|
|
رجاء بن سلامة في مواجهة (قضاة) تونس الجدد: ساعة العقل اللهّاب |
|
|
|
|
تاريخ النشر
09/03/2013 06:00 AM
|
|
|
كتب أبولينير في إحدى قصائده احتفاءً بالشّمس وبالصّيف العائد: «هي ذي ساعة العقل اللهّاب». مجاز شعريّ يمكن استعارته لتسمية النضال الشرس الذي تخوضــه المفكّرة والناقدة والأكاديمــيّة التونســيّة رجاء بن سلامة منذ سنوات أمام «قضاة» العقل القديم وجميع المطالبــين باستــقالة العقل ببساطة، والذي تجعلها تجلــيّاته الجديدة تواجه «القضاء» التونسيّ وتهــمة الاعتقال لدواعٍ تتعلّق يا للمفارقــة المهولــة! - بحــريّة الرأي. رجاء بن سلامة أستاذة جامعيّة وناقدة ومنظّرة للشعريّة عرفها القرّاء عبر أعمال فكريّة ونقديّة عديدة تتمتع بالعمق والفرادة في معالجة المفاهيم والتصوّرات وتفكيك النّصوص الأدبية والفلسفيّة والتشريعيّة، سبق أن توقّفنا عندها، أي الأعمال، في عرض فكريّ واسع نُشِر على صفحات هذه الجريدة (انظر: كاظم جهاد، «رجاء بن سلامة تمارس «نقد الثوابت» وتفكِّك «بنيان الفحولة» - إمّا أن ندفن موتانا أو نقلّدهم في موتهم»، السفير الثقافي، 2 كانون الأوّل/ديسمبر 2005). لها في النقد الأدبيّ وقراءة الشعر والنثر الـعربيّ القديمَين كتابان مهمّان. الأوّل، وعنوانه «صمت البيان»، صدر عن المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة في 1998، والثاني، وعنوانه «العشق والكتابة»، أصدرته منشورات الجمل في كولونيا/بيروت عامَ 2003. ولها دراسة قيّمة في الأنثروبولوجيا الثقافية نشرتها دار الجنوب بتونس في 1999 تحت عنوان «الموت وطقوسه من خلال صحيحَي البخاريّ ومسلم». ثمّ صدر لها كتابان يعبّران خير تعبير عن النّضال الفكريّ الذي قرّرت منذ سنوات أن تكرّس له جلّ نشاطها وكتاباتها، حمل الأوّل عنوان «نقد الثوابت - آراء في العنف والتمييز والمصادرة»، ونشرتْه دار الطليعة ببيروت في 2005، والثّاني حمل عنوان «بنيان الفحولة - أبحاث في المذكّر والمؤنّث»، وصدر عن دار بترا للنشر والتوزيع في دمشق في العام ذاته. في كلا المؤلّفَين الأخيرين، ترينا الكاتبة أنّ تهميش المرأة في الفضاء العربيّ الإسلاميّ، والفوضى الظاهريّة للحركات الأصوليّة، ولغتها وممارساتها الترهيــبيّة والإرهـــابيّة، وظواهر أخرى مماثلة، هذا كلّه إنما ينــدرج في تراث وينطلق من خطاب تسويغيّ وجملة مقولات وقناعات بها يضمن سيطرته على عقول غير العارفين وبفضلها يتحكّم بمصائر البسطاء. والعمل الدّائب والرّصين على تفكيك البنيات والمقولات الدّاعمة لهذين التراث والخطاب هو ما سعت إليه في دراساتــها هذه، وهو ما شكّل منطلقاً لممارساتها الفكريّة اللاّحـــقة التي راحت تتوالى عبر موقع «الأوان» الفكريّ الذي رئست بن سلامة في السنوات الأخــيرة تحــريره وعملت على إنعاشه بإسهاماتها وإسهامات مفكّرين عرب آخرين، وبترجماتٍ لكتابات مفكّرين غربيّين. الحال أنه، في صباح