(1)
كما لو كنت أقرأ وأعيش فصول رواية وليم كولدنك ( السقوط الحر) قرأت (سيرة الرماد) للفنان التشكيلي والشاعر يحيى الشيخ. قرأت سرداَ شعرياَ و نصاَ مفتوحاً يتسيد فيه الصوت الشعري على الإسترجاعات الذاتية وتحولاتها وإحباطاتها، والأهم فيها تحليل الفنان لتجربته الفنيه، وعلاقاتها بتجارب الحياة الواقعية، من البيت و البيئة القروية الى دراسة الفن. من بيئة التلقي الى مختبر البيئة. شمولية السيرة في إرتحالات وإكتشافات ومواقف سياسية وتقاليد وتعاليم وأشواط دراسية. يُشعرنا الفنان أنه يروي في الوقت الضائع، في اللحظة الزمانية الأخيرة التي أدرك فيها أن المتبقي من الزمن الممنوح له بدأ ينفد بسرعة، وبات الوقت الضائع محسوباَ بالثواني، وينبغي إستنهاض القيم الحسية لهذا الزمن، شعراَ وتأمُلاَ وتشكيلاَ . فثمة أصوات متعددة ، متوازية، تتكون وتسرد وتتأمل في منظومة واحدة متجانسة وهي : - صوت الطفل، المندائي، القروي. - صوت الفنان الحرفي( الصائغ، الرسام، الكرافيكي) الباحث عن لغة تشكيلية خاصة في الخامة الأولية. - صوت الشيوعي ( التجربة -الإعتقال-الإحباط). – صوت الشاعر والكاتب، المغترب في المنافي. – صوت النادم.
تسيَّد الشعر على خطاب السيرة الذاتية، برؤيا رمادية. وبتصوري أن تتويج السيرة بهذا العنوان الحزين (سيرة الرماد) ينطوي على تشفيرمركَّب بحاسة الندم، التشفير المركَّب؛ لغوي وسيميائي، ظاهراتي، يظهر في صفحة الغلاف الأولى حاملاً صورة جماعية للفنان وإخوته وأخواته في عهد طفولتهم، ولكن الصورة بالأسود والأبيض وبحالتها السالبة -- negative وذلك هوالإستدلال الأول للشفرة السرية لمضمون الكتاب، في الغلاف الأخير نرى إظهاراً للصورة ذاتها بحجم صغير، بمثابة الإيقونة التي يتأملها الفنان بين سطر وآخر، وضمناً، أنه يؤسس خطوط ذاكرته على حقائق زمن الطفولة والبيت الأول، وأحزان الفراق عن الموطن الأول. علينا أن نتقصى تفاصيل السيرة الصادقة، الذهبية للفنان لنرى مهيمنة الرماد تتحكم لغوياً وسيميائياً وتشكيلياً في كل جملةٍ شعرية أو تجربة حرفية أو مسرحية كتبها. حتى في لحظات الصمت والتأمل ثمة غيوم رمادية اللون. وأستطيع أن أزعم بأن الرماد يعود الى الورشة الصابئية للأجداد الصاغة وبعد ذلك الى ورشة الكرافيك المتكررة في سيرة الفنان التشكيلية. أوضَحُ العوالم المتداخلة في شخصية الراوي – الفنان – هو عالم الطفل المندائي الشاهد على الأضاحي الكهنوتية المندائية، محتفظاَ بنبرة الخوف... ( أنا سهدخ - أي أنا شاهد-) شاهد على منظر الدماء. صوت الطفل يردد ( لم أحسد، ولم أكذب، لكني كنت أبكي مراراً ولوحدي أحياناً. لدي دموع فائضة...) تجسد- الصوت- شعورياَ، شعراً، في رؤيا القرين الذي سيفرض رقابته على الفنان حتى بلوغه الثامنة والستين، زمن كتابة السيرة الذاتية. القرين والرقيب السرِّي على الطفل المدلل المتعلق بروح القرية والأسرة، وشخصية الأم، والسلالة الكهنوتية من العمات والخالات وتقاليد الطائفة التي تعيش نمط حياة روبنسن كروسو، أو مائة عام من العزلة. في إستقلالية النوع العرقي المنحاز للعلمانية- المندائي الصغير يحمل إرث الترحال الأبوي وإغتراب الأب الوسيم، شبيه الممثل كلارك كيبل، من خلال صورته في الكتاب، ومن إعجاب الفنان بهذا الشبه، تأملت وجه الأب على مقدار سيرته التي وردت في سطور، ليظهر أمامي كبطل من أبطال نجيب محفوظ في ملحمة (الحرافيش) لولا الصورة لحسبته شخصاً في رواية أو خرافة تصور بدوياً مرتحلاً في أزمنة ألف ليلة وليلة. اللقاء الذي جمع الفنان بالوالد في إحدى دول الخليج ,في عام 1967- يمكن أن يسجل كحدث روائي، خارج الوقائع النمطية. الأب الصائغ عبد الشيخ خضر الخميسي- السندباد البحري- في صورته العثمانية في الزي الصحراوي، لاتفسر مواهبه الحرفية، كصائغ وفنان، ولا حتى زير نساء، أما الإبن فسيكون الوارث لمواهب الفن اليدوي الدقيق وقلق الرحيل. الطفل البريء المرعوب من مقصات الحلاق ودغدغات ماكنة الحلاقة في أول تجربة لقص الشعر، سيتقن لعبة الرسم العفوية، بالعلامات الغريبة على الطين عند ضفاف الأنهار، يكشف لي أوراقاَ ودفاتر وذكريات، تكاد تكون أوراقي ودفاتري وذكرياتي. إنشغالات متقاربة في الكتب والتسكع في مدينة من شارع كورنيش يشق طريقه حديثاً، يطوق الأبنية القديمة والسوق التأريخي والأزقة الفقيرة. وزمن التسكع والإنبهار بما ترويه إعلانات سينما غازي والخيّام والحمراء الصيفية. زمن يفتح نوافذ السياسة والفن والكتب على أرصفة شارع المعارف، ومكتبات شاكر الهاشمي والقزويني. الثانوية ومرسمها، والمسرح وجماعة الطليعة المسرحية. وطريقنا البري الى بغداد فالأكاديمية، فالفن والثقافة والسياسة، ومتاهة العيش والتدريس في السعودية.. لكن الفنان يحيى الشيخ أغنى تجربته في الترحال في عواصم العالم وإكتفيت أنا بالعزلة في زاوية قصية من الأرض.
