"يا صديقي الشعر حياتي التي أريدها لي، كياني الذي بدونه أصبح لاشيء، وكنت كتبته وليس معي سوى ستة عشر عاما"، واذا سألتني عن اللحظات الحقيقية في حياتي سأقول لك: هي اللحظات التي أختتم بها القصيدة الجديدة، وأنا غير معني بمن يقرأ، ويقول مايقول، السعادة تكمل عندي ساعة اقفال الباب علي وأبدأ بقراءة القصيدة تلك. الشعر سعادة من خذلتهم أحلامهم وأذلهم الوقت. "بهذا الأحساس ازاء الشعر يكتب طالب عبد العزيز قصائده التي يطرب لها قبل الآخرين. ترى بأي نفس سيكتب كتابا" نثريا" اذا لزم الأمر؟.
في كتابته عن البصرة، يقول الناقد ياسين النصير: "عندما تعود من البصرة و أنت محمل بهذا الأرث الذي لاتجد من يحميه من الساسة، تصاب بالكآبة، كل مافيها أستبيح وأنهد ومات، النخل مات، أنهر البصرة ماتت، الخليج كف من أن يطل علينا، أقضيتها أبتعدت عن نواحيها، عشارها جف ماؤه، وأبو خصيبها في محفة النسيان، أما شجرة آدم فما عادت تورق، ولا أهوارها تنتج أسماكا وطيورا، ولا قرنتها ملتقى، ولا زبيرها جمل وعين للصحراء". أما طالب عبد العزيز فيقول وهو يرد على اتهامه بالسوداوية والكآبة في كتبه مثل (تأريخ الأسى ): "أرني الأبيض كي انفي عني تهمة الأسود. أنا أتحدث عن الأسى الكوني، المنقلب الأنساني و تراجع القيم، عن فجيعة الوجود على الأرض، ومثل هذه وتلك مما يعاني منه بنوالبشر اليوم".
يعد المكان لدى طالب عبد العزيز أشكالية مستعصية، سواء كان ذلك في قصائده الكثيرة أم في كتابه موضوع البحث (قبل خراب البصرة) على نحو خاص . كان أبو الخصيب وما يزال يشكل هاجسا" مستمرا" لدى طالب عبد العزيز . يعتري طالب عبد العزيز أحساس دائم بأنه قد أوفى أبا الخصيب حقه حين وجده يتلبس شعره قاطبة باللاوعي من دون أن يبدي ذلك، وحينها وجد أن الماء والنخل والمطر والبساتين الخضر ورائحة الأرض بعيد سقوط المطر وطيبة الخصيبيين وبساطتهم وقوة هاجس الأرض تتغلغل في معجمه الشعري الخاص على نحو واضح وجلي، وجد أنه قد أوفى أبا الخصيب حقه من الحب والعشق والتمازج بل وحتى التماهي معه الى أبعد الحدود. عند ذلك شعر أنه قد تخلص من هاجس المكان سوف يجد عندها الآفاق البعيدة تمنحه الحرية التي يريد كي ينطلق الى الأمكنة البعيدة التي لم يكتشفها بعد بعيدا" عن أبي الخصيب هذه المرة .
هذه الرغبة الملحة لدى الشاعر طالب عبد العزيز ليست رغبة سلبية أبدا، انها تمثل "هاجسا" في التجدد وعدم تكرار الذات لاسيما أن الأجواء ذاتها تخيم على الأمكنة كلما أراد الكتابة أو التعبير عن هواجس الذات. ولكن المكان ما يفتأ يعود مع كل مرة، لأنه شاسع مترامي الأبعاد لاتلمه القصائد ولا تحده حدود اللغة أو أبعادها.
ومن هنا عبر التعمق في محلية المكان تتجسد عالميته فيغدو مكانا "معروفا" على نطاق العالم يمنح حتى الكاتب عنه خصوصيته وتفرده . اذن والأمر هكذا، لاضير من أن يتكرر المكان بأوجهه المختلفة في كل مرة وأبعاده المتباينة وعمق الأحساسات التي يثيرها في الذات أو في الآخر في كل مرة يرد فيها.
وعلى هذا الأساس نجد بعدين للمكان يتشظى عبرهما الشاعر طالب عبد العزيز بكينونة الشاعر في اللاوعي الباطن، ترى هل يكتب الشاعر باللاوعي ذاته حين يكتب نثرا؟.
