لا أعرف كاتباً ومفكّراً خدم الثقافة الكرديّة معرّفاً بها على أوسع نطاق ممكن، وأنعش الحوار بينها وبين شقيقتها العربيّة، قدر ما فعل الدكتور هلكوت حكيم، المولود في كردستان العراق قبل ما يقرب من ستّة عقود. وكما توخّى لهاتين الغايتين شتّى المناهج وأشكال التعبير، جامعاً بين طرائق العِلم ووسائل الأدب، طوّع لمساهماته لغات عديدة اتّجه إليها مدفوعاً بمشبوبيّة عالية وشغف فعّال. على رأس هذه اللّغات تقف العربيّة التي جعل منها وسيلة تعبيره الفكريّ الأولى، والكرديّة لغته الأمّ، فالفرنسيّة التي تشكّل منذ ثلاثين سنة ونيّف أداة الكثير من منجزاته العلميّة والمعجميّة، مع مساهمات عديدة في الإنجليزية وقدرة على المتابعة باللّغتين الفارسيّة والتركيّة. كأغلب الباحثين والأدباء الذين ينذرون طاقاتهم لأداء هذه المهمّة الضروريّة المتمثّلة في التّعريف بثقافة تاريخيّة مهمّشة وشعب جريح، ربّى هلكوت حكيم في نفسه مواهب عديدة ووزّع نشاطه المعرفيّ على محاور متنوّعة، شديدة التّكافل والقرب بيد أنّ كلاًّ منها يتطلّب بحدّ ذاته جهوداً مديدة. هكذا يبرز فيه أوّل ما يبرز وجه الألسنيّ وصانع المعاجم الذي سلّط على اللّغة الكرديّة (السّورانيّة بخاصّة) أضواءً نظريّة ومعالجاتٍ تطبيقيّة عديدة قادته في خامة المطاف إلى أن يكرّس عشرين عاماً لإنشاء أوّل قاموس كرديّ - فرنسيّ يستحقّ تسمية قاموس من حيث ضخامته وغزارة محتوياته. هذا القاموس نفسه يأتي بعد مبادرتين سابقتين وضع حكيم في أُولاهما، في 1993، بمساهمة من جيرار غوتييه، قاموساً كرديّاً-فرنسيّاً مكثّفاً يضمّ سبعة آلاف مدخل، وفي الثّانية نشر في 1996 قاموساً للكلمات الأساسيّة في اللّغة الكرديّة مع ترجمتها إلى الفرنسيّة بالإضافة إلى ما يقرب من ثلاثة آلاف جملة مترجمة. أمّا قاموسه الجديد الصّادر عن منشورات L’Asiathèque (أي المنشورات الآسيويّة) بباريس، في سلسلتها المعروفة المخصّصة للّغات والثّقافات الشّرقيّة، فيضمّ اثنين وعشرين ألف مدخل، وآلاف المداخل الفرعيّة للكلمات المركّبة وسواها، وما يزيد على ألف عبارة مكرّسة وموطئ مشترك. وقد أهدى معجمه إلى اثنين من كبار المفكّرين الفرنسيّين الرّاحلين الذين نذروا جزءاً معتبراً من نشاطهم الفكري للدّفاع عن الثّقافات الأخرى هما المستشرق مكسيم رودنسون والهلّينستي بيار فيدال-ناكيه. كما يقرّ بفضل سابقيه فيذكر في تمهيد قاموسه الجديد المستشرق اللّيتوانيّ الأصل ألكساندر جابا (1801-1894)، واضع أوّل قاموس كرديّ-فرنسيّ يضمّ أحد عشر ألف مدخل وعدداً معتبراً من الكلمات المركّبة، والمستشرقة الفرنسيّة جويس بلو التي نشرت بالتّعاون مع الباحث الكردي الرّاحل كاميران بدرخان في 1965 قاموساً كرديّاً-فرنسيّاً-إنكليزيّاً يجع ما يقرب من ثمانية آلاف