|
|
كمَن يحصي ذرّات الرمل في ساعته |
|
|
|
|
تاريخ النشر
26/05/2013 06:00 AM
|
|
|
"خسرنا ساعة. أين أختفت؟"، "ربحنا ساعة. علينا أن نملأها". صار التوقيت الرسمي يلهو بنا بين فصول السنة، فنكرر بإشفاق جملتينا الحائرتين. أكان ضروريا أن نخترع لتلفّتنا إلى الوراء مقياساً يسخر من صبواتنا ويسمّي نزقنا المترف طيشاً، ولهونا فجوراً؟ هناك في الخفاء من يضبط ساعته على دموعنا وضحكاتنا. على خبثنا ووداعتنا. نقول "مضى الوقت" ونحن نعرف أن الوقت يُقبل أيضاً. إلى أين يمضي الوقت ومن أين يُقبل؟ أللوقت وقتٌ، هو الآخر؟ لن يكون معدّل العمر البشري ملزما لأحد. ينقص ذلك المعدل في مكان ويزيد في مكان آخر. نوح عاش حوالى ألف سنة. هل كانت السنة التي نعرفها الآن قد اختُرعت يوم عاش نبي المياه؟ ربما لم تكن السنة في العصر الذي عاش فيه نوح إلا بضعة أشهر مما نعدّ الآن. ربما كان ليله ونهاره أقصر من نهارنا وليلنا الحاليين. عن أيّ نهار وأيّ ليل أتحدث؟ ليلي الشخصي في القطب لا نهار له، كذلك فإن نهاري حين يحل لا ليل له. أغمض عينيّ على نجمة تظلّ ساهرة على مواعيدي التي تبتسم في العتمة. عرف امرؤ القيس ذلك الليل الطويل وهو الذي لم يغادر اليمن ليكون لاجئاً في فنلندا. صديقي الرسّام السوري مصطفى الياسين المقيم الآن في النروج، لا يسأل ليله الشخصي أن ينجلي، حين تغزوه رائحة الياسمين الدمشقي في منفاه. لحظات كما لو أنها العشرون سنة التي أمضاها في حمص محاطا بأخواته السبع. يظهر نوح في القصص المصورة شيخاً، تكاد لحيته أن تصل إلى ركبتيه. أكان في إمكان شيخ أن يبني السفينة التي ستنقذ الجنس البشري من الموت غرقاً؟ الحكمة ليست هنا. كان ابنه قد وقف على الجبل وقال له متحدياً: "سأنجو". صديقي الياسين ذهب أولا إلى فنلندا لينجو، غير أنه بعد عشرين سنة اكتشف أن عليه أن يمشي أبعد لينجو، فاختار المدينة التي كان يقيم فيها ادوارد مونخ مأوى له. كان الرسام النروجي قد مات ضجراً هناك. لقد صرت أبكي من أجله. صرخة مونخ تسللت إلى روح صديقي الآهلة بنساء سوريات صارت وجوههن تختفي وراء حجب من دخان بنادق الأخوة الأعداء. سام، حام، يافث، الثلاثة أبناء نوح. مَن منهم اعتلى الجبل ملوِّحاً بفكرة نجاته؟ سيكون ذلك الشاب هو الناجي الأبدي. لقد نجا بصيحته، مثل الكائن الذي أرسله مونخ بصيحته إلى الأبدية. يعيش الأسوجيون الآن عمراً مديداً، أكثر مما يعيشه الهنود والأفارقة واليمنيون والبلاشفة الروس، لكنه عمر يقع خارج المعنى. هل مر الزمن؟ كيف؟ كنا ننزلق بهدوء إلى وادٍ لا زرع فيه، إلى الضحكة التي فقدت أسنانها. إلى النظرة التي تخلو من اللمعان. فيما أمارس هوايتي في المشي، أمرّ يومياً بدار كبيرة مخصصة لإيواء كبار السنّ. هي نموذج معماري يتكرر في كل المدن والبلدات الأسوجية. من الخارج يبدو المشهد خلاّباً بترفه، رخياً بهدوئه، لكن صمتاً عميقاً يجعلني أشعر بخواء هندسة ذلك المشهد الخيالية. بعذابات بشر يقعون كل لحظة خارج الخدمة. لا أقصد العمل