نتعرف أولاً على بوتقة الحنين والحب التي تساير الفنان في هواجسه وكلماته الشعرية وبكائياته ورسومه. بوتقة الإنصهار العقلية لكل شاعر ورسام ومبدع، مكان طفولته بمحيطها وأسمائها وألعابها...إسمها (اللطلاطة)- النسخة العراقية ل (ماكوندو) المكان الأسطوري الذي إختلقه ماركيز لأحداث روايته ( مائة عام من العزلة) غير أن اللطلاطة أسطورية في واقعيتها وسحرية في مخيال الفنان. إسم على مسمى أقرأهُ لأول مرة رغم إنتسابي لميسان مدينتي ومدينة الفنان – يولد الطفل ويتعلم النقش على الطين عند ضفاف الأنهار. نقرأ تسجيلاَ للبيئة العذرية، الحميمية، ومع التوصيف خارطة توضيحية لموقع اللطلاطة على الأرض رسمها الفنان. أستطيع أن أقدِّر تأصل وعمق ذكريات الفنان لعالم طفولته، في هذه القرية العزلاء والمنسيه في تضاريس الدنيا. (بيتنا في اللطلاطة لايشبه بيت آخر سكنته في حياتي، ولا أي بيت دخلته، كما أنه لم يأتِ في أحلامي حتى هذه الساعة، إنه مكان مخصص للطفولة... طفولتي هي ذاتي البدائية، دلالتي ورمزي الوجودي. هي هويتي الإثنية، إسمي المندائي الذي دخلت فيه الى الدنيا بصرخة عزلاء والذي سأخرج فيه صامتا...) ومازالت ألأصوات الطفولية تتردد مع ألعاب الصبا وأسماء النساء والأخوات والأخوة، عاطف وسلام، والأم ألأوثق حميميةً في حياة الفنان.
الطفل القادم الى قلعة صالح، وبعدها الهجرة الى العمارة، المدينة- نسميها مدينة على رثاثة الحال وبؤس العيال. في خمسينيات القرن الماضي- سيكون المراهق، المركَّب الشخصاني الثاني الذي يتشكل في العمارة، مراهق يستيقظ شعورياَ وجنسياَ وعقلياَ. يتناول هذه المرحلة في مقطع ويسمي الرحلة من اللطلاطة ب( الخروج) وقد إستوقفني العنوان لأستذكرخروج بني إسرائيل من مصر المذكورة في العهد القديم . وفي تأملات الفنان ونصوصه إستعارات من التوراة والإنجيل والقرآن- سورة مريم ألآية(11) ( يايحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا ) والآية (14) من السورة في محاورة شعرية (الهي.... ألم تقل لي سلام عليك يوم ولدتَ....؟) نستدل على مضمون الرحيل، بوصفه الخطوة الأولى للمنفى والهجرة الأبدية من (اللطلاطة) الى العمارة، الى المنافي .
سعى الفنان على توثيق جذور الأسرة وروادها الأوائل قبل مائة عام، ( يقال ان أجدادي أول صابئة حلواً في تلك البقعة على خاصرة دجلة قبل أن ينعطف الى قلعة صالح في نهاية القرن التاسع عشر...) الخارطة التي رسمها الفنان، كما أشرت، تبين موقع اللطلاطة على ضفاف نهر دجلة وبيوتها وأسماء الأسر، و(المندى) أي المنتدى العبادي للصابئة، ومن إسمه أخذت الطائفة إسمها- المندائي- نستطيع تأمل الطبيعة، الأنهار وبساتين النخيل، ومناخ الحكايات وذكريات الفنان في هذه البقعة عن أجداده الذين إستوطنوا فيها نهاية القرن التاسع عشر. إيضاح جميل لولا الطباعة الرديئة التي أضعفت هذا الجهد، مثلما ضيَّعت – الطباعة- معالم اللوحات التي أرفقها الفنان في كتاب سيرته. وسترحل الخارطة والوجوه والذكريات مع الفنان وتتشابك مع خرائط أوربا وآسيا وشمال أفريقيا، وعواصم وحواضر الدنيا كلها. إرث من الضياع يرافق أجيال الصابئة، وهجرات جماعية هروباً من الأوبئة أو طلباً للرزق، الأمر الذي يفسر حرص الصابئة على أسرار مهنة الصياغة السحرية، شبه المقدسة. ثمة مهن تقارب الشعوذة، أوردها الروائي المندائي خالد الخميسي في روايتيه (القذر) و(الملوثون). يقال أن الصابئة ينتسبون الى النسيج العلماني والفكر الشيوعي في العراق. وثمة مايسند هذا الإعتقاد في جدليات الفكر الماركسي – أممية الموقف من الأقليات-
مشاكسات المراهق أنتجت موهبةً شيوعية. وعي مبكر للضرورات في حاضرة الزمان – ثورة تموز عام 1958 - فبعد الثورة يندر أن تجد طالباَ في الثانوية لم تجرفه السياسة في عنفوانها ومصادماتها. إستيقظت المدينة من سبات القرون الرعوية والإقطاعية لتجد نفسها منقسمة الى أهواء شيوعية وأخرى بعثية وقومية وإسلامية، وقد إنعكس نمط ثقافة العشيرة على التناقضات السياسية.. ينغمر الفنان بالمشاكسة السياسية، نشاط حزبي تنظيمي، مع الجيل الأول من الطلبة الشيوعيين، وأبرزهم القائد الطلابي جواد جودة – ورد ذكره بإسم خلف جودة - الذي تعرض للضرب بعد فوزه في رئاسة إتحاد الطلبة العام في العمارة، واعتقل وعُذِّب في إنقلاب شباط عام 63 وتسبب ذلك بكسور في الرأس إستشهد بعد ذلك في أحد مستشفيات ألمانيا الديمقراطية . نستشعر أنفاس الندم في هذا الشوط المبكر لصبي في الثالثة عشرة من العمر يدخل ميدان السياسة تنظيمياً ( هو السحر بعينه الذي إنقلب علينا وأدى بي، قبل أن أبلغ الرشد وآلاف مثلي الى السجون.) ( كانت حياتي الدراسية في ثانوية العمارة – 60 لغاية 62- متوترة وقلقة في قلب مجتمع طلابي موبوء بالتناقضات. مجتمع خشن، قاسي، ناعم، وشاذ... وأنا رقيق وجميل أكثر من اللازم . في أعماقي فكرة طهرانية عظيمة عن ذاتي.... إخلاصي ووضوحي وحفنة الثقافة التي كنت أكتنزها، وفرت لي بعض السطوة على قلوبهم، أما عقولهم، فلم أعرف بماذا كانت تشتغل، وأنا أقودهم ضد أخلاقهم، ضد أنفسهم ) فهل أزعم أن كلمات الفنان تتحشرج في خطاب الذات، مع كامل الحقوق للتأملات النرجسية، في تيار الذاكرة وحاستها الشعرية، خصوصاَ في دخول عالم المراهقة السياسية والفن، هذا الميدان الحر والنقيض لمنهجية المدرسة وآفاقها المجهولة. الفن هوعالم القيم... الفن المنصهر بالوعي السياسي. ولأن الذاكرة هي الذاكرة المصحوبة بتلافيف الزمن فمن ثوابت المنطق أن تفقد الذاكرة بعضاَ من علاماتها، أو تُخطيء في التواريخ والأسماء. يتذكرني الفنان كما يتذكر المرحوم ابراهيم زاير ضمن مجموعة مرسم ثانوية العمارة بإشراف الأستاذ الفنان عبد المنعم مسافر. وعن غير قصد يغفل أسماء فنانين وخطاطين أسسوا لريادة الحركة الفنية، ومنهم كاظم جبر. وفي هذه الفترة، كانت الحركة التشكيلية جزءاَ متمماَ للصخب السياسي، وتعدد المعارض ودخول أساليب الرسم والنحت الأكاديميين على أيدي فنانين درسوا الفن في معهد الفنون الجميلة في بغداد، منهم عبد الرحيم البياتي وعبد اللطيف ماضي وعبد الأحد فرج، ومن الفنانين الفطريين صبيح عبود وأحمد أمين والخطاط حربي وغيرهم.