الخميس المصادف 27 من شباط/فبراير المنصرم، استُدعيت رجاء بن سلامة للمثول أمام قاضي التحقيق في المحكمة الابتدائية في تونس العاصمة للاستماع إلى أقوالها في القضية التي رفعها ضدّها المقرّر العامّ للدستور الحبيب خضر، وفُرِض عليها أن تمْثل أمام قاضي التحقيق نفسه من جديد يوم الجمعة المصادف الخامس من نيسان/أبريل القادم. تواجه الكاتبة والأســتاذة الجامعيّة تهمة «القذف بمقرّر عامّ» و«ثلـــبه»، وهي التي لم تقم سوى بالتــصريح عبر إحــدى الفضائيّات في تشرين الأوّل/أكتوبر من العــام الماضي بكون خضر قد «سمــح لنفسه بتعــديل الفصل 26 من مشروع الدســتور المتعــلّق بالحــريّات والإعلام، وذلك بعد أن تمّ تبنيــه، أي الفصل، من قبل لجنة الحقوق والحريّات بمجمــوع أحد عشر صوتاً مقابل عشرة أصوات». وأضافت الكاتبة أنّ الســيّد خضر إنّما «قام بتعديل الفصل ليفرغه من محتــواه»، وأشارت الى أنّ «نقدها كان مدعّماً بردود فعــل عدد من الأعــضاء الذين احتجّوا على التغيــيرات بخصوص هذا الفصل في نسخته الأولى» (نقلاً عن «الجريدة التونسية»، 28شباط/ فبراير المنصرم). وفي مناسبات أخرى، كانت الكاتبة قد احتجّت على اعتزام بعضهم تعديل فقرة من الدستور التونــسيّ تقول بمســاواة المرأة والرّجل في الحقوق والواجبــات لتحــلّ محــلّها عبارة «المرأة مكمّل للرّجل»، الطّالعــة من مستودع الفقه السلــفيّ الذي حســب التونــسيّون أنّهم تحرّروا منه منذ عقود، وكان ذلك، وبحقّ، مبعث افتخارهم أمام بقيّة الأقطار العربيّة. ذهبت رجاء بن سلامة إلى المحاكمة صباح الخميس ذاك يرافقها عدد معتبر من الأساتذة الجامعيين وأعضاء من المجلس التأسيسيّ التونسيّ، وقفوا أمام مقرّ المحكمة الابتدائية بالعاصمة وقفة مساندة تأتي لتؤكّد إصرار المثقّفين التونسيّين على الدّفاع عن حريّتهم الفكرية وعن كرامة المثقّف وسائر المواطنين أمام المحاولات الجارية لمصادرة الفكر وتكميم الأفواه. وفي تصريح خاصّ لجريدة «التونسية» الإلكترونيّة صباح المحاكمة، قالت رجاء بن سلامة: «لقد تمّ استدعائي إلى مكتب التحقيق الثالث بالمحكمة الابتدائية بالعاصمة للاستماع لأقوالي بخصوص القضيّة التي رفعها عليّ المقرر العامّ للدستور والنائب بالمجلس الوطني التأسيسي الحبيب خضر، وذلك على خلفيّة تصريحاتي في برنامج «بلا مجاملة» بقناة «حنبعل» يوم الأحد 14 تشرين الأّول/أكتوبر 2012 حول مشروع الفصل 26 من الدستور الخاص بحرية التعبير. وقد فوجئتُ بالحبيب خضر يرفع شكاية ضدّي». وأضافت بن سلامة: «من المؤسف أن يُحاكَم اليوم الأستاذ بسبب آرائه وأفكاره وإنّ ذلك يعدّ دليلاً على عدم قبول النقد وقيم الديموقراطية». في كتاباتها في موقع «الأوان» كما في خطرات فكرها الوجيزة التي ينتعش قرّاؤها التونسيّون ومن البلدان العربية الأخرى بقراءتها كلّ صباح على واجهة صفحتها في «الفايسبوك»، تجيز رجاء بن سلامة لنفسها ممارسة السخرية الفلسفية والنقد اللاذع المصوغ بلغة عالية وبليغة، مفهومة من قبل الجميع وتصبّ في قلب المشكل. فهل أجمل من ذلك، وهل أكثر منه شرعيّة بالنسبة إلى كاتبة تضع في إرثها الأسلوبيّ والفكريّ نصوص الجاحظ وابن خلدون وفولتير وفوكو ودريدا ولاكان؟ صواب هذه اللّغة ونفاذها هما ما يزعجان خصومها المتفقهين المتسربلين بلغة ظلاميّة لم يعد لها من وجود في حياة كريمة وواضحة الأسس يطالب بها رجال تونس ونساؤه. اللّغة فضّاحة كما يعلم الجميع، و«الأسلوب هو الإنسان» كما كتب عالم الطبيعيّات الفرنسيّ بوفون، وإنّ مقارنة بسيطة بين اللّغتين، لغة رجاء بن سلامة ولغة خصومها و«مقاضيها» لَتكشف عن أنّ الصّراع الدّائر لا في تونس وحدها بل في العالم العربيّ كلّه، لا بل في سائر بلدان الشرق، إنّما يضع في المواجهة شاكلتين في معاملة الكلمات، والواقع نفسه من خلال الكلمات. صراع يضع في المواجهة بلاغتين أو عقلين خطابيين أحدهما قائم على التطلّع إلى الوضوح والمواطنيّة وحرّية الفرد المشروطة بمسؤوليّاته، والثاني يصدر عن ارتكاس وماضويّة وإرادة هيمنة وتحكّم و«سلبطة» كما يقول أهل لبنان، ومصادرة واعتقال. قارنوا بين الخطابين وبين اللّغتين. تصرّح رجاء بن سلامة بلغة القانون والحقّ أنّ مقرّر الدّولة «سمح لنفسه بتعديل الفصل 26 من مشروع الدستور المتعلق بالحريات والإعلام، وذلك بعد أن تمّ تبنيه من قبل لجنة الحقوق والحرّيات بأحد عشر صوتاً مقابل عشرة أصوات» وأنّ خضر «قد قام بتعديل ليفرغ الفصل من محتواه»، ويزعم خضر أنها مارست «الثلب بحقّ مقرّر للدّولة». تهمة الإهانة والثلب والقذف، التي تشيع اليوم في مصر وتونس، والتي ما هي سوى ترجمة أو ترحيل إلى مجال الناسوت لمفردة لاهوتية هي «التجديف»، لا تفصح سوى عن خلوّ جعبة «القضاة» الجدد من الحجّة، وعن فراغهم اللغويّ والفكريّ ومصادرتهم للقضاء والشّرع. وهذا كلّه يوجب على جميع المثقّفين من عشّاق حريّة الفكر أن يساندوا رجاء بن سلامة ويقفوا معها في نضالها الكبير، الذي تدعوه هي «معركة المساواة». مساندة ليست في التحليل الأخير سوى شكل من أشكال الدّفاع عن حريّتهم هم أنفسهم أمام مدّ ظلاميّ قد يكتسح كلّ شيء ويطاول الجميع. ومن سخرية الأقدار أن تضطرّ رجاء بن سلامة إلى التصريح على صفحتها الخاصة في «الفايسبوك»، على هامش «محاكمتها»، بما يأتي: «لم أسرق، لم أحرّض على العنف، لم أقتل، لم أعتدِ بالعنف على الأشخاص والممتلكات. فقط أبديت رأياً سلبيّاً في السيّد الحبيب خضر المقرّر العامّ للدّستور في المجلس الوطنيّ التأسيسيّ. التهمة: ادّعاء بالباطل على موظّف. في عهد بن علي لم أُسجَن، ولم أتعرّض إلى مضايقات. بسبب آرائي منعوا بعض كتبي. الآن الأمر مختلف. ولكنهم لن ينجحوا في تكميم أفواهنا وأقلامنا». |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ كاظم جهاد
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|