لم ينفصل المشهد الثقافي في العراق طيلة عشر سنوات من عمر التغيير منذ عام 2003 عن متغيرات واضطرابات المشهد السياسي العام في البلاد، بما فيها التحولات السياسية السريعة التي رافقها اختلال الانسجام الاجتماعي وتعقد الملفات العقائدية، والتخندق الفئوي وبروز ظاهرة المثقف الطائفي الذي سار مع موجة العنف السياسي والطائفي بخط واضح، مما أساء إلى الهوية الثقافية العراقية، بحسب آراء مثقفين عراقيين وصفوا في أحاديثهم لـ«الشرق الأوسط» أحوال الثقافة في العراق بعد عشر سنوات من عمر التغيير، وتحدثوا عن نظرة المثقف العراقي لواقعه الحالي، والتغيرات الحاصلة بالنسبة لحرية الكتابة والتعبير، وهل امتلك المثقف هذه الحرية فعلا، وكيف تعاملت المؤسسات الثقافية الرسمية في «العراق الجديد» ومن ضمنها وزارة الثقافة العراقية مع المثقف، وعلاقة المثقف بها من جهة أخرى.
يرى الناقد فاضل ثامر، رئيس الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين، أن «عملية التغيير السياسي في العراق كانت فاصلا مهما في تاريخ العراق الحديث، لكن هذا التغيير لم يستطع تنظيم العملية السياسية، إذ لم يكترث الاحتلال الأميركي بتشكيل نظام ديمقراطي حقيقي، لهذا شهد العراق سنوات من الاضطرابات والفوضى الناجمتين عن انفلات أمني كبير وتشكيل قوى عنف وميليشيات وأحزاب تتصرف على هواها بعيدا عن الدولة والقانون، وفي مثل مناخ مضطرب كهذا وجد المثقف العراقي نفسه أسير وضع معقد للغاية، فهو في الوقت الذي استبشر بسقوط النظام الديكتاتوري وامتلاكه هامشا من الحرية، وجد ظروفا في غاية التعقيد عبر وجود سلطة الاحتلال من جهة، والصراع الطائفي من جهة ثانية، وإملاءات السلطات الحاكمة وقتها من جهة ثالثة، أو القوة المتطرفة فيها».
ويضيف ثامر: «مع كل ذلك حاول المثقف العراقي الانشغال بتأسيس مشروع ثقافي ووطني جديد بعيدا عن تراكمات الفاشية السابقة وعن ضغوط وإملاءات سلطة الاحتلال والقوى المتطرفة، ونجحت الحركة الثقافية بشكل عام في أن تنأى بنفسها عن الركض وراء المكاسب والمغانم، وركزت جهودها لأجل بناء ثقافة وطنية ديمقراطية وتقدمية في المحتوى، لكن هذا النوع من الثقافة الجديدة لم يجد رضا وقبولا من قبل المؤسسات الثقافية الرسمية، وكانت النتيجة أنها أهملت المشروع الثقافي لأنها عجزت عن تطويعه لخدمة مصالحها الخاصة.
وختم ثامر كلامه بالقول: «بعد عشر سنوات من عمر التغيير يمكننا القول إن الثقافة العراقية أثبتت إمكانياتها الذاتية في خلق نماذج جديدة في مجال الشعر والرواية والنقد الأدبي، وبشكل خاص في مجال الدراسات الاجتماعية والفكرية والثقافية والتراجم، لأن المثقف العراقي يمتاز بطاقات كبيرة وإبداع متواصل، إذ إنه استطاع عبر تلك السنوات نشر المئات من الكتب وإصدار العشرات من المجلات والصحف، والمشاركة في المؤتمرات العربية والعالمية وأثبت حضوره في كل المحافل. والأهم من ذلك كله أنها استطاعت الوقوف موقفا رافضا لسيطرة الحكام، عبر المطالبة بإخراج وزارة الثقافة العراقية من المحاصصة الطائفية، ولم تنسحب أمام إغراءات الآخرين، والخوض في شعارات المقاومة التي أثبتت أنها أحد نوعين، إما بقايا النظام الديكتاتوري المخابراتي الفاشي وإما من القوى التكفيرية في تنظيم القاعدة».