هنا بدايات التحول بإتجاه رحلة الفن القادمة، من الهواية الطفولية الى إغواءآت مرسم ثانوية العمارة فالدخول الى أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد. نستشعر حاسة الندم في نهايات الرحلات والخرائط والهجرات التي عاشها الفنان بما فيها رحلات الفن ورحلات السياسة، في السياسة تجريب يحاكي التجارب الكرافيكية وتجاوز بعض قوالبها، حاسة الفنان، المندائية، تنبؤه بالإنسلاخ عنها، شكلياً، ذات يوم بدوافع حب بأخلاقيات شكسبيرية. الحب المتفوق على تعاليم كهنة اللطلاطة الأوائل. لكن الفنان يتمسك بروابطه المندائية، بل أنه يعزو موهبته لفضائل تلك الروابط وجذورها التأريخية والجغرافية والدينية. ولم تكن الموهبة غيرمنظومة أخلاقية لمشاعر وأحاسيس، صقلتها العقلية الجدلية العلمية التطورية.
تروي السيرة تنقلات الفنان في الغربة. لكل محطة عدد من السنين المجتزأة من الزمن، العمر المقسم على البقع المترامية فوق الكرة الأرضية. فضلاً عن ذلك عدم الإستقرار، قلق وخوف في التنقل بأسماء مستعارة وجوازات تُزَور وتُستَبدل عند الحاجة. هاجس الرحيل أوجد رفقةً وهمية من أسماء ولغات ومواقف محرجة، شخوص وعناوين وتواريخ إصدارات وأختام مطارات و... ترحل مع الفنان وتنقطع عنه عندما يحين الرحيل القادم. توديع للمساعدين الوهميين، أماكن تتبدل بين مدن الملح الى مدن الرمال المتحركة، وإنقطاع متكرر عن الرسم، وإتلاف مراسم مدن الغربة. الإنقطاع الموسمي عن الرسم يبرره الإحتكام إلى جدلية التأمل في أسرار الأماكن الغريبة.
في الغربة يحكمك الإغتراب . لامكان يحميك غير ذلك البيت الطفولي الساكن في الذاكرة، والذي حلمت فيه مراراً. يقول غاستون باشلار( كل ما علي أن أقوله عن بيت الطفولة هو ما يكفي لجعلي في حالة حلم يقظة ويضعني على عتبة الأحلام حيث أجد السعادة في الماضي.) كتب يحيى الشيخ عن بيت طفولتة، الذي وجد فيه سعادته الحقيقية، والتي فقدها الى الأبد بفقدان ذلك البيت الطيني في القرية العذراء . وسيكون بيت الطفولة هذا مصدراً روحياً للقلق التشكيلي الذي سيربك تجارب الفنان ويضبب رؤيته الفلسفية المتسلطة على خاماته اليدوية لاحقاً. وأزعم أن الفنان يستحظر هذا البيت في مخيلته كلما أمسك بالقلم ليرسم أو يكتب.. أقتطع هنا نصاً آخر من باشلار وكتابه" جماليات المكان" (يقول سان بييف بعد أن يصف بيت طفولته: ليس ياصديقي الذي لم تزر هذا المكان، حتى ولو زرته، فإنك لن تستطيع أن تحس الإنطباعات وترى الأوان مثلي أنا، والتي أطلب المعذرة لوصفها بهذا التفصيل.). لقد وصف الشيخ مكان يقظته وأدركته لحظة اليأس في اليوم الذي غادر المكان طفلاً مع جمع الأشياء، وذكرياتها، وتخريب حضورها، وإقتلاع جذورها لتتكوم في سيارةٍ خشبية... وهى بداية الرحيل المجهول. وستظل (ألأشياء) محمولةً في مخيال الفنان– مشاريع سريّة مكبوتة – تترقب الضوء الآتي في زمن قادم لتنمو وتورق من جديد، فظهرت لاحقاً في مجموعات (نداء الأشياء) و( ذاكرة العشب) وقد تماهى الفنان في ( شيئيتها) العائدة إلى بيئة الطفولة القروية، فأنتجت نمطاً من التجريد المكاني المتمرد على أخلاقيات المرسم التقليدية. ( كيف لي أن أكشف عن ذوقي في الرسم كما هو ذوقي في الوجود؟ أن يكون رسمي سلوكاً، وأنا غائب عن وسائطه؟ أن أُلغي آلاتي، أقلامي، علب الألوان، الإبر الحادة، والمباضع ذات الأنصال البراقة، الإطارات... والمرسم برمته. علي إذن أن أُلغي عاداتي! وأتفرد مع الأشياء، أو أدعها تنفرد بي).