أولا: المكان الذي يكتب فيه
ثانيا": المكان الذي يكتب عنه
وأعتقد جازما" ان المكان هو ذاته في الحالتين . لأنه كتب في المكان جغرافيا، أو كتب عنه تأريخيا، هو هو لايزال المكان ذاته الأثير لديه، (أبو الخصيب)، وليس ثمة مكان يشكل هاجسا لدى طالب عبد العزيز . بقي علينا أن نشير الى أن هذا المكان المنشود قد يتشكل دلاليا على بعدين.
1 - البعد التأريخي
وهو مايشير الى عقد شيء من المقارنة بين (أبي الخصيب) الماضي و(أبي الخصيب) الحاضر في العقل الباطن لدى الشاعر. ويجد الشاعر أن أبا الخصيب الراهن يختلف كثيرا عن أبي الخصيب الماضي. وهذا الاختلاف، بطبيعة الحال، يحفر عميقا في ذاكرة الحاضر، لاسيما حين نعرف أن الحاضر أسوأ بكثير من صورة الماضي بكل بساطتها وعفويتها وجمالها وروعتها بازاء الحاضر، بكل خرابه ودماره وعشوائيته وقتله لكل عفوي جميل. ولهذه تراه يسعى الى ذكر الأسماء القديمة للأمكنة القديمة في أبي الخصيب التي توزعت على هيئة أبواب كثيرة كباب سليمان وباب السروجي وباب أم النعاج وباب الخورة الخ، وتعقيبا لرؤيته الواقعية للألم الذي تقاسيه المدينة أضيف ما ذكره طالب عبد العزيز في مقابلة سابقة اذ يقول :"أنا لا أبكي الريف بقدر ما أبكي المدينة والتحضر اللذين كانا يوما" معلما" من معالم البصرة ،أبكي ما بناه آباؤنا وأجدادنا لنا، أنا حزين لذلك، أخشى تحول القرى في أبي الخصيب الى مكملات للمدينة الكبيرة، وقد كثرت البيوت في بساتينها".
2 - :البعد الجغرافي
وهو أن طالب عبد العزيز سواء كتب في أبي الخصيب وهو يعيش بين بساتينه وأنهاره وأبوابه وأكواخه أو أناسه الفلاحين البسطاء، أو كتب عنه وهو يحيا بعيدا عن كل ذلك، يبقى يكتب عن أبي الخصيب، ولكنه هذه المرة يكتب عن كل هذا من وحي الذاكرة الذي لاينضب الا من خلال الطاقة السلبية التي يفرزها الحاضر من دمار على الماضي المتمثل بالجمال الأخاذ والشاعرية الأستثنائية. وهنا يجعل الشاعر طالب عبد العزيز يعيش على "الحنين الى الماضي". فيعيده بتقنيات سردية متعددة تتسلح في كل حين بسلاح مختلف وعلى وفق التقنية السردية المتبعة، وعلى وفق وجهة النظر المنتقاة بعناية ومراس من طالب عبد العزيز وعلى وفق نقطة "التبئير" focalization التي يختارها بعناية بالغة، والتي يكون المكان بطبيعة الحال هو بؤرة السرد، أي هو محور السرد الذي تدور حوله الشخوص والأشياء بقدر أرتباطها به، أي هو نقطة الأرتكاز المركزية للسرد في كل مرة.
كتب طالب عبد العزيز كتابه هذا (قبل خراب البصرة : كتاب الماء والنخل) بوحي من كتاب القاص محمد خضير الموسوم بـ(بصرياثا : صورة مدينة)، وبهديّ منه. والكتابان يتحدثان عن البصرة . كتاب محمد خضير (بصرياثا) يتحدث عن البصرة، في حين يتحدث كتاب طالب عبد العزيز (قبل خراب البصرة) عن أبي الخصيب على نحو خاص، لكنه يتحدث عن البصرة في الوقت ذاته بين حين وآخر. وكتاب محمد خضير يفرد فصلا كاملا عن أبي الخصيب تحت عنوان (أبو الخصيب : طريق الحكايات) - (ص65-87).
