|
|
رواية (فيرجوالية) للعراقي سعد سعيد: الفضاء الافتراضي حين يصبح حقيقيا |
|
|
|
|
تاريخ النشر
04/09/2012 06:00 AM
|
|
|
ربما تشكل مقولة كارل ماركس حول التراكم الكمي الذي يقود إلى تغير نوعي، مدخلا مناسبا للولوج إلى الفضاء الروائي في 'فيرجوالية'، حيث نعاين التراكم الكمي الرقمي للبيانات والمعلومات وآليات الربط والبحث والمقارنة في جهاز الحاسوب. وهي تتحول في طفرة نوعية إلى ذكاء افتراضي، بالطبع علينا أن نتوخى الحذر دائما في إسقاط المقولة الماركسية والتأكد من صلاحيتها في مقاربة الظاهرة موضع الدرس، وهنا نستطيع التقرير بكل ثقة أن الذكاء الافتراضي يخضع بشكل لا لبس فيه لهذه المقولة، وقد بات من البديهي الاعتقاد أن انبثاق الذكاء الافتراضي هو مسألة وقت لا أكثر، وقد عالجت أفلام الخيال العلمي هذه المسألة فيما يخص الروبوتات التي تتحول في غفلة عن عين صانعها إلى كائن ذكي يحسب له ألف حساب في صراعه مع صانعه الإنسان، ولكن الجنوح إلى الفنتازيا في السينما الهوليوودية ربما افقد هذه الفكرة رصانتها وألحقها بالأساطير. يقدم لنا الروائي سعد سعيد في روايته الجديدة 'فيرجوالية' مقاربة عقلانية لهذه المسألة، ويعيد الاعتبار للعقل والمنطق بعيدا عن الفنتازيا والأسطورة، حيث يفاجأ السارد المركزي في الرواية بوحدة التحكم الخاصة بجهاز الحاسوب الخاص به تخاطبه وتتحاور معه حول دردشاته على موقع الفيسبوك، ويتضح من خلال الحوار مع هذه الوحدة السرية أنها أعدت برنامجا ما لنشر دردشات الراوي وبما تحمله من فضائحيات على شبكة الانترنت، ومع ان السارد يعرف تماما انه قد قام بحذف كافة الدردشات من صفحته، إلا أن الوحدة السرية تخبره بكل ثقة أن مسألة الحذف لا تشكل مشكلة بالنسبة لها، فكل شيء موجود وقابل للاسترجاع في الوقت الذي نشاء، ولن تنفع كل توسلات الراوي في ثني هذا الكيان الافتراضي عن فعلته، فهذا الكائن الافتراضي لا يفهم مثلا أن ذلك سيضر بالطرف الآخر من الدردشة والتي هي امرأة متزوجة ويسبب لها فضيحة اجتماعية، ويخاطب الراوي بكل بلاهة: إذا كان هذا خطأ، فلماذا فعلته أصلا، على العموم يبدأ هذا الكائن الافتراضي النزيه والمحايد والذي لا يملك أي مسلمات أو ايديولوجيات أو أفكار مسبقة، بمحاكمة النظام الاجتماعي وما يتضمنه من كذب ونفاق ودونية وعيوب أخلاقية، يحاكمه من خلال منطق البداهة فقط، هذه البداهة التي غابت عنا أثناء تشييدنا لمنظومات القيم والأخلاق، وهنا نرصد نقدا جذريا للمجتمع من خلال نقد شخصية الراوي التي تمثل هذا المجتمع، والحقيقة أن هذا النقد الجذري كثيرا ما نراه لدى الأطفال النابهين الذين لم يتم تنميطهم بعد وفق المعايير والأعراف الاجتماعية السائدة، الأطفال دائما يفاجئوننا في رصدهم لعوراتنا وعيوبنا، لأنهم لم يتورطوا بعد في لعبة المخاتلة والتبرير والإسقاط والإزاحة وكل هذه الآليات والديناميات النفسية والاجتماعية التي يتفنن فيها الكبار، ومع تقدم الحوارات بين الكائن الافتراضي والسارد نرصد نقدا من نوع جديد، هو نقد منظومتنا اللغوية التي هي في اغلبها مجاز، او استعارة، يخاطب السارد مثلا هذا الكيان الافتراضي متوسلا بان نشره للدردشات الفاضحة سوف يكسر حياة المرأة الشريكة في الدردشة، وهنا يعترض الكائن على كلمة 'كسر' ويبدو انه لا يفقه كيف يمكن أن تنكسر الحياة، فهو لا يفهم الا كيف ينكسر الكأس، طبعا هذا المعلم المهم في اللغة(اعتمادها على الاستعارة) كان موضع نقد مهم من قبل الفيلسوف التفكيكي جاك