(2) بدأ الفنان رحلته الفنية منذ أيام الخطوط العبثية على الطين... ( يدي الأكثر صدقا والأعمق ثقةَ بددت خرسي. في الطين إكتشفت كياناَ خفياَ آخرغير الذي أحمله، ينطلق بقدراته ما إن أمد يدي وأحفر السطح المتاح... هل قيضت لي تلك الواقعة العفوية أن أكون فناناَ وحفاراَ فيما بعد؟) ذاكرة الفنان تحمل كنزاً من الرقيمات الطينية والنقوش الفضية، الحرفة الموروثة في سلالة الأسرة، حرفة النقش اليدوي على الذهب والفضة ومن ثم التطعيم بالمينة، وتحديداَ المينة السوداء على الفضة، حرفة الأب . ويمكن إعتبار سيرة الفنان –اللونية- إمتداداَ لثقافته الحِرَفيّة في المينة وتكمن قيمتها السحرية في الأدوات؛ ملاقط ، مبارد، بواتق صهر، مواد لحام ، حوامض وأملاح ومواقد للنيران وكوَر. أي مشغل الورشة- غير المرسم الأنيق - . والورشة المتوهجة بهذا التشغيل تهيئ لعناصر التوصيل اليدوية – البدنية للتعامل بالمواد المحترقة والمنصهرة والسائلة في قوالب. وبالتالي إنتاج مادة مبهرة وعالية القيمة. أتصور أن الفنان أحب مهنة الصياغة لقيمتها التأريخية- المقدسة في ثقافة الطائفة المندائية أولاَ، وقيمتها الجمالية العالية بقيمة الذهب ثانياً. يعمل الصاغة في ورش شبه مظلمة كالأقبية السرية، حفاظاً على بقاء خصائص المهنة وأسرارها في محيط الأسرة والطائفة. أتيح لي أن أتعرف، عن قرب، على هذه الورشات في البصرة، بحكم رغبتي في معرفة هذه الأجواء الخاصة- أيام كنت مدرباً لقسم المعادن في مركز الأشغال اليدوية في البصرة - وسط هذه التقاليد وطقوسها اليومية وشخوص رجالها الكبار- أساتذة المهنة – نشأ الفنان - أستذكرهنا أن يحيى الشيخ كان أكثر طلبة درس الكرافيك نشاطاَ في مادة الحفر على الزنك وحفر الخشب للطباعة في سنوات الأكاديمية. وكان يستحضر معه أقلام حفر يستخدمها الصاغة. يتحدث الفنان عن سنوات اكاديمية الفنون الجميلة في بغداد (للأعوام 62- 66) وإلى الأساتذة الكبار الثلاثة وهم البولوني رومان آرتموفسكي والمقدوني فكتور لازسكي والعراقي فائق حسن..أي الفن الأوربي المعاصر. وللأمانة التأريخية نقول أن هؤلاء الثلاثة غيروا إتجاهات الفن العراقي نحو التجديد في مفهوم بناء اللوحة؛ أدخل آرتموفسكي فن الكرافيك بتقنيات الطباعة الحجرية (ليثوغراف) والحفر على الزنك والحفر على الخشب الصلب للطباعة – وبتعدد وتنوع الأساليب والتقنيات. وأدخل لازسكي فن الجداريات و تدريس العناصر والإنشاء التصويري. ومعهما لايمكن إغفال فائق حسن، مدرس مادة الألوان، وإسلوب عمل المدرسة الفرنسية. الجديد في دروس هؤلاء هو النهج التجريبي وتدريس أصول الحداثة وما بعد الحداثة، في الألوان والتقنية والجداريات وتحضير السطوح بالمواد الخشنة والكولاج وحرق السطوح الزيتية، أي تربية أصول التحرر من القوالب الكلاسيكية... ينبغي التأكيد هنا على أن الموجة الستينية في الفن التشكيلي تأثرت الى حد بعيد بأساليب هؤلاء الأساتذة، وبموجة المعارض الشخصية لشاكر حسن آل سعيد – في مجموعة ورقيات بعنوان(معاريج) – جمع معراج- بالألوان المائية وبالأسود والأبيض وبحجوم كبيرة. ومعرض كاظم حيدر – معرض ملحمة الشهيد - وسعدي الكعبي وأسماعيل فتاح الترك ورافع الناصري ومعرض جماعة المجددين ومنهم الفنان يحيى الشيخ والعديد من المعارض الأوربية التي أقيمت في بغداد، لكن أهم المعارض الشخصية المقامة في بغداد عام 64 هو معرض آرتموفسكي في قاعة الواسطي، والذي قدم رؤيا جديدة في أعما ل ورقية كبيرة الحجم وبالأسود والأبيض من معطيات المدرسة البولندية في التجريد... يقول يحيى الشيخ في سيرته (تكللت السنة اليتيمة في السعودية عام 66 برسومات حرة بعيداً عن مراسم الأكاديمية ومناخ الأصدقاء وتقييماتهم. رهاني كان على تجريبية إزدادت تبلوراً عبر عمل يومي إنتهى الى مجموعة ورقية بالألوان المائية " كواش" آنذاك كانت رسومات رومان آرتموفسكي وشاكر حسن المائية قد أكدت حضورها.) إتسمت الموجة الستينية بالتجاوز على الأنساق التقليدية. إختفت الواقعية والإنطباعية ما عدا خالد الجادر لخصوصية إنطباعيته التعبيرية المتأثرة بإنطباعية الفرنسي كوكوشكا. في الواقع أن الفن العراقي لم يقم على أسس واقعية – أكاديمية، بإستثناء بعض المحاولات الفردية الإنطباعية. .ويمكن القول أن المعارض الستينية الحداثوية قضت على النتائج التي توصلت إليها جماعات الرواد، وخلعت معطف ( جماعة بغداد للفن الحديث) وعناصرها المكانية – رموز بغدادية وإسلامية- وإستلهام تكعيبية بيكاسو وتجريدات بول كلي شرقية الطابع. خطوط مستقيمة وإنكسارات ومنحنيات – نمط جواد سليم وشاكر حسن في الخمسينيات ليودع هذه المرحلة في معرض يسبق معرض الورقيات المائية وآخر لوحة بحجم كبير بعنوان ( عائلة مشردة وقمر) وفيها محاولة جدية و( موضوع ومضمون ) وأسلوب يبتعد عن التكعيبية التي ميزت الحقبة الخمسينية. أظهر هذا العمل هاجس القلق الفكري في بحثهِ عن لغة تشكيلية تواجه الموجة التحديثية الصاخبة. بعدها ينفرد شاكر حسن بعالمهِ المشار إليه في التجريد والتنظير- تأويل المنجز الحرفي للتأمل التصوفي-
الطاقات التجريدية الشبابية الباحثةِ عن التغريب وجدت في تقنيات الخامات البدائية كالصفائح ومواد الخردة والخشب والقش والليف والحبال والصوف والكولاج بكل أنواعه، عالماً متحرراً من القيود والشروط – التقليدية- في تصميم اللوحة وسطحها وفراغاتها وقد تحولت التجارب إلى أسئلة من قبيل ( لماذا تؤطر اللوحة؟ لماذا لاتدخل الفجوات والثقوب المحروقة في سطح اللوحة؟ لماذا لاتحرق اللوحة بالكامل؟ لماذا لانستبدل الصبغات اللونية بمواد أخرى؟) من ذلك تجربة صالح الجميعي في إستخدام صفائح الزنك المهملة بعد إنتهاء صلاحيتها في مطبعة ثنيان حيث كان يعمل فيها. والأهم في هذه المرحلة (إلغاء الألوان) والعمل باللونين الأبيض والأسود او بأحدهما فقط . بإختصار كان دور آرتموفسكي حاضراً وبالأخص في معرض المجددين .
طرح آرتموفسكي مفهوماً جديداً لسطح اللوحة الورقية وتقنية الألوان المائية في مسوحات متدرجة من الشفافية الى العتمة، إلغاء الخطوط الحادة وإحلال التضاريس والتمجوجات والغيوم بالأبيض والأسود و التناظر والسطوح الزجاجية- الظاهرة المميزة في معرض آرتموفسكي- وعلاقات الفراغات والكتل والكولاجات بكل أنواعها. والظاهرة الأبرز في هذا الأسلوب إلغاء التشخيصات، وكل ما يدل أو يوحي بالشكل الواقعي أو الإنسان أو الشكل الطبيعي المباشر، وهكذا إصطدم المتلقي التشكيلي برؤيا جديدة أحدثت تحولاً في مسار التجريد الستيني (...لأول مرة يجتاح ماضيي حاضري بهذه القوة. هل عبر ذلك البستان؟ بستان الذاكرة الذي على تخومها، وهو يحمل شيء من البقايا، أشكال اشنية، لحاء شجر متغضن، صفائح "جينكو" منخورة. بدت حقولاً وهضاباً محروثة لالون فيها غير الأسود والأصفر مع شروخ بيضاء كأقلام الحراثة بتضاريسها. أنجزت المجموعة وشاركت بأربعة منها في آخر معرض للمجددين, وأخذت الباقي معي الى لوبليانا وهناك ضيعتها) .