ولا يجد طالب عبد العزيز ضيرا في أن يكتب كتابه هذا بوحي من كتاب محمد خضير (بصرياثا) بعد أن وجده كتابا" رائجا" وناجحا" يؤرخ لمدينة البصرة بكل تأريخها وتراثها وعمقها وأهميتها في الوقت الذي يتحدث فيه عن الآلية التي يتبعها كقاص في اقتناص مشاهد الحياة وتحويلها الى صور متنوعة نابضة بالحياة ومكتنزة بالتجارب والشخصيات المتنوعة الغنية بالتجارب، وتفاعلات الحياة بكل تناقضاتها من حيث ايجابياتها وسلبياتها وجمالياتها ومنغصاتها.
نجد طالب عبد العزيز يتحدث عن أبي الخصيب بتأريخها ومسمياتها الماضية وملامح التغيير التي شرعت تلوح على ملامحها المحببة لديه فيبكيها بألم وحسرة ويتمنى أن تبقى أبو الخصيب شاخصة في باصرته الحية تماما كما هي المدن المهمة الحية لدى كتابها الذين أرتبطوا بها برباط وثيق تماما، كما فعل فوكنر مع (يوكناباتاوفا) وعاصمتها (جيفرسن)، ونجيب محفوظ ومدينته ( القاهرة )، وأورهان باموك مع مدينته (أسطنبول).
ونحن نقرأ كتاب (قبل خراب البصرة) الذي أختار عنوانا له ينهم عن الذكاء والفطنة والشاعرية المخبوءة، اذ جعل العنوان معاكسا" لقول ذهب مثلا "بعد خراب البصرة"، وهو يلعب هنا على مفارقة العنونة فأستبدل (بعد) بـ(قبل) وقد نجح في ذلك كثيرا، والعنوان على هذا النحو بنية ناقصة لا تكتمل حتى مع العنوان الفرعي الثانوي (كتاب الماء والنخل)، وهذا جزء من لعبة التشويق في بنية العنوان.
طالب عبد العزيز يبث روحه الشاعرية في حنايا الكتاب وهو يصف كل تفاصيل الأمكنة وينقل لنا روائحها المترعة بعبق التأريخ وعبير بساتينها وطيبة أرضها، وينقل لنا من دون أن يدري – وربما يدري- كيف أستطاع بعفوية الشاعر وأحساساته الرقيقة أن يحيل هذه الأمكنة المحببة الى صور شاعرية تضج بالحياة وهي تفوح بشذى الأمكنة وعبير سواقيها وخرير الماء فيها وأصوات الطيور المسقسقة ويصور لنا صورا باذخة تعتمل فيها الحياة تماما، كما التمر البرحي يجعل يتساقط بفعل الريح وحركة الطيور وكما البمبر الناضج في أشجاره وكيف يشق الماء سواقيه الرقراقة الصغيرة في بواطن البساتين.
كتاب "قبل خراب البصرة " كتاب شاعر فنان ينقل لنا صورا عن أبي الخصيب الجميلة ببساتينها العامرة وأرضها الخصبة العذراء المعطاء المكسوة بالخضرة الباذخة وروعة المكان. هذا كله بالطبع قبل أن تخربها الحروب وتدمر رونقها القنابل وتعيث فيها يد العبث خرابا وتدميرا، لتتحول الى مجرد ذكريات لزمن مضى وتولى بكل جماله وعذوبته وروعته. ترى هل تشيخ الأمكنة والمدن والقرى والأنهار والسواقي كما يشيخ البشر؟. هذه التساؤلات وكثير أخر سواها تلاحقنا ونحن ننتقل عبر سطور هذا الكتاب من خلال كاميرا السارد الذي أختار أن يصطحب الكاميرا معه وهي وجهة النظر المفضلة لديه وهو يعبر الجسور الخشبية القديمة بين قرى مهيجران وعويسيان وحمدان وباب سليمان والسراجي الخ . . . . الى آخر قرى أبي الخصيب وبساتينه.
ترى هل أستطاع طالب عبد العزيز أن يستنفد أبا الخصيب شعرا ونثرا ووصفا" كما أستنفدها من قبل هوسا وحبا وشغفا والتصاقا؟. لا، أبدا، لا أعتقد. ان فيها ما يستطيع أن يقوله طالب عبد العزيز في يوم ما. ولكن ما قاله طالب عبد العزيز هنا في هذا الكتاب يستحق الأشادة والثناء. |