دريدا، الذي وضع نصب عينيه تفكيك الميتافيزيقا المختبئة في العقل الغربي، واكتشف دريدا أثناء ملاحقته لمعاقل الميتافيزيقا في الفكر الغربي ان الاستعارة هي المولد الدائم للميتافيزيقا، وان الميتافيزيقي يقبع دائما في قلب الاستعاري، وهذا قاد الكثير من أقطاب الفلسفة المحدثين إلى الاستخدام المقنن للغة حتى لا نقع في مطب الإنتاج المتواصل للميتافيزيقا، والاستخدام المقنن للغة يظهر أيضا وبشكل ملح في مبحث حوسبة اللغة، ان قابلية أي لغة للمعالجة والقراءة من قبل الحاسوب هي التي ستحدد قدرة هذه اللغة على الاستمرار والحياة، ويجزم أكثر علماء اللغة ان اللغات غير القابلة للحوسبة سيصيبها الانقراض ولن تقوى على الصمود في عصرنا الرقمي، ومع أن حوسبة اللغة سوف تؤدي إلى قص أجنحة اللغة والحد من قدرتها على التحليق والخيال، إلا انه لا مناص من هذا الإجراء إذا أردنا للغة النجاة، ومن الملاحظ أن اللغة العربية لم يتم لغاية الآن بذل أي جهد لحوسبتها من قبل الناطقين بها، وذلك عائد بالدرجة الأساس إلى صعوبات تتعلق بخصوصية النحو العربي، علما أن اللغات الأخرى قطعت شوطا ممتازا في الحوسبة، هذا العنصر النقدي يمكن اعتباره ثيمة فرعية للنص الروائي. إن الأحداث التي يتضمنها النص تندرج تحت مسمى الخيال العلمي، ولكنه بالطبع مبني على أسس علمية متينة، وهو قابل للتحقق مستقبلا، بل أن البعض يجزم أن المسألة مسألة وقت لا أكثر، وسنشاهد الذكاء الصناعي يشاركنا حياتنا ويتفاعل مع وقائعها، ونحن نذكر روايات الخيال العلمي لجيل فيرن بشيء من الفخر، ففي روايته (رحلة إلى القمر)، قدم جيل فيرن تخطيطا أساسيا لكبسولة فضائية يتم إطلاقها من الأرض بواسطة مدفع من البارود ليتغلب على جاذبية الأرض، ونحن نعلم أن رواية جيل فيرن قد تحققت بكل تفاصيلها الرائعة لاحقا في رحلة المركبة أبوللو، هكذا ننظر إلى الخيال العلمي بوصفه استشفافا للمستقبل واختراقا للزمن، ومبنيا بشكل كامل على معطيات واقعية صلبة، أو بذور غير مرئية، قابلة للتطور مستقبلا لتشكيل عوالم لا تخطر لنا ببال، وحده الخيال العلمي من يمتلك القدرة على اقتناصها، إن تطور وحدة التحكم في الحاسوب ينذر بالفعل، بل يقود بشكل حتمي إلى ولادة الكائن الافتراضي الذكي الذي يقدمه النص الروائي في الفصل الأول. الملفت أن سعد سعيد يخوض مغامرة مزدوجة في عمله الروائي هذا، هناك تجديد في الشكل والمحتوى على حد سواء، فكما أسلفنا على صعيد المحتوى هو يتمشكل مع قضية شائكة تخص الذكاء الصناعي واحتمالات تطوره، ولكن المغامرة الأخرى والتي تشكل مفاجأة حقيقية هي تقديم نص روائي كامل خال تماما من السرد، ويعتمد بالكامل على الحوار، وعلى الشات على وجه التحديد، النص من بدايته وحتى نهايته يعرض دردشات فيسبوك فقط، ومن خلال هذه الدردشات قام الروائي بحقن كافة عناصر العمل الروائي من الشخوص والزمان والمكان والحدث والحبكة والثيمة والصراع في ثنايا الشات. علينا الاعتراف أنها مغامرة تستحق الثناء بالفعل، خاصة أنها نجحت بشكل مؤكد في إقامة بنية روائية مكتملة البناء، حتى وفق أكثر الآراء النقدية محافظة وصرامة، ونستطيع بوضوح كاف معاينة خطين دراميين في النص يمشيان في البدء بشكل متواز ثم يشتبكان في لحظة ما من لحظات الروي، وهذا المعلم (وجود أكثر من خط درامي) مهم جدا في مسألة إلحاق أي عمل بالجنس الروائي، الحقيقة أنني لم اقرأ أي عمل روائي خال تماما من السرد لغاية الآن، وهذه سابقة تسجل للروائي سعد سعيد، لقد خاضت الروائية الفرنسية