أسهمت التجريبية الستينية في خلق تقاليد – الحاسة الكرافيكية- وتسلطها على ظاهرة الرسم الحديث إجمالاً، وعند تأمل إنعكاسات هذه الموجة التجريبية نقف على ظواهرها المزدوجة ومن إنعكاساتها: تراجع لغة الألوان الى حد الخوف من لغة الألوان والإكتفاء بقدسية وسمو اللون الأسود وإلغاء المراحل الدراسية التشخيصية منها، ومدارس الفن الحديت التقليدية، والإستهانة بعناصر الرسم الأخرى، بمعنى آخر فن مابعد الحداثة وهو ما حققه ( المجددون) في معرضهم وما بعده. وقد إختص بهذا الإتجاه – الكرافيكي – سالم الدباغ وهاشم سمرجي ويحيى الشيخ وفائق حسين..أما رافع الناصري – الكرافيكي – فقد تحول بجدارة عن قيود اللون الأسود وتقنية الطباعة بتوظيف مايمكن وصفه بالثقافة اللونية الشاملة، مزاوجة الكرافيكية بألوان فائق حسن الصحراوية.
أنتجت المرحلة الستينية خطاباً تأويلياً لمنجزها التجريبي/ الحرفي تماهى في تعليل السببيات الخارجة عن الرسم ومادته ومحتويات المرسم ، بعيدة عن اللحظات الحسية التشويقية للرسم. أي اللحظات التي إتخذ فيها العمل الفني وجهةً تنظيرية؛ فغدت تقليعة البيانات تتصدر مطويات المعارض الشخصية والجماعية، إبتداءً من ( البيان التأملي ) لشاكر حسن آل سعيد لمعرضه . وعادت للظهورنزعة ألتأويل الأدبي والبيانات لتشمل المعارض الشخصية والمشتركة في مطلع السبعينيات من القرن الماضي. وإتسمت البيانات بالتأويل الفلسفي المتأثر بالموجات الثقافية والأدبية الستينية الأوربية القادمة عبر دور النشر اللبنانية. وقد حظي هذا الإتجاه بمباركة السلطة البعثية، التي رأت فيه مايخدم منهجها في التقاطع مع الأفكار الماركسية . ويمكن تسمية العقد الستيني بالمرحلة الرمادية في الفن التشكيلي العراقي، التمرد على القيم اللونية، وعلى الصبغات اللونية، وعلى دروس لازسكي وهي ألأساس العملي للحداثة في الرسم. فطغيان النزعة الكرافيكية ترافق مع نمط فقر الألوان الذي ميَّز دروس فائق حسن وإعتماده أساليب المدرسة الفرنسية، ماقبل الإنطباعية، سواء في دراسة الموديلات أم في جمع الأشياء غير الحية ( الطبيعة الصامتة ) وتتشكل في الغالب من نحاسيات صدئة وفخاريات غير مزججة وبيئة معتمة.
أثناء دراسة يحيى الشيخ لفن الكرافيك في لوبليانا- إسبانيا، ينجز مجموعة من الورقيات المطبوعة على الزنك في تخاطر الروح مع المكان (أنا دائماً أعود إليه بالرغم من أنني أزداد تجريداً وإختزالاً... أحياناً أتساءل: لو لم أقد نفسي الى ألف مكان ومكان؛ هل كنت أستطيع أن أرسم؟. أليس الرسم مكان نؤثثه بالماضي ويسكنه المستقبل؟... في الغابة "تيفولي" التي تتوسط المدينة عثرت على حبي السلوفاكي البكر يفترش أوراق الخريف الذابلة، ذهب، وقصدير، ونحاس صدئ، أطلقت له نشيدي عارياً. هناك أنجزت عملي الكرافيكي المتميز والخطير من بين كل أعمالي من ناحية تأثيره وفعّاليته في رسمي لاحقاً، أسميته " إنشاء الإنسان وألأشياء"). قبل أن نقرأ وصف الفنان لتجربته الإستكشافيه لموضوع هذه اللوحة ومضمونها نتوقف عند علاقة الفنان بالمكان الذي شكَّل هذه السببية في المنجز الكرافيكي. هنا يلتقط الفنان عناصر ومكونات مادته المحورية من الطبيعة الغنية بالتحف الأرضية بألوانها الذهبية والنحاسية والقصديرية، لتكون المحورلموضوع ( مستهل واسع للعلاقة الجينية بيني وبين الأشياء) - اللوحة غير منشورة في الكتاب - ونطل عليها من خلال تأملات الفنان، وتتألف من ورقة شجرة يطبعها على لوح زنك وعلى أرضية بمثابة ألواح خشب وأكف متداخلة مشتبكة مع خيوط وأسلاك ملتوية.....( هذه اللوحة كانت ميثاقي الأول مع آلهة الفن ). يجمع الفنان أعماله الكرافيكية في معرض ( مع المعرض أصدرت بياني الأول " الحدث الفني" كنت تحت تأثير أفكار المثالية ألأولى، أرى الأشياء تمارس حضوراً قصدياً طاغياً، وكأنها وعي مماثل أتحدث عنها كما أتحدث عن نفسي) وتدخل هذه الأعمال في الميدان التعبوي؛ ملصقات للمقاومة الفلسطينية، وموجة معارض عن الجبهة الوطنية والتضامن مع الشعب التشيلي. مع التغيرات المخادعة التي لاحت في سياسة السلطة، دخلت التجارب الفنية ميدان المخاطبة الجماهيرية المباشرة . في مناخ المقاومة الفلسطينية وحرب أكتوبر ومعرض الحزب الشيوعي العراقي لمناسبة الذكرى الأربعين لتأسيسه، تراجع نسبياً فن المرحلة الرمادية لصالح فن التعبئة القابل للتفسير- الديالكتيكي – وبما أن فن الكرافيك يقوم على عناصر قريبة من فن الملصق السياسي، فبالإمكان وضع مطبوعات يحيى الشيخ في هذا الباب كتب عنها سعيد السعدي في نقده لمعرض الشيخ عام 71 – النص الوارد في الكتاب مايلي (إنه إبتعاد عن الغايات, إبتعاد مأساوي و مدمر . إن المعادلة التي يوازنها الشيخ هي معادلة قاسية وصعبة ومؤلمة؛ شرعية أن تعيش تساوي شرعية أن تموت. شرعية أن تقطع المسافات تساوي شرعية أن لاتصل. إن الشيخ يمارس عملية الرسم بوعي وقصدية شاخصة, ولذلك فإنه يدرك ويعاني تماماً من إنقسام العالم الى مالانهاية ومن تجمعه الى مالانهاية, كما يقول إيلوار) ونضيف أن هذا التحليل ينطبق على تجربة الفنان في الحفر وبإنشغالهِ في أعماق مضمون العمل الفني، المضمون الإنساني الذي إنعكست فيه الصراعات والتناقضات التي سادت النصف الأول من العقد السبعيني الماضي.
