|
|
حوار مع والدي بمناسبة صدور كتابه (الجواهري بلسانه وبقلمي) |
|
|
|
|
تاريخ النشر
01/06/2013 06:00 AM
|
|
|
ليلة أمس ترآى لي أبي بعد غياب طويل وسألني سؤاله التقليدي باللهجة العراقية "شكو ماكو؟" أجبته يا أبي لدي الكثير مما أريد أن أحكي لك. هل تصدق أنني قرأت قبل أيام في الشبكة العنكبوتية أن كتابك "الجواهري بلسانه وبقلمي" قد رأى النور أخيراً ... نعم، بعد كل هذه السنين وكما حلمتَ، أن يُنشر في بغداد التي تركتها قبل أربعين عاماً. نشرته دار ميزوبوتاميا لصاحبها مازن لطيف وضمن مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013 ولقد كتب المقدمة صديقك الأستاذ شموئيل موريه. ولقد أرسلنا النسخة المطبوعة لمازن بالبريد الإلكتروني. وهنا قاطعني أبي قائلا": يا ولدي ما عهدتك أن تستهزأ بي. أنا لا افهم ما تقول. شنو شبكة عنكبوتية، بريد إلكتروني ؟ كتاب الجواهري تركته مخطوطاً وأنت تقول لي الآن طُبع في بغداد . سامي... أستاذ الأدب العربي في الجامعة العبرية كتب المقدمة! منو مازن لطيف، إنني لا اذكر سمعت به.. وبدأ يضحك. ثم قال "شجاب واحد على اللاخ" و باللهجة اليهودية العراقية التي نادراً سمعناه يتكلم بها – أشقتخربط، أشقتلغوص؟ (مشتقة من كلمتي خربطة ولغوصة) ابتسمت وقلت تعذرني يا أبي نسيت انه لم يكن في زمانك شبكة عنكبوتية أو بريد إلكتروني– دعنا من هذا مؤقتاً وسوف اشرح لك اذا اتسح الوقت. لدي الكثير مما أريد أن احكي لك عن الكتاب، عن عراقك الحبيب وما جرى ويجري له. قال إنني أذن صاغية. ولكن كما تعرفني سوف أقاطعك وأسألك كما سألت الجواهري حينه أسئلة عميقة. ابدأ يا ولدي: قلت لا ادري من أين ابدأ وانا لم أراك منذ سنين. سأرجع سنين للوراء. أتعلم يا والدي كم كانت رغبتنا نحن العائلة أن نحقق حلمك في أن ينشر كتابك المهم عن الجواهري الذي أكملته قبل أن تركت العراق. وهنا قاطعني قائلاً: لماذا تقول تركت العراق؟ قل أضررت إلى الخروج من العراق. أنت تعرف كم عانيت من الاضطهاد وكم من مرة دخلت السجون ولم أترك! أنت تعلم إنني لم أهاجر مع أغلبية يهود العراق في أوائل الخمسينيات. بقيت مع والدتك وأنت ابن العامين. كل عائلتي هاجرت إلى إسرائيل – والدتي، إخوتي، أجدادي، كل أقربائي..... كل العشيرة كما يقولون. كمّل يا بني. قلت يا أبي أننا حافظنا على مسودة الكتاب كأمانة تركتها لنا بخطك الجميل. أنت تعلم كم من الأصدقاء والزملاء من الأدباء والصحفيين من يهود العراق الحوا عليك حين كنت حياً أن ينشر الكتاب وترددت. لقد توفى معظمهم – أنور شاؤل، نعيم طويق، مراد العماري، اسحق بار موشيه، منشي زعرور، أبراهام عوبديا، مئير معلم .....وهنا قاطعني. الله يرحمهم لكن يا ابني، أتعلم لماذا ترددت؟ عندما أنهيت الكتاب في صيف 1973، خشيت أن تعرقل عملية طبع الكتاب استطاعتنا أنا والوالدة الخروج من العراق بعد أن صدرت موافقة وزارة الداخلية أخيراً على منحي جواز سفر. أنت تعلم كم هي كانت صعوبة البقاء في العراق بعد أن أُعدم وقُتل العشرات من اليهود وبعد هجرة بقية الجالية ومن ضمنهم أنت وأختيك كهرمان ونيران. أتذكر إنني قد احتجزت من قبل مخابرات الأمن في سنة 1973 ولو لم يتداركني بعض الأصدقاء وبوساطتهم لألحق بي أذى اكبر؟ لم نتحمل فراقكم ونحن علم اليقين انه سوف لن نلقاكم إلا بالخروج من العراق. كيف نستطيع أن نخوض العذاب ثانية بعد أن فقدنا أهلنا في 1951؟ عندما كتبت هذا الكتاب قبل أربعين عاماً، افصح لي الجواهري من خلال اللقاءات والمراسلات عن الكثير من الحوادث التي مر بها وعن وثائق غير منشورة فضلاً عن قصائد ورسائل خاصة. لقد أخذت مسودة الكتاب معي إلى إسرائيل وهناك فكرت في طباعته ولكني عدلت عن هذا لأسباب عدة منها مراعاتي مما قد يسبب للجواهري من حرج أو حتى أذى وهو على قيد الحياة من إصدار كتاب عنه بقلم كاتب يهودي يعيش في إسرائيل. بالإضافة لعدم وجود وعي شعبي في إسرائيل بأهمية الجواهري ومكانته في الأدب العربي واقتصارها على قلة من الطبقة المثقفة التي تستطيع قراءة الأدب العربي ثم فقدان الاتصال مع العراق والعالم العربي حيث يتواجد جمهور القراء والمهتمين بالجواهري. أذكر كم من المرات طلب مني صديقي شموئيل موريه (سامي معلم) أن يطبع الكتاب برعاية رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق التي يرأسها وحتى بعد مرضي أخبرتني والدتك انه كان عندما يراها يسألها "ها اشصار ويالكتاب؟ فابتسمت ابتسامة عميقة نظر إليها باستغراب ولكنه استمر كمن لا يريد أن تقطع هذه الابتسامة "الغريبة" حبل أفكاره . لقد حتى فكرت أن اطبع الكتاب في لندن ولكن بعد مرضي سنة 1981 أصبح من الصعوبة طباعة المسودة الخطية والإشراف على تنقيحها ثم اختيار المطبعة، الناشر، الخ. أنت تعلم كم إنني حريص على الدقة. عندما كنت رئيس التحرير لصحف كثيرة في العراق ومن ضمنها الرأي العام للجواهري كنت انقح واشرف على كل المقالات والأخبار كي تخرج الجريدة بالصورة الصحيحة . كنت ابقى في المطبعة حتى ساعة متأخرة من الليل لأتأكد أن كل شيء على ما يرام. لم ارجع للبيت قبل الثانية أو الثلاثة صباحا. بالمناسبة هل تعلم أن الجواهري كان كثيراً ينسى أن يكتب المقال الافتتاحي وإرساله للطبع لذا أعطى لي الحق بكتابة المقال الذي ينزل في الجريدة بتوقيع الجواهري !! هكذا كانت الثقة بيننا - كنت استطيع أن اقرأ فكر الجواهري وماذا ينوي أن يقول وأن اكتب المقال بأسلوبه. قلت لقد كتب عن هذا احد معارفك ويظهر انه يعرف العائلة أيضاً ولكننا لا نعرف هويته حيث وقع باسم مستعار "المنسي القانع". ولكن يا أبي سمعت أن الجواهري لم يذكرك في ذكرياته، لماذا؟ فأجاب أتستغرب هذا وكل هذه الحساسية تجاه اليهود؟ ربما لم يرغب في أن يذكر أن رئيس تحرير جريدته الرأي العام كان صحفياً يهودياً. لا تستغرب. أن كامل الجادرجي زعيم الحزب الوطني الديمقراطي لم يذكر أيضا الصحفي الكبير نعيم طويق في مذكراته وكان نعيم احد المقربين له ويكتب مقالاته السياسية لصحافة الحزب. كان الجادرجي يدعوه إلى داره ويكتب معه المذكرات وكذلك زميلي وصديقي مراد العماري لم يُنصف. أتمنى أن يذكرنا وينصفنا التاريخ. ثم فجأة توقف والدي عن الكلام للحظة كمن يريد أن يستذكر شيئا ما وقال لماذا ابتسمتَ عندما تكلمتُ عن شموئيل موريه؟ فأجبته بالقول وحتى بعد وفاتك لم يتوقف عن إلحاحه وتشجيعه أن ننشر الكتاب ونجح أخيراً في إقناعنا. لقد كتب مقدمة "على كيفك" لكتابك، قال فيها: كتب العديد من المؤرخين والأدباء عن حياة شاعر العرب الأكبر، غير أن كتاب "الجواهري بلسانه وبقلمي" للأديب سليم البصون، يعد بحق من اوثق المصادر العلمية عن شاعرية محمد مهدي الجواهري، لان شاعرنا أملاها على صديقه وموضع ثقته وجاره سليم البصون المعروف بأمانته ودقته في التأليف والكتابة والنقل." وتنهج والدي بارتياح وقال: عظيم وبعدين ..... قلت كتب أيضاً معنياً إياك " ولما اخبرني بكتابه الفريد "الجواهري بلسانه وبقلمي"، ألححت عليه بنشره في "سلسلة كتب رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق"، تردد قليلا، إلى أن كان ما كان من مرضه