أما الناقد والباحث علي حسن فواز فقال: «إن مجمل الوقائع الثقافية العراقية انكشفت في لحظة ما بعد الاحتلال الأميركي على زمن سياسي وثقافي مفارق تماما، إذ وجد المثقف نفسه مباشرة ودون سرديات كبرى أمام عدوه الافتراضي القديم، وهو يحتل أرضه، وأمام متاهة انهيار السلطة والمؤسسات والخنادق، وأمام رعب الشارع وهو يتحول إلى ساحة لمعارك لم يألفها».
ويضيف فواز: «المثقف العراقي لم يتعود العيش أمام الفراغ، أمام تفكك لحظة وجوده العارمة، لذا ظل هذا المثقف مأخوذا بالفرجة والقلق والخوف والانتظار وسحر الحرية التي لم يستعملها. وحتى اصطناعه لبعض الممارسات هنا أو هناك كانت تعبيرا عن الإحساس بالحاجة إلى اطمئنانات طارئة. وبعد مرور عشر سنوات على انهيار السلطة القديمة عبر الاحتلال الأجنبي، تثار الكثير من الأسئلة، خصوصا تلك التي تتعلق بقدرة المثقف العراقي على التعبير عن هويته، وعن مناطق اشتغاله الجديدة، وعن إمكانيته في مواجهة تداعيات هذه المرحلة المعقدة بكل تحولاتها ومعطياتها وأسئلتها، ومنها ما يتعلق بوجوده وحريته، ورؤيته للعالم من حوله، بدءا من السلطة، والهوية، وانتهاء بعلاقته بالمؤسسة الثقافية».
وعن إمكانية المؤسسات المدنية والرسمية الثقافية العراقية تدارك ما حصل، وتصحيح الوضع الحالي، يقول الفواز: «هذه الأسئلة وغيرها تضع المثقف أمام متاهة غامضة، متاهة اضطراب السلم الأهلي، وتشوهات الحرية غير المستعملة، ورعب القوى الغامضة والصراعات الأكثر غموضا!».
أما الروائي والكاتب العراقي شاكر الأنباري فيقول: «أستطيع أن أرسم اليوم صورة متشائمة للثقافة في العراق، لسبب بسيط هو أن الثقافة بحقولها كافة، من تشكيل إلى رواية وشعر ومسرح وموسيقى، أصبحت سلعة فائضة في الشارع العراقي، محصورة في النخبة التي لا تمثل سوى جزء ضئيل من المجتمع». وهو يعزو ذلك إلى «عنف التحولات السياسية واختلال الانسجام الاجتماعي والملفات العقدية القاتلة التي تتراكم في جوانب الحياة الاقتصادية والتعليمية والسياسية والفكرية، وهي نابعة من سؤال جوهري ما زال يتردد في الأذهان عن تعريف هوية العراق، ونمط السلطة، والعلاقة بين المكونات السكانية، ومن يدير الدولة»، مستدركا بالقول: «إذا ما قرأنا هذا على ضوء العنف المتواصل منذ عقود، ومقدار المآسي التي عاشها الفرد طوال حروب وحروب، نعرف جيدا ونفهم سبب انصراف المواطن عن لغة الثقافة ومسراتها. ما ينشغل به المجتمع اليوم، والفرد تحديدا، بالدرجة الأساسية هو الحفاظ على حياته الشخصية، ثم يأتي بعدها كيفية مواصلة العيش، لإدامة الحياة وليس للرفاهية، هنا وفي ظل معاناة يومية خانقة تصبح الموسيقى بطرا، والقراءة ترفا، والمسرح فرجة مغلقة، والسينما تراثا قادما من زمن آخر».
ولا يخفي الأنباري تشاؤمه من الوضع الثقافي كله بقوله: «أنا متشائم من مستقبل الثقافة في العراق، لأن قوى الظلام عازمة بإصرار على ضرب البنى التحتية للثقافة العراقية، وبالأخص الإنسان، فهو معرض كل يوم للإرهاب والتشويه وغسل الدماغ وتعطيل الجانب المعرفي لديه، في وسط اجتماعي تسوده الفظاظة، حيث المؤسسات الثقافية، بما في ذلك وزارة الثقافة، ديكور ميت لحياة بلاستيكية تسير إلى الهاوية. من يصدق أن وزير الثقافة في العراق هو في ذات الوقت وزير الدفاع؟».