3 في تقنية المحفورات – الكرافيكية- ثمة تقاليد أساسها التخطيط و التشكيل من كتل وأنسجة ومساحات وإيهامات بالسطوح المتناظرة والمختلفة الملمس، موضوع ومضمون. حتى في التجريد يكمن المضمون والفكرة، لأن تقنيات الحفر تُنجز على مراحل يدوية، تتداخل فيها الأدوات والمواد – أملاح وحوامض وصموغ وعوازل وعمليات تسخين وإذابة وتغطية وتحبير وغير ذلك - و لابد أن تبدأ من – شكل – يملأ الحيز المحوري في اللوحة، وللشكل دلالة تعبيرية أو رمزية. للفنان الشيخ ما يسند خبرته في التواصل العقلي والمختبري لفتوحات كرافيكية جديدة مع كل محطة جديدة . في مطلع السبعينيات عرض عمله المميز ( الرمّانة ) (رسمت ُرمّانة كبيرة أسقطتها في أعلى اللوحة ؛رُمّانة محتقنة تبذر حباتها ذات العافية على سهول وهضاب تعج ببشر هائمين على وجوههم . عمل إيحائي ينطوي على سريالية, ذات حلم رقيق ). تعابير شاعرية عن فكرة رمزية نفذت على ورق كرافيكياً. الكرافيك فن الموهوبين بالذائقة الحرفية دون سواهم، وليحيى الشيخ حق إدعاء هذه الموهبة، لأنه فنان الورشة. في الواقع أن ورشة الكرافيك تقارب ورشة الصياغة – حفر وطباعة وتطعيم وعمل يدوي ونقش وتصميم وزخرفة وكتابات وخيال في صناعة الجمال ومنجزه النهائي. والصاغة يرسمون بالمينة السوداء، والملونة، على الفضة صوراً شخصية ومناظر طبيعية وتعاويذ وآيات قرآنية .
في روسيا يكتشف الفنان النمط التشكيلي المسمى (الإيقونة) المعروفة في الفن المسيحي. وبالتأكيد يرى الفنان شكل الإيقونة البنائي، وتقسيم سطحها وتوزيع الأشكال- الأشخاص – وإتباع منهج التكوين التقليدي السائد فيها، كتقسيم المساحة الكلية، وتقارب الحجوم ورسم التفاصيل. وفي النهاية سيكون العمل شكلاً من أشكال المنمنم الشرقي. لكن الفنان لايريد من الإيقونة سوى بنيتها التكوينية، وحتى هذه البنية ستكون خاضعة لتخييل معاصر ينسجم مع الأفكار الشاغلة لمقاطعها. فما هي الأفكار؟... يقول الفنان ( كان تحت إبطي آنذاك كتاب علي الشوك "جولة في أقاليم اللغة والأسطورة" مثل تعويذة ضد الخوف والإحباط اللذان كانا يتربصان بي. وأنا أقرأ عن الآلهة وطقوسها وعن مواسم الخصب وقدسية الجنس، جميلا أن أتخيل الألهة السومرية وحيواناتها على هيئة إيقونات... تعج معابدها بالبغايا المقدسة يؤطرها ذهب وفيروز بابلي...) لوحة ( البغي المقدسة) و( عذارى وضباء بابلية، أسود فارسية، وكباش فرعونية إحتشدت في طقس مكرس للحب في إثنتي عشرة إيقونة أسميتها " طقوس إنانا ") توصيف جميل وشرح تفصيلي يتخطى حرفية الرسام بسردية شعرية تضاهى الأعمال الكلاسيكية البانورامية. إنجاز مميز يحجبه القلق عن المواصلة. ويعترف الفنان أنها (كانت نزوة إعترتني وأنا في أشد حالاتي يأساً؛ أوصلتني الى مفترق طرق, أخطرها التزويق ومخاطبة عواطف إثنية سادت وسط فناني المهجر بذريعة الوفاء للينابيع الأولى.) لقد تعرض الفنان الى إغراء مؤقت بنظام الإيقونة التكويني، منسلخاً عن قدسيتها التأملية تماماً، مثلما يوظف بيكاسو أقنعة القبائل الإفريقية، أو بقايا دراجة هوائية لتدل على مضمون جديد مغاير تماماً لوظيفتها الحقيقية. وسرعان ما تعجز الإيقونة عن الإيفاء بالشروط المطلوبة لإنجاز- تحديث – جديد يلائم أهواء الفنان لماذا؟... في الواقع أن مضمون الإيقونة يتحكم بشكلها، ويقرر تقسيم هذا الشكل بمساحات- أماكن – للعناصر التعبيرية حسب وظائفها التعليمية، وبالتالي في أجزاء منفصلة موضوعيا وشكلانياً، كأن تكون شخوص متباينة الحجوم والمراكز، على درجات قدسيتها. وهذا التقسيم خلق النمط السكوني لفن الكنائس ما قبل عصر النهضة. إذن هي أهواء الفنان الباحثة عن صياغات متحركة، دخول مساحة عقلية بغية المعرفة والتقصي ثم مغادرتها الى واحة عقلية جديدة . إكتشافات في الطبيعة الملونة وعوالمها المجهرية، ومحيطها التجريدي، من حراشف وأصداف وسطوح محفورة بيد الطبيعة و فضاءآتها المفتوحة، تلك العوالم الحية التي لاتحققها الأساليب النمطية – السكونية - وهنا يكمن بعض السر في المتاهة العقلية الغائرة في تشكيل الإيقونة الحالمة بالخصوصية المنهجية الموروثة من تقاليد ورشة الكرافيك وذاكرة الصياغة، وربما ذاكرة الطقوس المندائية.