كلمة. وضع هلكوت حكيم كلمات قاموسه الكرديّة بالأبجديّة العربيّة مع تدوينٍ لها باللاّتينيّة المكيّفة لاستقبال أصوات اللّغة الكرديّة، فصار القاموس قابلاً بذلك لقراءة ميسّرة، يفيد منه الطّلبة الأكراد في فرنسا، كما يغتني به دارسو الكرديّة من النّاطقين بالفرنسيّة. ولأنّ صناعة المعاجم تشكّل اختصاصاً لا يمكن أن يدلو المرء فيه دلوه دون تهيّؤ واطّلاع فلا يسعنا إلاّ أن نتذكّر في هذه المناسبة مقولة المعجميّ الإنجليزيّ صموئيل جونسون (1709-1784) التي وضعها المعجميّ اللبنانيّ الرّاحل منير بعلبكي في صدارة قاموسه الإنكليزيّ-العربيّ «المورد»: «يتوق كلّ من يؤلّف كتاباً إلى المديح. أمّا من يصنّف قاموساً فحسْبه أن ينجوَ من اللّوم». بيد أنّ صنيع هلكوت حكيم يستحقّ بلا شكٍّ الإطراء سلفاً لما فيه من ريادة ومواظبة، وما هاتان بالخصلتين الهيّنتين.
حقوق الأقليات
محور ثانٍ في نشاط حكيم الفكري يتمثّل في الدّفاع عن حقوق الأقلّيّات وخصوصيّاتها، في العالم العربيّ بخاصّة. وهنا أعرب في اعتقادنا عن انفتاحٍ رفيعٍ وممارسة للحوار ديمقراطيّ لا تشوبها شائبة. هكذا نشر في الصحف العربيّة عشرات المقالات جمع مؤخّراً بعضاً منها في كتابٍ حمل عنوان «سجالات عربيّة كرديّة» صدر منذ فترة ضمن منشورات مكتب الفكر والوعي للاتحاد الوطنيّ الكردستاني في السليمانية. وقد صدّر الكتاب بكلمة شكر إلى الكاتب اللّبناني حازم صاغية جاء فيها: «لا بدّ لي أن أقدّم جزيل شكري إلى الصّحافي اللّبناني حازم صاغية الذي فتح لكتاباتي أبواب جريدة «الحياة» دون أن يعرفني أو يسمع صوتي في يومٍ من الأيّام. فله فضلٌ كبير في ما يجده القارئ هنا بين يديه». وقد نشر في هذا الكتاب عدداً من مقالاته في الدّفاع عن الخصوصيّة الكرديّة وقراءة تاريخها المعاصر وإلى جانبها ما نشرته جريدة «الحياة» من ردودٍ ومساجلات استهدفت مقالاته هذه. لا يلجأ هلكوت حكيم إلى لغة الدّعاوى السّياسيّة ولا يستخدم التّاريخ السّياسيّ مطيّة للنّزاع الفكريّ والتّناحر الطائفيّ بل يحلّل سياسات التّطويع وإذابة الهويّات الأخرى التي تمارسها الأنظمة الحاكمة باسم هذه الأغلبيّة أو تلك، سياسات تذهب من القمع اللّغويّ إلى التّهجير الجماعيّ والمحو الثّقافيّ فالإبادة بالأسلحة الكيمياويّة كما حدث في حلبجة في العراق في 1988. وعلى دأبه في الارتكاز في تحليلاته على قاعدة أنثروبولوجيّة وتاريخيّة واسعة يقارن حكيم، محتفظاً دائماً بالفوارق والتّلاوين، بين مآسي أكراد العراق ومعاناة الأرمن في تركيا وتهميش الأقباط في مصر، مؤكّداً على الحقّ في الذّاكرة وعلى الخصوصيّة باعتبارها مبدأ اختلاف لا خلاف، ومناسبة ثراء وتعدّد إنسانيّ لا باعثَ تصادم واحتراب. ومع ذلك ففي لغة أغلب مساجليه تبرز شحنة من العنف والمصادرة