(شوارع العالم) عنوان الرواية الجديدة للكاتب العراقي جنان جاسم حلاوي (منشورات رياض الريس)، التي تحكي "قصة الحب والحرية في منعطفات الحياة القصيرة التي نحياها في عالمنا المفعم بالاضطراب"، إذ يرسم الكاتب عبر سيرة شخصياته، مصائرهم الإنسانية المتحولة.
لا أعرف لمَ يبدو لي كأنك كنت في حاجة إلى هذه العزلة أو ربما المنفى كي تكتب. غالبية أعمالك جاءت وأنت في إقامتك السويدية. هل كان للمكان أثر في الذهاب أكثر إلى الكتابة؟
- العزلة في أوروبا، وفي المنفى السويدي، وفرت لي إمكانية تنظيم الوقت واستغلاله بأفضل شكل. كتابة الرواية تحتاج إلى عزلة مكانية وانضباط في العلاقات الاجتماعية وصبر طويل للتركيز على الكتابة. عندما كنت في بيروت كنت مشغولا بالعمل الصحافي ومهموماً بتغطية نفقاتي اليومية. كان هامش الكتابة الإبداعية ضيقاً جدا. بالكاد يستطيع المرء أن يكتب قصيدة هنا أو قصة هناك. وفي بلدي العراق أصدرت مجموعة قصصية واحدة ولم أستطع المواصلة بسبب الحرب والقمع وضيق مجال حرية التعبير. بالتالي، المكان في السويد وفر لي فسحة زمنية واسعة لكتابة الرواية التي كما قلت وأكرر تحتاج إلى وقت منظم ومنضبط إلى حدّ كبير، خصوصا إذا كان المرء يمتلك مشروعا روائيا متواصلا. أما إذا كان يريد الاكتفاء بكتابة رواية واحدة فقط، فإنه يستطيع ساعتها أن ينحي موضوع الوقت جانبا.
هل تعتبر نفسك في المنفى؟
- أنا في المنفى بالتأكيد... على صعيد المكان وعلى صعيد اللغة والثقافة. فأنا لا أزال أكتب اللغة العربية وأنشر كتبي في دور نشر عربية، وبالتالي فإن مكاني الإبداعي والنشري هو المكان العربي. أنا أيضا موجود في غير مكاني في السويد، وإذا كنت أعيش هناك الآن رغما عن إرادتي، فلأسباب سياسية أولا، واقتصادية ثانيا، وثالثا قصة استغلال الوقت التي تحدثت عنها قبل قليل. في المنفى أعيش أنا في الذاكرة، وتستحوذ عليّ نوستالجيا دائمة، وهذا أمر خطير في الكتابة. ما ان يستحوذ الحنين والنوستالجيا والعاطفة على الكتابة حتى تدمرها. على الكاتب أن يتخلص من كل ذلك، بمعنى انه عليه أن يكون موضوعيا وغير منحاز. وهذا لا يكتشفه الكاتب بسهولة لأن الحنين يستحوذ عليه. كما ان الذاكرة تسيطر عليه فينجرف معها ويقع في أحبولة الكتابة العاطفية المباشرة التي تقترب من الندب والبكاء واللوعة.
إلى أيّ حدّ أثر هذا المنفى في تشكيل لغتك الروائية؟
- أنا مكاني في اللغة العربية وليس في أي لغة أخرى، وقد طورت هذه الأداة منذ أن كنت في العراق حيث أحطت إحاطة جيدة بأساليب القاصين العراقيين أمثال موسى كريدي ومحمد خضير وعبد الستار ناصر، وقد طورت هذه الأداة في بيروت بحيث جعلت الجملة أكثر تخففا من تقليديتها، أكثر انسيابا، وجعلت للكلمات أحيانا أجنحة، وهذا الأمر استفدت منه بقراءتي لقصيدة النثر اللبنانية لأول مرة في بيروت، قصائد شوقي أبي شقرا وأنسي الحاج... ما دفعني وأغراني إلى كتابة قصيدة النثر. وجدت الأمر ممتعا ربما بسبب الخفة والألاعيب والحيل اللغوية والبلاغية التي يستخدمها شعراء النثر اللبنانيون، وصرت أنسج على منوالها. تسرب هذا الأسلوب إلى أداتي القصصية الأساس الذي كنت أستخدمه، وكتبت مجموعات قصصية ذات طبيعة شعرية نثرية مثل مجموعة «غادرني نيوتن والوقت غروب» وأخرى بعنوان «رماد الماء حول الجزر»، ثم صرت أكثر شجاعة وميلا إلى التهور كما أنا بطبيعتي، وكتبت رواية «يا كوكتي» التي استخدمت فيها كل الأساليب النثرية التي تعلمتها هنا في بيروت من كتّاب قصيدة النثر اللبنانيين، وجاءت في أسلوبها شعرية عجيبة وغريبة، ما لفت انتباه القراء والنقاد في بيروت والعالم العربي. هذا على الصعيد اللغوي. الحرية المتاحة في بيروت، حرية التعبير والكتابة والتفكير دفعتني إلى أن أكتب أشياء كنت سابقا في بلدي أتهيب كتابتها. إذا الحرية هي التي دلتني إلى طريق الإبداع وتجديد لغتي وجعلتها أكثر حيوية ومرونة مما كانت عليه في السابق.