في( سيرة الرماد) كنت أبحث عن مركّب الشخصية الثالث، عن الفنان، بعيداَ عن الأجناس الموضوعية، فلم أفلح... بل صدقت أن ترابط الأنسجة الثلاثة ـ الوعي السياسي، الرسم، الشعر- تنساق في مستويات متوازية ومضفورة، يعلوها صوت الطفل في صدقية الإعتراف والحنين الى الماضي. الى آخر كلمة يتحدث الطفل عن تعلم الرسم وعن الخوف من الفشل في المدرسة. يتملكه الحزن وهو يستذكر الأسماء القريبة، قرابة المخلوقات البرمائية. كما في الوعي الشيوعي يعتلي المراهق صهوة الجواد الجامح، يخط الشعارات على ورق الكارتون (السلم في كردستان) مروراً بالإعتقالات وترك الحزب والعودة، والإنقطاع عن الرسم في فترات الصراع مع الحياة والتنقل وعدم الأستقرار. وبالتأكيد التقاطع مع آلية عمل الحزب... إغراءآت الجبهة الوطنية مع البعث. ومازالت ذاكرة عام 63 مكسوةَ بالرماد. وينتهي مطاف السياسة والحزب ( في نهاية 87 تم تأسيس كلية للفنون في طرابلس الغرب. كانت فرصة تناسبني وتبعدني عن عادات العمل وضائقة العيش. وفرصة أيضاَ لترك العمل السياسي والخروج من خنادق الحزب. لقد تعبت من تناقضاته السياسية وإنهياراته الداخلية فإحترمت عقلي وأمسكت بحياتي وغادرت بلا رجعة.) فهل أجد ما يفترض أنها الرحلة المتشظية في محطات الإحباط، التداخل والتناقض مابين العلاقات الروحية مع الأرض والجذور الفكرية وبين النهايات المقموعة قسراً؟... أوراق ضائعة وعدم إستقرار. هروب دائم لعقل ملاحق ومطلوب يتنقل بأسماء مستعارة وجوازات سفر مزورة. الوعي السياسي، الثقافة، تجربة شبابية في العمل الحزبي تنتهي... الطفولة، الإرث المندائي الجميل. ذاكرة الفنان تخضع لمهيمنة الموروث لدرجة الندم بالإنسلاخ الطوعي عن الكهنوتية، بعقد زواج في الكنيسة على غير ما يستهوي التقاليد... لاشيء سوى المعقول. ..أو هو(عين العقل) كما يقول أحد أبطال نجيب محفوظ، تلك المقولة التي تؤدي الى جنون إبن البطل المتيم بحب إبنة الجيران .
أزعم أن هذه الرحلة العاصفة وجدت إنعكاساتها في مراسم الفنان المرتحلة في الغربة وتنقلاته في الأساليب وإكتشافاته في الطبيعية، وفي التقنيات، وفي نصيّاته الشعرية وتأملاته الشعورية لتجربته الفنية. يقول عنه الناقد سهيل سامي نادر" من المؤكد أن وعياً حاداً وتشاؤماً عقلياً متوفران في كتابة يحيى الشيخ، لكن سيرة الرسم، وهذا الإستبدال له معنى، توضح نوع الأفكار والعواطف التي يودعها الفنان في عمله، ولا سيما عند بناء تجربة، ووداع أخرى، في تحولات الرسم ينمّي يحيى رغبةً جامحة في الإندماج بعالم الأشياء، إندماج يرقى إلى الإتحاد الصوفي (بمعنى الفناء)... إن الرماد ههنا هو تحول وإستقبال، لكن الفنان الجاد يراه من زاوية ما أخلاه وليس ما إستقبله." وأرى أن المسعى المتعدد الورشات والمراسم وتكديس المواد الغريبة عن تقاليد الرسم – السطوح والصبغات- إنما يدور في إطار محاولات الخلاص من هذا" التشاؤم العقلي" الذي رآه سهيل سامي نادر في أعمالهِ الأخيرة.
بعد ذاكرة الحفروالزنك وموروث الصاغة الكبار ذوي اللحى الكثة والنظارات السميكة والكير والسندان يكتشف الفنان روح المادة الأولية في الطبيعة العائدة لسكان اللطلاطة الأوائل عبر مواد الخشب والقش و.. ( زودت مرسمي بكل ما أعثر عليه في طريقي: أخشاب يابسة وأوراق تفسخت أغشيتها ولم يبقَ منها غيرعروقها مثل " دانتلا نسجها الله"، أحجار وصفائح حديد صدئة أكلتها الأقدام في الطرقات، حبال وجلود ودواوين شعر وما أنزل الله به من سلطان...) ويتحول مرسم الفنان الى مختبر للمواد الطبيعية. ويكتشف أن أصل التجربة يعود الى القرية الأولى وحصرانها وسعفها وأطيانها. في مجموعة أعمال ورقية يسميها (رسائل الى الورد)...( وأنا أعيد قراءة الرسائل باغتني احساس أنها كتبت في زمن غابر بلغة إثنية كنت يوما أُجيدها. هذه المروج بسياجاتها، والأعشاب اليابسة وحبال القنب، وخوص السعف قد عاشرتها وتمرغت عليها عارياَ، وجرحتني قبل عقود من السنين...) وقد أزعم بالإعتقاد أن البحث في مختبرات الطبيعة الفطرية ينطوي على دلالات تشتت السيرة بعد مغادرة القرية. دلالة الضياع في متاهات المجهول. او ضرب من تسلية النفس الموزعة بين المعجزات، كلعبة الجوازات المزورة والأسماء والعناوين الملفقة. يبحث الفنان عن حقائق أخفتها الطبيعة بين أعشابها وتضاريسها. أكرر أيضاً أن المصادفات هي الفرص الخالقة للكشوفات المبهرة أحياناً، كالأخطاء المنتجة للإختراعات العظيمة.
في الفصل المعنون (نداء الأشياء) ما يفسر نمط القصدية الشاغلة لأهواء الرسام، التحاور مع الأشياء، إعادة صياغتها بدلالتها الطبيعية وحرفيتها في مجموعة ( ذاكرة العشب )( وضعت فيها ولها قرابة خمسين عملاً كرافيكياً، ورسماً، وعدداً لايحصى من التخطيطات... قبل مغادرتي طرابلس أتلفت قطع الزنك والنحاس الخاصة بها، وأحرقت دراساتها الأولية... كنت أشم لحمي وهو يحترق وأشتم العالم كله.). ذاكرة العشب بدأت قبل عشرين عاماً من تأريخ هذه الأعمال، من عمله المميز القديم( الرمّانة).
البحث عن مواد جديدة تشغل اللوحة يقارب البحث عن هوية جديدة وعاصمة جديدة. فالمواد- الخامات – أوجدتها الأماكن المتغيرة والجديدة.الطبيعة؛ الأشجار والأعشاب لها فلسفتها الخاصة ومثلها المتممات السحرية المتحركة، الحيوانات والطيور، والتحصيل التجريدي مواد للشغل اليدوي ... صوف وريش. المهملات الفائضة عن الحاجة تدخل في أوليات فلسفة الفنان وتمهد لرؤيته، بل تعيده الى رؤية القرية التي غادرها منذ نصف قرن ومازالت تلاحقه أينما حط الرحال (سنواتي الثلاث الأولى في تونس عشتها في القيروان. جغرافياً وإجتماعياً كنت على هامش الريف. كانت تلك كافية لإعادتي الى حيث بدأت، قروياً.) يضيف سهيل سامي نادر في مقاله عن معرض الفنان المعنون(أكثر من سيرة) والذي إقتبسنا منه قبل سطور" إن يحيى ينتظر نداءآت من المواد التي يعرف أنها قد تتحول الى رماد... هو مُحب للحشائش والأوراق والأغصان والأخشاب والأشياء التي تظهر من ثقوب أو كوّات من ضوء."-عن موقع "كتّاب العراق"
يرى الفنان أن المكان – المدينة – التي يسكنها تمنحه كشف جديد وخامة جديدة وأسلوب جديد في التعبير، بمعنى آخر (أكثر من سيرة)
القيروان تكشف عن موهبة قروية إسترجاعية لذاكرة البيئة الطفولية. الطيور والدجاج والحمام و.. الريش، أي التعامل بالخامة الملونة والرقيقة بكل ما تهبه من تدرجات وسحنات وأيهامات وخداع للبصر. كنت أتمنى لو طبعت هذه اللوحات بالألوان وبتقنية طباعية لائقة، ليقف المتابع على قدراتها الحقيقية في التعبير عن غاياتها وما يقصده الفنان. فالمتلقي يواجه العمل الفني كحقيقة مادية ولاتقنعه التزكية الفلسفية للعمل اليدوي، بل يرى فيها نتاجاً أدبياً خارجاً عن الحرفة الفنية. وبإمكان الفنان، أي فنان، أن يروي ويحاضر ويكتب ويصدر البيانات، وبدون الحاجة إلى عرض اللوحات. مثال ذلك أن كتابات شاكر حسن آل سعيد لاتمت بصلة لأعماله. فالبيان التأملي كان نصاً أدبياً إنشائياً لم يقنع رواد معرضة ببواعث الرسم ( الإيمانية ) الذين أُعجبوا بإسلوب الفنان في تقنية الألوان المائية والتجريد، ولم تكن هذه الأعمال بحاجة إلى إسنادات فلسفية مثالية. والأمرُّ من ذلك إحالة الجهد اليدوي التجريدي بسحنته الأوربية الى دوافع قرآنية، كفكرة الإسراء والمعراج في الخيال الإسلامي.