اليومي المباشر، بل التواصل مع صفاتهم الإنسانية، مع حقيقتهم التي تركوها في مطابخ بيوتهم الريفية، على رفوف مكتباتهم، في المسافة التي تفصل بين صورة وأخرى من صورهم المعلّقة على الجدران. إنهم كائنات فائضة بقوّة اللغة. لا كلمات تصل بينهم وبين الآخرين. إنهم يقيمون في الفواصل الساكنة، في الهمزة المضطربة. في الإجازات أراهم يجلسون في الحديقة محاطين بشباب هم أبناؤهم، وبأطفال يلعبون بعيداً هم أحفادهم. فجأةً يفرغ المكان. يبقى كبار السنّ وحدهم ينصتون إلى الزقزقة من غير أن يلتفتوا إليها. هل نجوت؟ لم تسألني المرأة التي رأيتها تعبر جسر المدينة حاملةً على ظهرها المحدودب أكثر من مئة سنة. كانت طفلة يوم امتلأت أشرعة سفينة نوح هواء. "لم يكن هناك مكان للأطفال"، قالت لي ضاحكةً. عشت لأروي. هناك الفكرة التي تحرر الزمن من عقدته الفلكية لتلقي به بين يدي ماركيز الساحرتين. الرواية تقترح وظيفة أخرى للحياة. نحن نعيش لكي نخزن حكايات من شأنها أن تكون مادة لحياة متخيلة. حياة لم يعشها أحد، غير اننا كنا نتمنى لو عشناها. لكن المرء يعيش حياة واحدة، تكون دائماً هي الأقل أهمية من حيواته التي لم يعشها حقاً. عشر سنين في حياة فنسنت سبقتها سبع وعشرون سنة فائضة. "بعدها سيحل الحزن"، قال لأخيه تيو. كم عاش الشاعر الفرنسي أرثور رامبو من العمر صامتاً ومذلاً بعدما كتب روائعه قبل أن يصل إلى العشرين من عمره؟ لا أحد في إمكانه أن يتخيل فنسنت أو رامبو وهما شيخان يقيمان في دار لكبار السن؟ ما الذي سيفعلانه هناك؟ إنه مصير سيئ يعيشه حول العالم ملايين البشر ممن أطالت الحياة المعاصرة في أعمارهم، من غير أن تكون لتلك الإطالة أي قيمة تذكر. كان نوح بحسب الحكاية الدينية ينتظر الطوفان ليمارس نبوته وينقذ البشرية. هل أنقذها حقاً؟ أمضى الرجل عمره الطويل وهو يبني سفينته. وهي التي ستنقل كل ما ورثناه من صفات وأخلاق وقيم وأشكال ومعان وأفكار ونبوءات وعلاقات ونزعات وشهوات ومكائد وخرائط وأفكار وأساطير. أما كان ممكناً أن نكون في خلق جديد لو أن نوحاً لم يكمل بناء سفينته قبل وقوع الطوفان؟ كان الشاعر محمد مهدي الجواهري ممتنّا للعاصمة التشيكية براغ: "أطلت الشوط من عمري/ أطال الله من عمرك". عاش الرجل قرناً كاملاً بمتعة من يحمل جبلاً من الأسى العراقي ليكون مادةً لرقته، لتمرده، لشغفه بالجمال. كل يوم مضاف كان بالنسبة إليه مناسبةً للحب، للغضب، للكلام والشرب العابثين، للضحك من ماضيه السياسي. لم يستعمل ذاكرته إلا لكي يقيس المسافة بين ضفّتَي النهر. كان لديه ما يفعله، ما يتأمله، ما يقوله دائماً. هل كان مهتماً بمعنى حياته؟ أشكّ في ذلك. لقد تعلّم الدرس جيداً، بالطريقة ذاتها التي حرص سعيد عقل على تعلمها، وهو العاشق الذي لا يزال يقف في باب المدرسة الثانوية في انتظار فتاته. حمامته حطّت هناك بعد طوفان لغته، التي صار معدل الماء ينقص ويزيد في سيقانها، من غير أن يخدش خضرتها. مثل يافث (هل كان يافث هو ذلك الإبن العاصي؟) لم تغرهما فكرة النجاة الجماعية. سعيد عقل ومن قبله الجواهري نجوَا في الشعر، من خلاله، ولم يركبا السفينة. كانا وحيدين ولم يضجرا. عمرهما الأرضي كان طويلاً، غير انني متأكد من أن الجواهري على سبيل المثال وقد التقيته وهو في السبعين من عمره، كان يتمنى لو أنه عاش قرناً آخر. بالنسبة إلى عقل فإن شبحه سيظل مقيماً في عيون فتيات المدارس النضرات. أهناك مجد أعظم؟ قبل الحروب، قبل المجاعات، قبل انتظار الأمهات، كان الخطاطون يكتبون على شواهد القبور المرمرية أبياتاً ساذجة تقول: "يا قارئ كتابي/ أبك على شبابي/ بالأمس قد كنت حيا، واليوم تحت التراب". كنا نمرّ. نقرأ ونضحك. شبابنا كان يضحك. ثيابنا كانت تتثاءب بين ضحكتين. حين صرنا ننقص، صار شبابنا يرتجف هلعاً، وارتمت ثيابنا تحت المكواة. صرنا نقول: "لم يعش ما يكفي"، حين يختفي واحد منا إلى الأبد. ما معنى "ما يكفي" تلك؟ كنا نقصد الكتابة باعتبارنا أصحاب مهنة. لم يكن يخطر في بالنا أن صديقنا الميت قد قال كل ما لديه قبل أن يطوى كتابه ويرحل. أفكر في النهايات الابداعية الرثة لعدد كبير من الرسّامين والشعراء والروائيين العرب. لو أنهم ماتوا مبكرين لاحتفظوا ببعض بريق ما فعلوه في شبابهم. لقد عاشوا أكثر مما ينبغي. عام 1972 انتحر ابرهيم زاير في بيروت. بعدها صار زاير بالنسبة إلى أجيال من الأدباء والرسّامين العراقيين أيقونة لا تُمس. لم يبك أحد على شبابه الذي أنتج قصائد وتخطيطات لم يعد يتذكرها الآن أحد. كان الرجل موفقاً في انتحاره. أتذكر أن رعد عبد القادر الذي توفي عام 2004 قال لي قبل أن أغادر العراق، منتصف التسعينات: "لقد كتبت ما أريد". كان ضجره بالحياة لا يطاق. دع البلبل يتعجب. كتابه الشعري كان بالنسبة إليه هو الأخير. كانت لديه في وقت سابق سنة كبيسة للتأمل. في دمشق التقيت والدي بعد عقدين من الفراق. كان محطّم الجسد. غير أنني لم أكفّ ونحن نمشي في شارع مدحت باشا عن الالتفات إلى الوراء متمنياً أن أرى الطفل الذي كان يتبع أبي، ذلك الطفل الذي كنته. بعد الطوفان ما من ذكر لنوح (اوتونابشتم في ملحمة غلغامش). لقد استقرت سفينته على الجودي فاختفى. أنجز النبي مهمته وتركنا حائرين نمشي بين دروب المتاهة. لا نسأل ليلنا الطويل عن نهاره ونحن ننظر إلى الساعة في انتظار عصافيرها. هناك زقزقة تخرج من الجدار لتزيّن الحائط بخضرتها. قريباً من بيت كافكا في براغ، تقع كنيسة يلتم السائحون حول أحد ابراجها في بداية كل ساعة ليبتهجوا بمرأى دمى لقديسين وملائكة تظهر في أعلى ذلك البرج مع الدقّات معلنةً انقضاء ساعة من اليوم وهي تدور حول البرج بمرح. حين خرجتُ من بيت كافكا وكنت مسكوناً به، سمعتُ دقّات تلك الساعة فأسرعت، غير أن قوة لا إرادية صارت تنحرف بي بعيداً. كان كافكا يهمس في أذني: "وقت الألم لم يحن بعد". حين نظرت إلى الساعة في معصمي سمعته يضحك. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ فاروق يوسف
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|