ووفاته، فعاودت اقتراحي بنشره في سلسلة منشوراتنا، وأخيراً بعد مشاورات عديدة فضلنا نشره في بغداد مسقط رأسنا، حسب رغبة كاتبها، لنرد الأمانة إلى الشعب العراقي الكريم، ولنضع بين يديه هدية ثمينة حافظ عليها صديقنا الوفي لتحقيق حلمه. رحم الله صديقي سليم البصون، كم عانى في حنينه إلى العراق الحبيب بالرغم من السجون والاضطهاد الذي عانى منها مع أحرار العراق الأباة." وهنا ابتسم والدي ابتسامة عميقة وقال: والله نعم الصديق. ولكن سؤال قصير – هل كان الإهداء كما كتبته إلى الجواهري وشعب الجواهري؟ فأجبت نعم كما كتبت، ثم استدركت أتعلم يا أبي أن الجواهري توفى ودفن في سوريا وقد نزعت الجنسية العراقية عنه كما نزعت عنا، أن حكم البعث وصدام حسين انتهى قبل عشر سنين ولكن أبناء العراق يقتلون الواحد الآخر والأبرياء يتساقطون بالعشرات يوميا نتيجة التفجيرات. أن الأقليات تهاجر وهناك الملايين من العراقيين في الخارج. وهنا بدا الحزن واليأس على وجهه وقال: أين ذهب الشرفاء والوطنيين؟ أنا في حيرة، كيف وصلنا إلى هذا الدرب؟ فأجبت يا أبي هذا موضوع شائك سيطول فيه الكلام، لنعد للكتاب. وهنا وافق قائلاً أصبت لا أريد أن افتح القرحة. لهذا زمان آخر. ولكن يا خضر. لدي أسئلة كثيرة من قام بطبع مسودة الكتاب؟ من اشرف على التنقيح؟ كيف وصل كتابي إلى العراق؟ ومن هو مازن لطيف؟ ما علاقته؟ –هل يعرفني؟ فأجبته - في سنة 2010 وفي ذكرى وفاتك الخامسة عشر قررنا نحن العائلة أن نقوم بهذه المهمة الصعبة – نشر الكتاب كأحسن وسيلة لأحياء ذكراك. ومن يبدأ هذا المشروع غير ماما (بنت الثمانيات) المفعمة حيوية والتي تعلمت برنامج معالجة الكلمات (بالكومبيوتر) لكي تطبع المسودة - لقد أعطتنا القدوى لنساعد أنا وكهرمان في تنقيح الكتاب وإعداده للنشر واعذرنا عن التقصير اذا حدثت أغلاط. وهنا اعترضني والدي قائلاً شكرا جزيلا لها ولكم وحبيبتي أختك الأفندية نورة (نيران) القاعدة بلندن اشسوت؟ فضحكت وقلت تعلمت على يدك وتمشي على خطاك – هي المسؤولة عن العلاقات الاجتماعية والاتصالات في العراق والشرق الأوسط بل العالم برمته. وهي لها الفضل الرئيسي في نشر الكتاب في العراق وسأحكي لك الحكاية في مختصر وأسالني اذا لم يكن واضح. وهنا جاء الوقت لأتكلم عن مازن لطيف، عن العراق، عن ما حدث في السنين بين وفاة والدي في 1995 والان. أبي لقد حصلت ثورة في عالم الاتصالات والمعلومات والان من الممكن من خلال الكومبيوتر والتلفون أن تتلقى وترسل أي معلومات – رسائل، صور، أفلام، وحتى كتب كاملة خلال ثواني أو دقائق لأي مكان في العالم. تستطيع أن تقرأ جرائدك المفضلة عن طريق ما يسمى الشبكة العنكبوتية الإنترنت وتستطيع أن تكتب وتنشر بدون رقابة. خذها مني كل شيء ممكن. وعدي لك كل مرة تزورني سوف أحدثك عن هذا الموضوع ولديّ الكثير. وهنا ابتسم وقال – بدون رقابة ! كم عانيت منها. قلت هذا احد الأسباب أن الكثير من الباحثين العراقيين الشرفاء أخذوا يكتبون في الصحف الإلكترونية عن دور اليهود البارز في بناء الدولة العراقية في النصف الأول من القرن العشرين وعن إسهامهم الإيجابي في كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وكذلك عن عطائهم في مجالات الأدب والفن والصحافة والقانون. وعلى ذكر الصحافة لقد كتب العديد عنك وقد وصفك البعض كمن رواد الصحافة العراقيين. لقد بدأنا نقرأ التعليقات الإيجابية والذكريات من الزملاء الذين عملوا معك وعرفوك ومن بقى على قيد الحياة هم قلة الآن. وأضفت أن من ابرز الكتّاب والمؤرخين العراقيين الذين أخذوا على عاتقهم أحياء ذكرى يهود العراق هو مازن لطيف (من مواليد 1973 – سنة خروجك من العراق) وقد كتب سيرة حياتك وذكرك في الكثير من مقالاته وفي كتابه الذي صدر حديثاً "دورة القمر القصيرة ليهود العراق ..