كأنها (فصل في الجحيم) لا آكل سوى وجبة واحدة ولا أدخن إلا تطفلا على الآخرين. في ذات مرة وقفت أمام مقهى السنترال وكأنني أحد أبطال روايات نجيب محفوظ مصفر الوجه شارد الذهن فجأة يظهر الشاعر الصعلوك ماجد عدام:
ها محمد شبيك أشو أصفر؟
ماكو شي، شويه بردان
ينظر لي مليا ثم يقول لك يا بردان مبين ميت من الجوع جم يوم صار لك ما ماكل
ثم يسحبني من يدي الى المطعم ويعشيني".
بعض المقاطع من كتاب الأخرس كأنها نصوص شعرية. هي اعترافات وإأن كان كثير من العراقيين سمعوا مثلها ولكنها تمثل مرحلة مهمة من تاريخهم. مرحلة من مراحل الذل والضيم التي عانى منها كثير من العراقين في المنافي وخصوصاً دول الجوار:
"مادمت قد فتحت ملف مهني المخزية فلأقف اليوم عند الأعمال التي اضطررت لها في الأردن، نعم لقد اضطررت هنالك للعمل اليدوي (المعيب) بعرف بعض ذوي الخدود المتورد، مرة تراني مع شاعر صعلوك نقطف الزيتون في مزرعة في الضواحي وأخرى تجدني أمسك كأسا بلاستيكيا وأشير به لسائقي السيارات أن هلموا يا محبي القهوة فلدينا ما يشبعكم منها. أي وحق من سبّب الأسباب، كانت تلك الأيام أتعس من الجحيم خصوصا في الأشهر الستة الأولى، أي قبل أن تلتقطني المعارضة لأعمل معها).
الأخرس ينحت عباراته ليصنع لنا مأساة من كل شي وهذه مقدرته في النبش. قصه ربما ترد لنا على لسان الجميع لكن الأخرس يصوغها لتبدوا لنا تراجيديا لشكسبير أو جان فالجان في أحد مشاهده. الكاتب يتنقل بين الطفولة والمقبرة. في الحرب والسلم. عند المسجد وفي حفلة للمنكوب أو عبادي. في الملجأ وعلى الساتر وحتى في (الكيا) التي أصبحت رمزاً للعراقيين ومأساتهم فهي تشاركهم حمل موتاهم أو تصبح لهم أفراناً يتفحمون بها.
يشخص الأخرس في كتابه مسألة جفاء الكتاب عن الحديث عن المرأة في قضية غير الجسد ولا يستثني حتى نفسه، فجعل الأمر محل إشكال كبير وقع به الكثير من المثقفين فعندما تتجه بوصلة الكاتب الى المرأة يكتب عن جسدها فقط تاركاً عوالمها الأخرى "كتبت عشرات المرات عن المرأة وتنقلت في مراكب أحزانها وخيباتها ولكنني مع هذا لا أنفك أشعر بالتقصير ازاءها، تقصير يحيرني ويجعلني أشعر بضالة ما أكتب إزاء ذلك الهمس المعذب الذي تلوحني أصداؤه بين حين وآخر وبعضها آت من ماضي معها وتحديداً أمي".
ثم يعرج الكاتب على مكنون الأسماء فمرة يذهب الى أن كلمة "الزهرة" التي ترددها الأمهات وخصوصا من الكبار هي ليست مختصه بفاطمة الزهراء عليها السلام. يعتبر الأسم هو موروث سومري يعود للعبادة التي كان يقوم بها أهل العراق القدامى وإن كانت مقارنة الأخرس بعيدة، لكنه لا إشكال من طرحه فالموروث هو ما يحاول دراسته الأخرس ولا إشكال أن يكون هذا مصداقاً من مصاديق الكلمة.
يرى محمد غازي الأخرس أن التحول بالأسماء والتسميات وقع وفق المزاج الطائفي في فترة من الفترات. "ثم مع اشتداد الترميز من قبل السلطة وهو ما تجسد في إطلاق التسميات على المدن والمنشآت وفي الاعمال الفنية اشتد التضاد الاسمي ليتخذ بعدا طائفيا بدا كقناع لا يخفى على المتأمل، فكان أن شاعت أسماء جديدة في التسعينيات كـ(زهراء وحوراء وسجاد). فالأسماء هي نفسها، خصوصاً التاريخية منها موجودة ولكن لأن الظرف كان يمنع تداولها. والإ ما علاقة زينب بالطائفية وحوراء الذي يمكن ان يطلق على جميلة العينين. وهذا واضح فمن خلال السنوات الثمانية من الحرب العراقية الإيرانية برزت أسماء كسعد وقيس ومثنى وهذه اسماء كان لها رمزيتها في الحرب مع ايران.