أما الشاعر والإعلامي جمال المظفر فقال: «لم تكن الثقافة العراقية بمعزل عن الصراع السياسي بعد الاحتلال الأميركي، بل باتت أسيرة للتجاذبات السياسية والتخندق الفئوي مع وجود المثقف الطائفي الذي سار بوعي أو دون وعي مع موجة العنف السياسي والطائفي، فالكثير من المثقفين العراقيين تركوا إرثهم المهني والنضالي وباتوا جزءا من الأزمة لأداة فاعلة للحل السياسي».
وعلل الأمر بالقول: «بسبب كونهم - المثقفين - طبقة واعية لها تأثيرها في المنظومة الاجتماعية والسياسية أو على الأقل مراقبة المشهد عن قرب ونقده من وجهة نظر متوازنة لا تميل إلى كفة على حساب الكفة الأخرى لأسباب طائفية، وبذلك أصبح المثقف العراقي ضمن المنهج المساهم في توسيع الشرخ الحاصل بجسد الثقافة العراقية والمجتمع.
وأكد: «في العراق اليوم صراع (سياسي - طائفي) وصراع (سياسي - ثقافي)، وهذه بدورها سلسلة من الصراعات المتزامنة التي تلقي بظلالها على المشهد الثقافي العراقي لتجر معها كوكبة من المثقفين النفعيين الذين يؤجرون أقلامهم لهذا الحاكم أو ذلك أو لتلك الجهة على حساب الجهة الأخرى وإظهارها على أنها الأكثر وطنية والجهة الأخرى معرقلة لا معارضة، تنفذ أجندات خارجية ضد المشروع الوطني».
وبشأن الحرية التي نالها المثقف بعد التغيير قال المظفر: «الحرية التي حصل عليها المثقف العراقي بعد الاحتلال فتحت باب النشر من أوسع أبوابه لبعض الأقلام الرخيصة التي لا هم لها سوى الانتفاع واستغلال الفرص، فلولا الاحتلال لما ظهر هؤلاء إلى الواجهة، وهؤلاء كانوا السبب الأكبر في الإساءة إلى الهوية الثقافية العراقية، لأنهم لم يعرفوا معنى المهنية ولا حدود الحرية». وعن طبيعة علاقة المثقف بالمؤسسات الثقافية، قال: «المشكلة أن الصراع امتد إلى المؤسسات الثقافية والادعاء بأبويتها، وبرز ذلك من خلال المهرجانات الأدبية التي تقام كل عام، فكل جهة تريد أن تؤكد أبويتها ورعويتها للطبقة المثقفة، وزارة الثقافة تدعي أنها المسؤولة عن المهرجانات في العراق بينما يعتبر الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق نفسه المسؤول عن المهرجانات كونه على صلة مباشرة بالطبقة المثقفة، وهذا الصراع تسبب في حدوث شرخ بين الجهتين أثر كثيرا على المهرجانات التي أقيمت».
وخلص المظفر إلى القول: «إن البيت الثقافي العراقي بحاجة إلى إعادة ترميم بعد التصدعات التي أفرزتها الصراعات السياسية، وأن تتبنى كل المنظمات الثقافية مشروعا عابرا للطوائف يفشل المشروع السياسي الطائفي الذي يغلب المصلحة الفئوية والحزبية على المصلحة العامة، وعلى المثقف العراقي اليوم مسؤولية كبرى في توعية الشعب حول المخاطر التي تحيط به وكشف الحقائق أمام الرأي العام».
