«الحرف والغراب» (الدار العربية للعلوم ناشرون) عنوان المجموعة الأخيرة للشاعر العراقي أديب كمال الدين (المقيم في استراليا)، وفيها يتابع تساؤلاته حول تيمة أساسية في شعره، وهي الموت. حول الكتاب كان هذا اللقاء.
- بدأت النشر عام 1976 تقريبا، وقد صدرت لك مؤخراً مجموعة جديدة بعنوان «الحرف والغراب»، اليوم وبعد هذه التجربة الطويلة نسبيا، إلى أين أودت بك الكتابة؟ ^ نعم. صدرت مجموعتي الأولى «تفاصيل» عام 1976، وهذا يعني أنني أنفقتُ أربعين عاماً بالتمام والكمال في حرفة الأدب! أما إلى أين أدّت بي الكتابة، فأقول: إنني كنتُ أتوقع - وبخاصة في البداية - أنّ الشعر سيمنحني شيئاً خطيراً، وأنّه قادر على تغيير المجتمع الإنساني. كنتُ كثير التفاؤل، مؤمناً بقوة الكلمة الأسطوريّة لخلق المجتمع الذي تقوده قيم الجمال والعدل. لكنني اكتشفتُ - وكان ذلك مبكراً أيضاً - أنّ الشعر لا يستطيع أن يفعل الكثير، وأنّ دور الشاعر سُرِقَت منه فاعليته لصالح الإعلامي والصحافي والتلفازي والسينمائي والإذاعي والسياسي والحزبي... الخ! وهكذا فإنّ كلّ ما أعطاني الشعر في نهاية الأمر كان اسماً أدبياً، و15 مجموعة شعرية باللغتين العربية والإنكليزية، وكتابات نقدية قدّمت لي وميضاً في أن تجربتي الكتابية وجدت لها صدى عند النقّاد والقرّاء. كما تُرجمت قصائدي إلى لغات عدّة. لكنّ الشيء الأهم هو أنّ الشعر ولّد في أعماقي ولم يزل جذوةَ السؤال: السؤال الروحي والفكري والوجودي! وأظن أنّ في هذا بعض العزاء! - أنت الآن في استراليا، وأصبحت مواطنا، ماذا بقي عندك من العراق؟ ^ لم أزل عراقياً تماماً! فالمسألة ليست في أن تحمل جنسية بلد ما أو تكتب أو تنشر الكتب بلغته، إذ نشرتُ مجموعتين بالإنكليزية «أبوّة» عام 2009 و«ثمّة خطأ» عام 2012، وحققتُ نجاحات في ذلك حيث أُختيرت قصيدتي (أرق) واحدة من أفضل القصائد الأسترالية عام 2007، وكذا الحال مع قصيدتي (ثمّة خطأ) عام 2012. مثلما كتب النقّاد الأستراليون عنهما بمحبّة. ليس هذا يا صديقي. أنا في داخلي متصوّف وملتزم بهذا التصوّف وسلوكه الصارم على مدار الساعة. والتصوّف عراقي عربي إسلامي! وهكذا تحت قميص الجينز الذي أرتديه ستجد خرقة الصوفيّ! وخرقة الصوفيّة (صناعة) بغدادية عراقية عربية إسلامية، هي بعبارة أخرى: (صناعة) حلّاجية جُنيدية نُفّريّة، وهي قبل ذلك بالطبع (صناعة) محمدية علوية حسينية. - هل تأثرت قصيدتك بالمكان الجديد؟ ^ جداً! المكان الجديد مدهش وعبادة الدولار هنا على أشدّها! والمكان هنا مذهل لأنه ابن البحر والبحر هنا محيط، وحين تطير بك الطائرة من أستراليا إلى أيّ مكان في العالم ستجد البحر وقد أحاط بك كما يحيط الجنود بمجنون أعزل! فأستراليا جزيرة هائلة وقارّة عجيبة. ثم إن هناك 248 قومية تعيش فيها ضمن قانون صارم، والرقم هذا رسمي ولا مبالغة! والحرية مخيفة: حرية الجسد وتقديسه حدّ الخطورة المهلكة لمن لا يعرف كيف يأخذ الأشياء بـ(جرعات) صغيرة كالدواء! فكيف تريد لقصيدتي أن لا تتأثر بمكان رأسمالي جغرافي بشري اجتماعي كهذا، مكان يختلف عن العراق جملةً وتفصيلاً؟
تيمة الموت
- ثمّة موضوعة (تيمة) كبيرة تعمل عليها في مجموعتك الأخيرة (وهي حاضرة في مجموعات سابقة) وهي الموت. أي سر تحاول اكتشافه عنه عبر الكتابة؟ ^ نعم إنّ الموت هو الحرف الأعظم. إنّه الحرف الذي لا يسبقه حرف ولا يدانيه حرف. وكشاعر اتخذ الحرفَ وسيلةً فنيةً وروحيةً حتى صرتُ بفضل ذلك أدعى بـ(الحروفيّ)، أقول: إنّ الحرف والحروفية، بل الشعر والشعرية، إنما هي احتجاج على الموت وتنديد به، ومحاولة للالتفاف عليه وتحجيمه وتخفيف سطوته وعنجهيته وعبثيته. ولعلّ اهتمامي بالموت ليس عائداً إلى أسباب فلسفية وروحية وفنية فقط بل لإنني مررتُ بلقاءات مباشرة وغير مباشرة مع الموت، وقد تركتْ في روحي أثراً لا يمّحي. وسأذكر لك بعضاً منها. ففي طفولتي عشتُ تحت رعاية جدّتي وهي امرأة صالحة رحمها الله. كانت تحبّ زيارة قبور الأئمة والأولياء وبخاصة زيارة ضريح الإمام علي في النجف. ومعروف أن في النجف أكبر مقبرة بشرية في العالم هي مقبرة السلام. فكان مشهد آلاف القبور المتناثرة على صحراء النجف الشاسعة، ومشهد الجنائز التي لا تتوقف عن الوصول إلى المدينة، ومشهد النساء المتشحات بالسواد والنائحات على أمواتهن، كلّ هذه المشاهد العجيبة والمخيفة قد تركت فيّ، وأنا لم أزل طفلاً صغيراً، أسئلةً كثيرةً ومفزعةً عمّا يحدث هناك، عن الموت: هذا القاتل الغامض السريّ الذي يحصد الناس حصداً. ثم إنّ في النجف قبوراً عجيبة من حيث الهندسة والبناء والتصميم وبعضها موجود في سراديب كبيرة تحت الإرض. بل إن بعضها مدفون في بيوت النجفيين. وقد هالني وأنا طفل أن أرى القبور وسط البيوت والناس من حولها - أعني الأحياء - يأكلون ويشربون ويمارسون كلّ شيء بصورة طبيعية! وفي صباي مررتُ بتجربة موت قاسية. فقد توفي والدي رحمه الله بين يدي وأنا في السنة الرابعة عشرة من العمر، ولم يكن هناك أحد في الدار سواي. ورغم أنه أسلم الروح بهدوء عجيب - إذ عانى من الشلل النصفي لثلاث سنوات وكان يتمنى الموت كلّ يوم - فإنني ذهلتُ لما حدث، ولم تهبط الدمعة من عينيّ الاّ بعد شهور. لم ينطق الرجل بكلمة واحدة البتة. لم يقل وداعاً حتّى. نظر إلى عيني فقط وهو مضطجع على الفراش وأسلم الروح. وفي شبابي التقيتُ بقتلى الحرب: الحرب العراقية الإيرانية. وكان مشهد القتلى المحمولين بالعشرات بل بالمئات بل بالألوف - حين يشتد أوارها - يمزّقني من الأعماق. كان الموت نشطاً جداً في حصد الرؤوس، رؤوس الشباب من الجنود العراقيين ومن الإيرانيين أيضاً. لماذا؟ كانت الأبواق الإعلامية العراقية تصوّر الحرب نزهةً! وتصورها انتصاراً تاريخياً! وكان عليّ أن أصف الموت وأتعايش معه - فأنا جندي أيضاً - وأخفي ملامحه في قصائدي لتستطيع القصيدة أن ترى بصيصاً من النور في زمن البروباغندا الشريرة التي استمرت شديدة الصخب في حرب عبثية ما بين (1980- 1988) لتنتهي الحرب بصيغة لا غالب ولا مغلوب. والحقيقة الصارخة كانت تقول بخسارة البلدين خسارة هائلة، إذ مات الملايين من الجنود وأهدرت المليارات من الدولارات لشراء الأسلحة الفتّاكة. وإذ خرجتُ من الحرب سليمَ الجسد لكنّ شيئاً ما قد مات في داخلي! لقد مات شبابي، إذ أنفقت عشر سنوات من أجمل سنوات عمري في مؤسسة الجيش الغبية وحرب العبث الأغبى هذه! - غالبا ما نشعر عند قراءة هذه المجموعة كأنها تشكل «استعادة» للكثير من المواضيع التي عملت عليها، لن أتحدث عن خلاصة التجربة، لكن ما الذي دفعك إلى إعادة التفكير بها مجددا؟ ^ نعم المواضيع واحدة. إنها السؤال الإنســاني الكبــير عن الحياة ولغزيتها والموت وحياته الداخلية السرّية، وهي الحبّ وانحطاطه في عملية التبادل السلعي الرأسمالي، وهي الغربة وتفاصيلها التــي لا تكفّ عن التناســل. لكنّ تنــاولها من الناحية الفنية يختلف جذرياً من مجموعة إلى أخرى وإن بقي الحرف هو المتسيّد فيها كشخصية ذات روح وجسد. بقي الحرف حاضراً فتوجّب عليّ أن أستجلي مستوياته وهي برأيي: التشكيلية والروحية والتراثية والطفولية والسحرية والدلالية والترميزية والخارقية والطلسمية والأسطورية والإيقاعية والقناعية. وهذا أمر لابد أن يتحقق فشاعر ينفق أربعين عاماً في الكتابة الشعرية، لابد من أن تكون له بعد كل هذه السنين الطوال مواضيع أثيرة ولابد أن يمتلك قاموسه الشعري الخاص به ولابد أن يمتلك أسلوبه الذي ينتمي إليه في بناء القصيدة ونمّوها العضوي. |