|
|
معاذ الألوسي مهندس المكان البغدادي الحميم |
|
|
|
|
تاريخ النشر
18/09/2012 06:00 AM
|
|
|
لم يشأ المعماري والتشكيلي العراقي معاذ الألوسي لكتابه الصادر حديثاً عن «دار رمال» في قبرص، ان يكون تدويناً حياتياً شخصياً كنوع من المذكرات، بل اراده «درباً»، بحسب المفردة التي يحب والتي يحيطها بكثير من الحنو: «كنت أُمنيّ النفس في أن أعيد انتاج تعرجات الدرب ضمن تعرجات حياتي المهنية، وتلازمهما معاً، من دون أن يبدو هذا التلازم منظماً تنظيماً صارماً، تماما كما في الحياة الواقعية». و»الدرب» هنا ليس دلالة على المضي في مسار محدد مفتوح على احتمالات عدة، بل هو ايضا تعبير عن «ازقة» وأمكنة ضيقة لطالما ظلت تمثل روح بغداد القيمة. ومن هنا هي كمفردة، تعني الكثير للمعماري: « ثمة ظلال عراقية في معنى «درب» يمكن أن توضح المشكلة الخاصة للتجربة المعمارية، فنحن نشير إلى مجرى ضيّق، لا مجال فيه للمناورة الكبيرة من دون مخاطرة، ولا يتحمل التلاعب في القيم المتوارثة المتواصلة». وفي حين يبدو الامر كذلك، فإنه سيبدو عميق الأثر عند المعماري الذي سيتولى مرغماً، مشروع احياء طرف في بغداد القديمة، هو عبارة عن «دروب» وأزقة ضيقة. فالألوسي الذي اشرف على مشروع «شارع حيفا» وطرح فيه ومن خلاله، اسئلة في غاية الجرأة حول العلاقة الملتبسة والشائكة بين الحداثة والموروث، آثر ان يضع لكتابه عنواناً ثانوياً يختصر عمله في منطقة تكتظ بـ»دروب» اشبه بالمتاهة لفرط تشابكها واتصالها ببعض، او لكونها مغلقة في نهاية يتوقع الذاهب اليها انها ستنفتح على درب آخر وصولاً الى شارع فسيح. ومثلما كانت هذه المتاهة من الدروب، البؤرة المكانية لمشروع الالوسي الاكثر اثارة للجدل، كانت هناك متاهة من الدروب التي مشاها المعماري منذ تلقيه دروسه الجامعية في تركيا ثم عمله في المانيا والعودة الى الوطن تالياً، والهجرة منه والاقامة بين بيروت التي احب وقبرص التي تحتضنه اليوم. وما بين تلك المحطات كانت العودة الى الوطن مرة اخرى لتنفيذ المشروع الذي يبدو مع قليل من التبصر والتمعن، وهما مطلبان لا يعرفهما العراقي منذ عقود، درساً في معاينة المكان والاخلاص لتقاليده الحياتية، بل ولإيقاعه الانساني الفريد. شارع حيفا وبعيداً من ذرائع كان بامكان الالوسي ان يسوقها في تبرير قبوله مشروعاً أمر بتنفيذه الرئيس السابق صدام حسين، الا وهو مشروع شق «شارع حيفا» وسط منطقة الكرخ القديمة في بغداد، يقول صاحب التجارب المعمارية اللافتة في بغداد المعاصرة: «كان الخوف يجعلنا نقبل، ولو بحذر مفرط، بيد أن كل حذر يزيد الخوف أضعافاً. في مواجهة سلطة قد نتساوى بالجبن (آه.. لا أخفف هنا من جبني)، فكيف إذا كانت سلطة عنيفة وغير عادلة؟». وهو هنا يمضي في تجربته الى مشارف من الصدق الجارح الذي نادراً ما قاربته كتب السيرة التي دوّنها عراقيون كثر في العقود الاخيرة. واذ يقترح الالوسي صحبة من نوع ما الى «دروبه» ، الا انه يستثني «دروب السياسة» القاتلة «فوحدها «دروب» السياسة بمفهومها الحزبي المجرد، لم أقربها. وأصارحكم القول إن قيم السياسة وتقلباتها وتلونها المستمر هي في تنافر وتضاد مع القيم الأساسية التي أُؤمن بها». اذا ما هي «القيم الأساسية» التي كونت من سيتولى ايجاد نوع من الهدنة بين مكان اصلي مثقل بالتاريخ وسؤال الحداثة الذي يطرق الابواب بقوة؟ إن «كامل قيمي هي نفسها قيم بغدادييّ الأمس القريب، وقد تعلمتها من منابعها، وعشتها بإصرار منذ الطفولة، وأعتقد أنني حاولت جاهداً الالتزام بها. يحضرني منها عدم التعالي واحترام الكبير وتمجيد المعلم والاستماع الى الرأي الآخر، والوثوق بالصديق والصداقة، وحب المرأة واحترامها. ( قد أكون قد بالغت في حب المرأة في بعض الأحيان! ). العطف على الطفل والضعيف، مساعدة المحتاج، نصرة المظلوم. هل هذه القيم قديمة؟ قديمة لكن جميلة، تهب للحياة معنى». من هنا لا يمكن الا ملاحظة الحنو البالغ على المكان البغدادي في تصاميم معمارية انجزها الالوسي، غير «شارع حيفا». وما بات اغنية شديدة الصفاء عن ولع الالوسي بالمكان البغدادي هو بيته الشخصي، الكائن في منطقة شعبية من العاصمة العراقية مطلة على دجلة، وفيه استعارة لجماليات الفناء الداخلي للبيت البغدادي التقليدي ولكن وفق مفهوم معاصر قائم على اتصال كان نادراً مع المحيط الجغرافي والاجتماعي. البيت المكعّب بيته الذي سمي وفقاً لشكله الهندسي «البيت المكعب» منفتح على افضل ما في النتاج الثقافي العراقي والانساني المعاصر: لوحات، كتب، اسطوانات، ولكن قبل كذلك كان منفتحاً على الناس، فالدرب اليه يقود الى قلب الحارات الشعبية بين منطقتي الاعظمية والكريعات، وموقعه هذا سيجعله تكثيفاً قوياً لألم صاحبه هذه الأيام، فهو يقع بحسب التصنيف الطائفي الصاعد ثقافياً واجتماعياً بعد عراق العام 2003، بين منطقة سنّية وأخرى شيعية. وعن موقع بيته هذا يقول الالوسي: « ان واضعي الحواجز لفصل المناطق المختلفة طائفياً احتاروا اين يضعون حواجزهم، قبل بيتي ليضم الى منطقة شيعية، ام بعده ليصبح البيت ضمن منطقة سنّية»! وفي حين لا ينسى الالوسي في كتابه ان يدون حكايات عراقيين واجانب عمل معهم في بغداد، وأغنوا البلاد معرفة وعمراناً وروحية من نوع مختلف، فانه يسجل تقريعاً لسياق بائس انتظمت فيه الحياة العراقية منذ «عصر الجمهوريات الثورية» حين تاهت الدروب وتداخلت فأوصلت سالكيها الى العمى او كادت. يقول: «أتساءل: ترى من حطّم النمط الثقافي والإجتماعي العراقي الثر غير جاهل ومثقف مزيف ومتلون، أو مثقف مسخّر من السياسة والسياسيين وأحزابهم؟ كم ذبحوا وسحلوا وعلّقوا وذوّبوا أجساداً باسم الوطن والدين والحزب؟ لقد سحقوا المثقفين، ودُمرت الثقافة الأصيلة باسم الوطنية. السياسيون يميناً وشمالاً أوصلوا المجتمع العراقي إلى ما هو عليه اليوم، وذلك من خلال تفضيل مصلحة جماعة صغيرة على مصلحة الناس المكافحين، ومصلحة وطن بأكمله». «نوستوس» أو «نوستالجيا» أي «الحنين»، تتصل بالغربة التي تبدو الباعث على الحنين للمكان الاول اي لبغداد التي تقض الالوسي: «كنت من أوائل من فضّل الغربة القاسية والهجرة في أوائل السبعينات. الهجرة كانت أقسى بكثير من هجرة هذه الأيام».
|
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ علي عبد الأمير عجام
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|