هذه الحرية هي الموضوعة الرئيسة التي نجدها اليوم في روايتك الأخيرة «شوارع العالم». كنت تحدثت قبل قليل عن مشروع روائي، هل الحرية هي السمة العامة لهذا المشروع؟
- بالتأكيد الحرية في الكتابة تعني أن أتناول مواضيع بلا لف ودوران، بلا حجاب. ولكن هذا لا يعني انني أجعلها بسيطة وسطحية وساذجة حتى يفهمها القارئ. الحرية هي أنني لا أخاف عندما أكتب، والخوف يدمر الكتابة ويجعلها معاقة. هنالك محرمات في الكتابة كما هو معروف: الدين والجنس والسياسة، حيث أتناولها الآن بشجاعة وصراحة. وهذا أمر مهم في الكتابة الروائية، عدم وجود رقيب عليّ، إن كان أثناء الكتابة في المنفى أو أثناء النشر في بيروت يحملني دائما على أن أكتب ما لا أريد. ولكن هذا كما قلت لا يجعل من كتابتي إسفافا وابتذالا. لأضرب لك مثلا في رواية «شوارع العالم»، هناك مشاهد جنسية عديدة صريحة لكنني لم استخدم فيها الكلمات التي يستخدمها العامة، فاللغة العربية تتيح لك أن تكتب مشاهد عاطفية وجنسية من دون أن يكون الكاتب مبتذلا ورخيصا، وبشرط أن تخدم هذه المشاهد العمل الروائي، أن تأتي متناسقة ومتناسبة ومتلائمة وسياق السرد. بالتالي لا يستطيع الرقيب أي رقيب، في أي مكان في العالم العربي، أن يحذفها أو يمنع الكتاب بسبب بلاغة اللغة وقاموسيتها. أما بالنسبة إلى عالم السياسة فأنا أكتب ما أشاء من دون خوف، لأنني بعيد كل البعد عن سيف السلطة.
من يقرأ رواياتك لا بدّ من أن يطرح السؤال التالي: إلى أيّ حدّ تستفيد من التجربة الذاتية المباشرة؟
- التجربة الذاتية مهمة للكاتب، واستشهد هنا بقول همنغواي: «أكتب دائما عمّا تعرفه». أنا عشت تجارب عديدة حادة وقاسية مثل تجربة الحرب العراقية الإيرانية، والحرب الأهلية اللبنانية، والتشرد والقمع السياسي في بلدي العراق، والمنفى وكلّ ما يستتبع ذلك من اضطراب وأذى وقسوة. استفدت من هذه التجارب بالتأكيد، لكني لم أسع دائما إلى كتابة سيرة ذاتية كما يظن العديد من الأصدقاء والنقاد، لا بل هم يشيرون إلى ذلك في كل مناسبة؟ هل كانوا معي ليعرفوا أين كنت وماذا فعلت وبمن التقيت؟ في روايتي «هواء قليل»، اختصر أحد النقاد الرواية بسطر واحد قائلا إنها سيرة ذاتية ومن يقرأ الرواية يجد أن النصف الثاني تدور أحداثه في العراق إبّان الاحتلال الأميركي، بمعنى أن بطل الرواية يترك منفاه الأوروبي ويعود إلى العراق أثناء الاحتلال الأميركي، ويعايش هناك حوادث الاحتلال وقصصه. وأنا شخصيا أريد أن أقول إني لم أعد إلى العراق منذ أن خرجت منه العام 1984، فكيف أصبحت الرواية سيرة ذاتية إذاً؟ وقس على ذلك.
لو عدنا أيضا إلى روايتك، يتبدى لنا، إذا جاز القول، «لعبك بالتاريخ» وهذا ما نشهده في «شوارع العالم»؟
- أتناول التاريخ بطريقتي الخاصة، أي انني أقدم أحداثاً وأؤخر أخرى، وأرجح شخصيات تاريخية مع بعضها البعض، أو أكتب أحداثا متخيلة داخل التاريخ بمعنى ما، أنا لا آبه كثيرا بما يسمى التسلسل التاريخي المعهود في كتب التاريخ عندما أكتب. التاريخ مادة تستفيد منها مثلها مثل اللغة في كتابة الرواية. بالتالي لست معنيا كثيرا في ما إذا كان هذا الحدث، حصل في العام الفلاني أو العام العلاني وان الشخص اسمه كذا أو كيت، فلست ملزما بأن أكتب الرواية بدقة. أحيانا أتخيل أشياء وأضعها، وهي في حقيقة الأمر غير موجودة. |