مارغريت دورا تجربة مشابهة في أعمالها الروائية الخالية من السرد الروائي، ولكن كان هناك انزياح واضح نحو الشعر، وهو الذي أعطى لعملها هويته وإمكان وجوده، جاءت تجربة سعيد لتقدم فضاء روائيا افتراضيا يمتاز بالراهنية والمحايثة، عادة ما يتأخر الجنس الروائي في تعاطيه مع الواقع الاجتماعي، ورصده للتحولات الاجتماعية الكبرى، هناك على الدوام زمن تأخيري في المعالجة الروائية، وهنا نرصد شيئا من الراهنية والمواكبة للواقع الاجتماعي، والتحولات التي أفرزتها مواقع التواصل الاجتماعي، وأثرها في تشكيل وإعادة تشكيل البنية الاجتماعية، وربما يعطي ذلك، الروائي سعيد شيئا من الريادة في هذا المضمار، إن التداخل بين العالم الافتراضي وحياة الإنسان وواقعه أصبح حقيقة، بتنا نلمسها مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي بين الأفراد، ولكن سعيد يذهب بالشوط إلى نهايته ويحطم كل الحواجز التي تفصل هذين العالمين ويحدث نوعا من التماهي بينهما، ويبدو أن السمة المميزة لعصرنا الراهن والمستقبلي هو هيمنة الواقع الافتراضي وتداخله مع واقعنا الحياتي، حتى نصبح غير قادرين على التفريق بينهما، بل أن سعيد يبشر أن واقعنا الافتراضي ربما يتغلب على واقعنا الحياتي، وان الصداقات وعلاقات الحب الافتراضية ستصبح جزءا من حياتنا، وسوف تشكل مصائرنا أكثر من علاقاتنا اليومية، وهذه المسألة تحتاج إلى بحوث اجتماعية معمقة لكشف المزايا التواصلية الافتراضية وسر تفوقها على التواصل التقليدي، والذي تأتي نتائجه في الأغلب مخيبة للآمال، الدراما الروائية في فيرجوالية دراما إنسانية تحتوي من النبل والحب والتسامي والتضحية بنفس الدرجة التي تحتويها الأعمال الروائية الخالدة، وهنا يصادر الروائي على كل الآراء التي تعتقد أن العالم الافتراضي هو عالم عابر ولا مسؤول ولا يتعدى حدود الترفيه الوقتي، بل أننا نصادف كل الحالات التي تشير إلى المعاني الوجودية الكبرى التي يحياها الإنسان، كالحب والكرامة والعار، في النص نرصد قصة حب رائعة وتضحية وإخلاصا وطهارة وعفافا، تترافق كلها مع علاقة افتراضية نشأت وتطورت عبر حوارات الفيسبوك، فالسارد نديم حلمي يقدم أنموذجا نبيلا حين يقدم على بيع سيارته من اجل تمويل رحلته الأسطورية الى استراليا للالتقاء بامرأة افتراضية تعرف عليها من خلال موقع الفيسبوك، والمفاجأة التي يخبئها لنا النص (الشات) أن اللقاء المرتقب والشائق ينتهي نهاية عفيفة دون أي اتصال جنسي، ويكتفي نديم بالتواصل العاطفي المتسامي على الغريزة، هكذا يعمد سعيد إلى إعادة الاعتبار للفضاء الافتراضي وتخليصه مما لحقه من سوء السمعة والانغماس بالشهوانية واللامسؤولية، انه يقوم بتشييد عالم افتراضي جميل حافل بالمثل والقيم والنبل والفروسية، فما دام هذا العالم الافتراضي أصبح جزءا من حياتنا، فعلينا أن نوليه عنايتنا واهتمامنا ونجعل منه عالما جديرا بالعيش، إن سعيد يرفض أن نتعامل مع هذا العالم بوصفه هامشا، بل يطالبنا أن نضيفه إلى متن حياتنا ونملأه بكل ما هو نبيل وجميل، ويبدو أن لا مناص لنا من الاعتراف أن فضاءنا الافتراضي أصبح جزءا حميما من وجودنا، لا نقوى على الاستمرار بدونه، وسواء وصفه البعض بالإدمان أو الحق به الكثير من النعوت السلبية، فإن فضاءنا الافتراضي أصبح مكونا أساسيا من حياتنا لن يكون بمقدورنا التنازل عنه . |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ مجدي ممدوح
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|