البزوغ والأُفول في تاريخ العراق الحديث". أختي نيران معروفة جدا في أوساط الجالية العراقية في لندن خلال اهتمامها في السنوات الأخيرة بإحياء فعاليات مختلفة أغلبيتها متعلقة بالعراق وبتراث يهود العراق وظهرت في بعض قنوات التلفزيون العربية. وهي على اتصال مع الكثير من الكتاب العراقيين في العراق وفي دول أخرى ومن ضمنهم مازن لطيف الذي لديه دار للنشر. عندما أعددنا كتابك للطبع عرض علينا مازن أن يأخذ على عاتقه هذه المهمة. ثم جاء بعرض لم نحلم أن يتحقق وهو أن ينشر الكتاب برعاية وزارة الثقافة العراقية من ضمن مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013. أرسلنا لمازن نسخة من الكتاب في نهاية 2012 وقام هو مع رفقائه بإعداد الكتاب وتصميم غلاف جميل جداً. بالإضافة لما كتبتَه ومقدمة شموئيل موريه كتبتُ أنا كلمة عن الكتاب نيابة عن العائلة وسيرة مفصلة عن حياتك بعنوان " لقطات من حياة المرحوم سليم البصون (خلد الله ذكراه) وتفاعلها مع الصحافة والسياسة في عراق القرن العشرين" . وقد تضمنت كلمتي ذكرياتي معك ومع الجواهري - " كانت علاقة والدي مع الجواهري حميمة، في الفترة التي رافقه فيها في الصحافة وخاصة جريدة الراي العام والتي كان والدي رئيس التحرير الفعلي لها. اذكر زياراتي العديدة لوالدي في المكتب والمطبعة ورؤيتي للجواهري. أذكرها كأنها حدثت البارحة .اذكر الصور الكثيرة للجواهري مع والدي والتي أحرقناها مع المئات من الصور الأخرى بعد انقلاب 8 شباط 1963.لا نعلم كم من المثقفين والباحثين دارين بهذه العلاقة - لعل نشر هذا الكتاب يضع اسم البصون في مكانه اللائق في حياة الجواهري." لقد تمت كل التنقيحات بالاتصالات الإلكترونية الآنية – يعني في دقائق ممكن إرسال واستلام الكتاب مع التنقيحات من وإلى أي مكان في العالم. هكذا وصل الكتاب إلى مازن في بغداد ليعد ويصمم في دمشق ويطبع في بيروت ويوزع من قبله في العراق و الدول العربية والعالم – هذا عالم أخر ليس العالم الذي تركته. لقد تعهد مازن لنا أن يرسل كتابك للمثقفين وللجامعات وكذلك سيعرض في المعارض الثقافية. سوف نرسل نحن العائلة نسخ إلى أصدقائك والى العديد من أستاذة الأدب العربي. هكذا يا أبي رأى كتابك النور. وهنا ابتسم والدي ابتسامته العريضة التي عهدتها في صغري وقال الف والف شكر لمازن والوزارة. كم هي مفارقات القدر – أن ينشر الكتاب من قبل مازن ابن الأربعين بعد أربعين عاماً من كتابة الكتاب وخروجي من العراق وبرعاية وزارة الثقافة – أتعلم أنني تحدثت حينذاك مع أصدقائي في الوزارة وكانت لهم الرغبة في أن ينشروا الكتاب!!؟ وهنا بدأ والدي يبتعد باتجاه نهر تحيطه النخيل وهو ينشد: "حيّيْتُ سفحكِ من بُعد فحييني يا دجلة الخير يا أم البساتين". ووجدت نفسي اصرخ : بابا بابا وين انت رايح عندي الكثير لأحكي لك. فسمعته يقول بعدين بعدين، في لقاء آخر، عندي جلسة نقاش مع الأصدقاء. وعدي أن أزورك ثانية وثلاث. وهنا أحسست بنغزة حادة في جنبي وزوجتي تقول بلغتها ما معناه: ديفيد ديفيد، لماذا تصرخ بالعربي في نصف الليل هل هو كابوس؟ فقلت لها لا كان حلم جميل – خضر يقص حكاية لأبيه. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ د. خضر سليم البصون
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|