وترى الروائية والإعلامية عالية طالب أن الوضع الثقافي يعاني عموما من الكثير من الملفات التي يمكن أن نطلق عليها لفظة «شائكة»، لأسباب قد يطول شرحها. ولكن أهم مؤشراتها، كما تقول، أنها قد التبس واقعها بين الرفض والقبول بظواهر ألقت بظلالها على أغلب تمظهرات الثقافة العراقية، مما أوجد نوعا من التسطح في العقل والعطاء والتميز، وانزوى المبدع الحقيقي المتميز بعيدا عن منصة الثقافة «الإعلانية» المستشرية، مكتفيا بما يكتبه وينشره خارج العراق أو في مجلات ومنافذ ودور نشر يعتقد أنها تصلح لاحتوائه بفعل رسوخ وجودها كمؤسسات تليق به. المشهد يصلح عليه تسمية «مرتبك باقتدار»!
أما بشأن حرية المثقف العراقي بعد التغيير، فتساءلت عالية طالب: «نكتب بحرية عن ماذا؟ عمن يستلبون الحياة؟ عمن يطلقون سبابهم وشتائمهم واتهاماتهم على كل من يتقاطع معهم؟ هناك إشكالية واضحة باستخدام معنى الحرية، ربما إعلاميا نحن أكثر حرية من العمل الإبداعي الأدبي. وربما العكس في بعض الجوانب، الحرية التي نحن فيها الآن لا نفهم معناها الحقيقي بعد، فكيف لمن لا يفهم، بفتح الياء، أن يفهم، بضم الياء، الآخرين حقيقة ما يجري حوله؟ إنها حرية أن أشتم ويشتموني وأنا أتهم ويتهموني وأن أصرخ ويقتلوني!».
وحول دور المؤسسات الثقافية، وضمنها وزارة الثقافة وتعاملها مع المثقف، قالت: «وزارة الثقافة هي أكبر مؤسسة، لكنها لا تدري ماذا تفعل! وغالبا ما يختلط عليها من هو المثقف ومن هو الموظف، فنجدها تحتفي بالموظف وتتغافل عن المثقف. والحيز الضيق الذي وجد المثقف نفسه فيه في مؤسساتها لا يتسع لكل الأفكار والمشاريع والأحلام التي في عقل وإبداع المثقف، لذا استقال كثيرون منها ليتركوا مكانا أكبر لموظفيها!».
ويشارك الشاعر والإعلامي ماجد طوفان زملاءه آراءهم حول تأثيرات أزمة المشهد السياسي في البلاد على طبيعة المشهد الثقافي، الذي «لم يكن بمنأى عن التغيير البنيوي الذي طال نظام الحكم في العراق، ولعل السنوات العشر الماضية أفرزت مشهدا سياسيا أقل ما يقال عنه بأنه متشظٍّ ومنقسم. وهو ما انسحب على المشهد الثقافي بشكل نسبي، ولم تشهد الفترة الماضية أي تأسيس حقيقي لمؤسسات ثقافية.. بقدر ما أنتجت مشاريع عشوائية غير ذات فائدة، ولعل العشوائية هي السمة البارزة للمشهد الثقافي طيلة السنوات العشر الماضية.. ولكن هذا لا يعني أن صوت المثقف كان أكثر إخلاصا ووطنية من السياسي الذي انزاح خلف الطائفة والمشاريع الإقليمية».
وحول الحرية التي تمتع بها المثقف بعد التغيير قال طوفان: «لا يمكن لأحد أن ينكر أو يتغاضى عن فسحة الحرية التي أتيحت للمثقف العراقي بعد التاسع من أبريل (نيسان) عام 2003، ولكن السنوات التي تلت هذا التاريخ شهدت بروز تابوات (سياسية) و(دينية) ربما مثلت حاجزا كبيرا أمام حرية التعبير، ويضاف إلى ذلك بعض القوانين التي صدرت عن الجهة التنفيذية التي حاولت بشكل أو بآخر الحد من حرية التعبير وتحديدا في ما يخص عمل الصحافة وحق الحصول على المعلومة. أما الحديث عن وجود مؤسسات ثقافية فهذا ما لم يتم العمل عليه.. ووزارة الثقافة آخر ما نستطيع أن نتكلم عنها بهذا والخصوص.. وزارة مترهلة وغير فاعلة.. وهناك هوة كبيرة بينها وبين المثقف». |