مشاهد الرعب والموت تغلب على ما أتى به الأخرس من مشاهد الفرح. قصة الموبايل الذي يرن على جثة مقتول، المضمد الذي يتذمر لجثة امرأة وطفلها وهو لا يعلم أنهما زوجته وابنه "كان المشهد مروعا أذ خيل لي أن المتصل ربما كان أباً يريد الأطمئنان على أبنته أو أماً قلق قلبها على وليدها".
لا يترك الأخرس الموضوع يمر حتى تكون صورة أخيه حاضرة ما دام الموضوع هو خاطرة الحرب والموت ومادام مخزون الأخرس هو الذاكرة فيكون إسترجاع شواهد "منتظر" سهلة الاستحضار ودقيقة التفاصيل"أتذكر الامر وكأنه حدث بالأمس يوم ما في عام 1985 يأتيني أخي ويناولني دفتره ويطلب مني أن أكتب له شيئا، ثم ألصق صورة لي قُلت له تريد أن أكتب الأن؟ فقال-بالليل، أكتب شي حلو علمود أصدقائي يقرأوه. كان منتظر الجندي في قاعدة دفاع جوي بأم قصر يكبرني بأربع سنوات وتعجبه كتابتي كثيراً".
يتكلم محمد غازي الأخرس بصراحة عن تمدين مدينة الصدر بدلاً من نفيها كما نَظّر لذلك بعض الكتاب لذلك وعن العلة في الصراع الطبقي والثقافي الذي تمثله مدينة الصدر كونها نافذه للجنوب العراقي "الخلاصة أيها السادة مشكلتنا تكمن في الثقافات والقيم وليس في الجينات والخصائص الثابتة. ولعل فكرة استبدال أهل مدينة الصدر بأهل المنصور تمتد بأواصر بائسة مع عبارات ترد على لسان عثمان بن حيان، أحد ولاة بني أمية على العراق، لقد فكر هذا الرجل ذات يوم بنفي العراقيين وتوزيعهم في الأمصار، لكنه تراجع عن ذلك خشية من حدوث كارثة. يقول: إني رأيت العراق داء عضالاً وبها فرخ الشيطان. والله لقد أعضلوا بي وإني لأراني سأفرقهم في البلدان ثم أقول لو فرقتهم لأفسدوا من دخلوا عليه بجدل ولجاج وسرعة وجيف في الفتنة" أصحابنا يخشون من تصدري التخلف ولا يفكرون في تمدين الصدر ويا عجبي!".
وعن هؤلاء الذين جاؤوا من أقصى الجنوب وسكنوا شرق القناة. يركز الأخرس على قضية مهمة في مسألة تدوين تاريخ هؤلاء المهاجرين. فلم يحفل أحد بأن يؤرخ لهم تاريخهم شجونهم وأفراحهم موشحاتهم ساعة الأعراس في العراضة والمأتم "الفضيحة الأخلاقيه والثقافية-كما يراها الأخرس- انما التمعت فاقعة بعد نزوح الجنوبيين الى بغداد وبروزهم المزري فيها وتكمن في أن أحداً لم ينتبه لهم ولم يتأملهم لا بصورة ولا بفيلم ولا حتى برواية أو مذكرات".
بعد كتابه الأول "المكَاريد" يتبع الأخرس نفس المسار في "دفاتر خردة فرّوش" بتقليب أسفار وقصص العوالم السفلية للمجتمع العراقي معتمداً على المشافهة وذاكرته في ترتيب هذه الأوراق من قصص ومواويل بلغة هي الأقرب للمتلقي. مواضيع مثل الخرافة وصراع العشائر لم تأخذ نصيبها الكافي من البحث فجاء كتاب الأخرس ليضع خارطة طريق لدراسة ربما يقوم بها الكاتب نفسه أو كاتب أخر في سراديب أو عوالم الناس السفلية. |