تدلّل بحدّ ذاتها على مدى الصّعوبة التي ما زال يواجهها كلّ فكرٍ يبحث في مسائل الخصوصيّة والتّعدّد والاختلاف. هكذا، وما هذا إلاّ مثال واحد، يردّ عليه كاتب مصريّ ساءه أن يشير كاتبنا الكرديّ إلى تهميش الأقباط في مصــر، يردّ عليــه بمقالٍ عنوانه «الضّرب على وتر الأقليّات المضطهدة والمختلفة... مؤامرة». محور آخَر من اهتمامات هلكوت حكيم لن يتسنّى لنا للأسف الوقوف عنده مليّاً في هذه العجالة، ولعلّه المحور الأوسع من حيث حجم ما كتبه فيه وتعدّد موضوعاته. إنّه يتمثّل في متابعة الثّقافة الكرديّة وثقافاتٍ أقليّةٍ أخرى من منظورات الأنثروبولوجيا والنّقد الأدبيّ. كرّس لهذا المحور عشرات المقالات بالفرنسيّة والعربيّة، وانتخب عدداً من النّصوص التي كان كتبَها بالعربيّة في هذا المضمار وجمعها في كتابٍ صدر مؤخّراً عن منشورات ئاراس بأربيل تحت عنوان قد لا يشي بطبيعة محتوياته هو «كتابات مع الأحداث». هنا يرافق حكيم بعض الإصدارات الفكريّة المنصبّة في مجال اهتمامه في لغات عديدة، ويعرّف بعين الباحث الأدبيّ بلمحمتَي «الشرفنامة» و«ممْ وزين» الكرديّتين، وبقصّة كوليزار الشابّة الأرمنيّة التي تحوّلت إلى بطلة شبْه أسطوريّة للأرمن عندما تجرّأت في 1889 على أن تقود إلى المحاكم إقطاعيّاً كرديّاً اختطفها من أهلها المضطَهدين وأراد أن يتزوّجها عنوة. كما يحلّل أسطورة نوروز في تحوّلاتها الكرديّة، ويضيء على جوانب من حياة مسيحيّي كردستان، وعلى صراع اليزيديّين بين البقاء والهويّة. وبين عناصر أخرى تبرز هنا موهبة الكاتب في رسم بورتريهات نافذة تُظهر الجانب الأكثر سطوعاً في مسيرة كاتب أو مناضل أو سجين فكريّ. وطويلاً يعلق بالذاكرة ما كتبه عن المناضلة الكرديّة التركيّة ليلى زانا، وعن الباحث التركيّ إسماعيل بشكجي الذي عشق حياة الأكراد فنذر حياته للبحث في ثقافتهم والدفاع عنهم فأصبح نتيجةً لذلك أقدم نزلاء السّجون التركية، وعن القاصّ الكرديّ الراحــل ابراهيم أحمد، وسواهم. منذ سقوط الطاغية دأب هلكوت حكيم على العودة إلى كردستان العراق كلّ سنة تقريباً. بيد أنّه يفعل ذلك مبتعداً بتصميم وقرار عن مراكز الضوء ومغريات الإعلام. وفي كلّ عودة ينصبّ اهتمامه الأساس على ثلاثة أشياء عزيزة عليه: قياس تطوّر وعي الكرد وعامّة العراقيّــين بأنفسهم وبالعالم، وتعميق بحثه الأنثروبولوجــيّ في تصوّف الطريقة النقشبنديّة التي كان وضع فيها أطروحــته للدكتــوراه وخصّها بعدّة أبحاث، وتدريب فريق من الناشئة الأكراد على النّحت بالخشب، هوايته الكبرى التي بها يتخّفف من وعثاء السّفر في بطون المعاجم والموسوعات. من باريس يحمل إليهم أفضل قطع الخشب الصالحة للنّحت، ويمدّهم بأزاميل ولوازم أخرى، ومعهم يمارس الرّجوع صعُداً إلى ملكوت الطفولة الأثير. |