|
|
مبنى النادي الأولمبي..حضور العمارة و(غيابها)! |
|
|
|
|
تاريخ النشر
14/09/2013 06:00 AM
|
|
|
اقترن اسم "أحمد مختار إبراهيم" (1908- 1958) كونه أول معمار عراقي، خريج مدرسة معمارية عالية، هي مدرسة ليفربول المعمارية بالمملكة المتحدة، التي تخرج فيها مهندساً معمارياً، عام 1935. قبل ذلك، كانت غالبية المصممين العاملين في العراق، وقتها، هم، إما مهندسون مدنيون او معماريون خريجو معاهد مهنية، أو أسطوات تعلموا المهنة من خلال طرق تقليدية، أو "ورثوها" أباً عن جــد. إنه، إذاً، المعمار المؤسس لمهنة العمارة بمفهومها الأكاديمي والمهني. وقد توافق وجوده في بغداد، التي وصلها بُعيد إتمام دراسته المعمارية مباشرة، مع فترة زمنية اتسمت بنزعة قوية "لتعريق" وظائف دوائر الدولة الفتية ، هي التي كانت، في الغالب الأعم، تُشغل من قبل أجانب، وعلى الأخص بريطانيين. ولهذا، فانه سرعان ما تبوأ منصب - معمار الحكومة- (GA)Government Architect؛ الذي شغله قبله المعمار الانكليزي "جون براين كوبر" (1899- 1984) J.B. Cooper، مصمم مبنى كلية الهندسة في باب المعظم، والكثير من المباني المميزة في الثلاثينات، فضلاً عن عمله على مشروع الضريح الملكي. وبصفته تلك: معمار الحكومة، فان أحمد مختار إبراهيم، شغل، أيضاً، مديرا لدائرة الاشغال العمومية، الدائرة المهمة والأساسية المعنية في إعداد تصاميم مختلف المنشآت الحكومية في الدولة العراقية الفتية. ومن ضمن المباني التي شارك أحمد مختار إبراهيم بإعدادها، "وربما" تصميمها، هو مبنى "النادي الاولمبي" (1939)، عند ساحة عنتر في الاعظمية. وانا هنا استخدم "ربما" بين مزدوجتين، ذلك لأن أقاويل كثيرة راجت في الوسط المعماري المحلي، في حينها، بان "مصمم" مبنى النادي، هم معماريو دائرة الاشغال العمومية، التي كان يديرها أحمد مختار إبراهيم، وهم في غالبيتهم أجانب. وتردد اسم المهندس "لافي" الذي عمل وقتذاك في دائرة الاشغال وهو من اصول هنغارية، كونه مصمم المبنى إياه. وللإنصاف (والتوثيق ..ايضاً)، فإني، ومن متابعتي الشخصية، لهذا المبنى، كجزء من إهتمامي بعمارة الحداثة العراقية، كنت قد اطلعت في سني الثمانينات على وثائق إعداد المخططات المعمارية، المحفوظة، في ذلك الحين، ضمن أرشيف دائرة المباني العامة (التي دعيت لاحقاً بمركز الإدريسي)، وشاهدت "بأم عيني"، توقيع احمد مختار ابراهيم على تلك المخططات، بصفته (المهندس المصمم)، جنبا الى جنب توقيعه الآخر: مديرا للدائرة، وعندما سعيت، في الفترة الاخيرة، وراء معاينة تلك المخططات ثانيةَ، صعقت لخبر اتلافها، هي و"جميع" الوثائق والمخططات الأخرى التي يحتفظ بها ارشيف مركز الادريسي إبان احداث النهب والسلب التي تبعت سقوط النظام الديكتاتوري سنة 2003. ولم أُصدق ما قيل لي، لكن المدير العام للمركز (وهو بالمصادفة احد طلابي السابقين)، نظم لي لقاءً مع المشرفة على وثائق وأرشيف المركز، وتبين لي، بعد المشاهدة الميدانية، بان جميع وثائق المركز بضمنها وثائق المايكروفيلم، المسجلة عليها مخططات تاريخ العمارة العراقية الحديثة، قد أُتلفت، بالكامل، حرقاً، لا أحد يعلم، باعث إتلافها، وما المنفعة المرجوة جراء إتلاف مخططات لنشاط مهني، لا أحد يكترث به، وقليل هم الذين مهتمون به! لكني أدرك، جيداً، بان الاسترسال في الحديث عن هذا القضية المؤلمة والفاجعة (هل