ماذا عن الريش؟ ألوان الريش... ( أنجزت ثلاث قطع؛ مرقطة يشوبها بياض في المساحة العلوية في بياضها العاجي ريشات رمادية وسود) نستطيع أن نتخيل العمل بنسبة واحد في المائة بدون مشاهدة القطع الثلاث، وبنسبة خمسين في المائة إذا شاهدنا صورة ملونة لهذه اللوحات مع قراءة النص الأدبي الجميل (ريش يتعالى على غربته بعيداً عن الأجنحة، في أعطاف ذاكرته سماوات بعيدة وأعشاش عالية، فيها مايذكِّر بحياتي .) قبل تجربة توظيف الريش في الرسم – كولاج – مرَّ الفنان الشيخ على الصوف. تجربة أخرى في عمل الورشة اليدوية,عجنْ الصوف الملون وتحويله الى مادة صلبه . أصل الفكرة درس الأشغال اليدوية لطلاب كلية المعلمين العالية في تروندهايم، حيث كان الفنان يدرِّس فيها. (إكتشفت شخصية جديدة للصوف لم ألتقِ فيها من قبل... كان وشائع كبيرة ملونة على هيئة طبقات واسعة، بحر من الشعيرات الملونة، شاهدت الطلبة كيف يعجنونه ويلبدونه ويصنعون منه لعباً وقبعات وقفازات بدائية الشكل.... أدركت وأنا أمد يدي وألمسه كم كان يعوزني الدفء والإلفة، وكم كان يشبهني) .
اللوحة المنشورة في موقع ( الفنان العراقي) و (إتحاد الجمعيات المندائية في المهجر-) توضح القيم الحقيقية لمنجز الفنان في تجربة مادة الصوف, اللباد الملون، منهج الخامات الطبيعية، وبالطبع ثمة مشاعر لونية طاغية في هذه ( الإشراقات ) تؤكد الإنتماء الى عصر التكنولوجيا الفضائية... عصر البوليمرات وفيزياء المواد. فاللوحة بمثابة نسيج من توهجات تحققها تلافيف الصوف بدرجات اللون الأحمر، ليطفو على تضاريسها إيهام تجريدي خاطف ومقتصد بسحنةٍ بنفسجيةٍ وهاجة. كتب الفنان والناقد موسى الخميسي عن هذه التجربة ورؤية الفنان التأويلية لها " مشكلة الصورة عند يحيى الشيخ هي البحث عن مصطلحات فلسفية فنية جديدة محددة بدقة وغير معزولة عن المشكلات الفلسفية العامة التي تعيشها البشرية، تعكس حالة اللاتمثيل اللا صوري القائم على تجربة الفنان مع كتلة الصوف بألوانها المتعددة، المضاءة، وعلى سطح اللباد، كقاعدة للوصول الى نظام تزيين مؤلف من الرموز المتحررة إزاء ضرورات خارجية كثيرة، إلاّ أن هذا النظام مرتبط بحقيقة موضوعية تحاكي الطبيعة بإستخدام جزء من موادها الصافية"- موقع (الفنان العراقي). بالتالي ثمة إنجاز يوصف بالقيم التشكيلية التجريبية. وما زال الفن العراقي الأصيل فناً تجريبياً، سواءً أخضعناه للتفسير الفلسفي أم تركناه يعبر في مرئياته ودلالاته السرية، ليمنحنا القدرة على إدراك معانيه الغامضة ونكتشفها. لابديل حقيقي عن الرسم بتقنياته وحرفياته، إنه فن المتغيرات وروح العصر.
أقنعنا الفنان بإنفصاله عن المرسم والصبغات والفرشاة وتعلق بالأهواء، جسارة الخوض في التجربة "كولوج". غابة سحرية ومغادرتها بلا أسف ولا حسرة. في تجربته الكرافيكية (هكذا سميت الاشجار) بحواس طفولية لنسيان التقاليد الحرفية، في السطور التالية يوضح الفنان تقنيتها التلقائية، التجريبية (في هذه المجموعة لم أدنُ من تقنيات الكرافيك التقليدية التي إشتغلت عليها. وضعت يدي على وسائط خام وجازفت على هواي في تجريب لم أعهده من قبل، حتى أني عجزت عن تصنيفها. فيها ملامح الحفر لكنها ليست حفراً. كما فيها من طباعة الأوفسيت بنقائها وصفاء سطوحها، لكنها ليست كذلك. قد تومئ الى نسبها لطباعة الشاشة الحريرية بكثافة حبرها وصراحته... وهي ليست كذلك. الى جانب غرابة المادة فقد أقصيت عن عمد أكثر الوسائل الميكانيكية التي ألفها الكرافيك، وقلصّتُ فعل الآلة معتمداً على يدي في حراثة خدوشي وتضاريسي على ألواح من مواد مختلفة وطبعت على ورق أسود).
في الختام أقول أنها سيرة أصيلة وصادقة ألقت الأضواء على أحد مسارات الفن التشكيلي العراقي وعلى الظروف القاسية التي أحاطت نموه وتطوره، وما نتج عنها من ظواهر إغتراب وتهجير، وعلى تجربة الفنان يحيى الشيخ النوعية في منجزها الفني الكبير. وثمة باب لا يمكن إغفاله في هذه السيرة ألا وهو الخطاب اللغوي سرداً و شعراً، والذي يحتاج الى قراءة تحليلية شاملة ومنفصلة، لأنها تتصل بوعي الفنان، ورسالته الثقافية. نقلا عن موقع "الحوار المتمدن" |