أقول، ايضاً، والبربرية؟!) يخرج عن نطاق موضوعنا الرئيس، وما ابتغيت ان أكده هنا، هو ان اضع نهاية لتلك الأقاويل المرتابة، والمشككة في عائدية التصميم إياه، الى أحمد مختار إبراهيم. يتعين التذكير، بأن مبنى النادي الحالي، يشكل في الحقيقة، جزءاً، من "مجمع"Complex واسع وطموح من المباني والمنشآت الرياضية العديدة، شغلت موقعا فسيحاً، تمتد من مبنى النادي المطل على الساحة، وتصل الى التخوم التي يشغلها، اليوم، طريق محمد القاسم السريع. وتتضمن ملاعب مفتوحة ومسارات عـدة لألعاب الساحة والميدان. وما بناية النادي ذاتها، سوى "قاعة مغلقة" Gymnasium للألعاب الرياضية في هذا المجمع الرياضي الفريد. ينزع معمار النادي، لأن تكون لغة مبناه المعمارية، واضحة، وجلية، وفي الوقت نفسه مختلفة، انها دعوة منه لتميـِّز مبناه المصمم و"تمييزه" عن سياق عمارة البيئة المبنية المجاورة، وهو لهذا يولي أهمية خاصة، لجهة خلق سطوح آجرية فسيحة تشغل غالبية مفردات تكوين الواجهة، موظفاً تأثيرات حضورها القوي، على أحاسيس متلقي عمارته ومشاهديها. وبغية "تنطيق" معبر، لحدود تلك السطوح الآجرية المتسعة، فانه يسعى وراء تأشير "حافاتها"، عبر استخدام اسلوب مختلف، ومواد مختلفة؛ لبداية الواجهة ونهايتها، ففي حين يجعل من "إزارة" مبناه، المغلف بقطع خرسانية فاتحة، قاعدة متينة يرتكز عليها ثقل المبنى كله، يخلق تطليعة اسمنتية، بسمك خفيف، في أعلى الواجهة، تبرز بقوة عن مستوى وجه السطح الآجري،يتوخى بها "حصر" مفردات التكوين الواجهاتي وغلقها، من خلال الظلال القوية التي تصنعها تلك التطليعة، كما انه، ولزيادة الاحساس بـأهمية "قفلته" التكوينية، يفتح "شريطا" من النوافذ العلوية، على جانبي الواجهة، يستفيد منه، اولاً، في إضاءة الحيز الداخلي، ويوظف وجوده، تالياً، في تأكيد حضور تلك "القفلة"، لا يترك المصمم متلقي عمارته في شك، عن طبيعة نوعية Typology مبناه، ووظيفته العامة، فالتطليعة الأفقية الجريئة التي تغطي منطقة المدخل الرئيس، (وهي بالمناسبة عنصر تكويني جديد، وقتذاك، ما انفكت، تعــد إحدى مفردات معجم عمارة الحداثة، منذ ان أعاد "اختراعها" لو كوربوزيه، واستعملها لأول مرة في "فيلا كارش"<1922>، وباتت العنصر الأكثر شيوعا في تطبيقات عمارة الثلاثينات) وما تعمله من ظلال كثيفة، واشكال المدرجات في كلا الجانبين، التي تقود نحو المدخل، بالاضافة الى القطع النحتية الموضوعة على طرفيه؛ كلها وغيرها من المعالجات، تشي بعمومية وظيفة المبنى، وتعزز فكرة طابعه العام. تغلب المسحة "التماثلية"على المعالجة التكوينية لعمارة المبنى. (هي التي نأى عن استخدامها معماريو الحداثة، مبررين ذلك بعدم الوقوع في "حبائل" الكلاسيكية!) بيد ان مصمم النادي ومن اجل التقليل من حدة تأثيرات "السمترية" إياها، الواضحة والقوية، يلجأ الى توظيف سواري الأعلام ، ليعلق عليها الرايات الرياضية، التي بحركتها و"رفرفتها" تمنح واجهته نوعا من الحركة المفعمة بالحيوية، والدالة، في ذات الوقت ،على وظيفة المنشأ الرياضية. عندما كنت في بغداد مؤخراً، سعيت وراء مشاهدة مبنى النادي الاولمبي، وحرصت ان تكون معاينتي له، من الزاوية، التى سبق، في سنة 1939أن اُلتقطـْت منها صورة له، بُعيد إتمام تشييده؛هي التي احتفظ بها، كإحدى وثائق عمارة هذا المبنى. (انشرها مع هذه الحلقة) لكني ماذا رأيت؟ في الحقيقة لم ارَ مبنىً. بدلاً من ذلك، رأيت "هجمة" كاسحة من اللافتات والاعلانات المغطية للمبنى كله: من أسفله الى أعلاه، بصورة فوضوية، لا تنم عن ابسط معايير الذائقة السليمة أو الجمالية، اللتين يفترض ان تكونا متواجدتين في لغة الإعلان أو الملصق: اعلانات لمصارف وهواتف المحمول، بالاضافة الى اعلانات سياسية، وصور لأشخاص بسحنات كالحة، "بعضهم" يرتدي نظارات، وآخرون من دونها، وجدوا "واجهة" المبنى مكاناً مواتياً "لاطلالتهم" علينا، مفسدين متعة النظر لواحد من أجمل المباني البغدادية الحداثية، والمهمة: مهنيا ومعمارياً، فالمبنى بفضلهم "مغيَّّب!" لكن هذا "الغياب"، ليس بمفهومه "التفكيكي"، الذي يؤكد الحضور! وإنما هو في الحقيقة "مقصي" ومبعد عن "المكان"، جراء تلك "الهجمة" الهمجية. وهي ممارسة، مع الاسف، رائجة الآن في شوارع بغداد، تنتهك حرمة مبانيها ، ولهذا يتعين ان تناقش بكثير من الجدّية وان يولى لها الكثير من الاهتمام. انها احدى افرازات الذوق العام المتردي، والثقافة الشعبوية الطاغية، "الممجدة" للابتذال! انها ايضا في الاخير، نتيجة غياب الرقابة، وغياب الوعي بالمسؤولية، التي يفترض، ان يتحلي بها القيمون عليها، اذ كيف يمكن تفسير، موافقة الجهة المسؤولة عن النادي، بالسماح لمثل هذه الممارسة المنافية للذوق العام، المغطية باعلاناتها واجهة المبنى، ولم تتحرك، هي ذاتها، عن ابسط واجباتها بالعناية وترميم المبنى او في الاقل "تصليح" زجاج النوافذ المكسورة، التي ترى بوضوح جنبا الى جنب تلك "المقولات" السمجة الرنانة المكتوبة، التي يتعين علينا تصديق فحواها و"قراءتها" يوميا، بل وكلما عنّ لنا "الالتفات" نحو المبنى وعمارته المميزة! أدرك، جيدا، بأني بإثارتي تلك الاشكالية، لا احد سيعير لها "أذناً" صاغية! اعرف ذلك، لكني مع هذا، سوف اظل"انفخ" في تلك "القربة المثقوبة"، ومع آخرين، آخرين كثر، تهمهم، جميعاً، جمالية بغداد، وعمارة بغداد، ومباني بغداد، عسى، في الأخير، أن نصل الى نتيجة مرضية، يحتم الوصول اليها، أداء "المثقف العضوي"، الذي يُملي على ضمائرنا تحمل تلك المسؤولية! والمعمار أحمد مختار إبراهيم، مصمم النادي الاولمبى، ما فتئ غير معروف للكثير من المثقفين العراقيين، وحتى لبعض المهنيين منهم، برغم اشارتنا بانه "المعمار العراقي الاول". وقد سبق وان صمم فندقاً على ساحة حافظ القاضي في بداية الاربعينات. واتخذت امانة بغداد، لاحقاً، المعايير التى اتبعها في توقيع وتصميم مفرداته، معايير واجبة الالتزام للبناء في الشارع البغدادي المهم، كما انه شارك في تصميم جناح العراق في معرض باريس الدولي سنة 1937 بالاضافة الى "دارته" السكنية (1938)، في بارك السعدون. ويقال بانه مصمم "فندق تايكرس بالاس" في شارع الرشيد، (وإن أبديت شكوكا في مصداقية تلك المعلومة). والمؤمل ان ينال اهتماما، يليق بمكانته ومنجزه التصميمي، من قبل الوسط الاكاديمي، الذي اناشده بالقيام في هذه المهمة التي هو أهل لها. توفي احمد مختار ابراهيم في سنة 1958، اثر حادث مأساوي وغير متوقع: ففي احدى زياراته الى منتجعات سويسرا للعلاج (كان يعاني من آثار مرض التدرن الرئوي)، انقطع فجأة، سلك المصعد الذي كان يستخدمه، وسقط به من عـل ٍ.. ومات اثر ذلك! |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ د. خالد السلطاني
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|