الثورات متنوعة، ثورة دائمة وآخرى موقتة، ثورة ضادة وأخرى مضادة، ثورة غادرة وأخرى مغدورة، ثورة سارقة وأخرى مسروقة، ثورة قرنفل وثورة عوسج، انقلاب ربيعي وسحابة صيف. فللثوار في ثوراتهم شؤون! يوما ما، كنت أظن أن الثورة الفلسطينية أعجب الثورات.
كانت الثورة الفلسطينية، وستظل، مصدر حيرتي. فقد جمعت بين الدولة والثورة في جسد واحد. هذا الجمع ليس غريباً في ذاته، فكثير من الثورات أقامت سلطات لها على رقع محررة من الأرض. ما حدث للثورة الفلسطينية، أنها أقامت ثورة مستدولة، دولة ثورة تحت الاحتلال، دولة تحتاج الى ثورة لكي تتحرر من عبودية الدولة، وثورة تحتاج الى التعري من ورقة تين الدولة لكي تغدو ثورة. هذا التعقيد الداخلي الغرائبي: دولة عارية وثورة محجّبة، هو مصدر دهشتي. في هذا المزيج التهجيني القاتل، تفقد الدولة صفتها كدولة، وتفقد الثورة خصائصها كثورة، ولا يبقى من الإثنتين سوى الألهية السياسية المميتة، ألهية الصراع اللانهائي على اقتسام جسد الدولة والثورة وروحهما. كثير من الثورات تنسى أهدافها بعد الانتصار، بيد أن أعجب ما في الثورات العربية، هو مسار بعض أطراف المعارضة السورية، الذين سُجّل عليهم أنهم نسوا أهداف الثورة وهي في مرحلة الشروع، نسوها مبكرا منذ مرحلة البيانات. بيانهم الصباحي يصرخ مستعطفاً: سلمية! بيانهم المسائي يعلن تدمير قطار معاد للشعب ينقل طحين الخبز، ويعد ببزوغ الفجر عقب الإطلاقة الأولى، ثم يحصي عدد الإصابات القاتلة، التي أوقعها جيشها الحر بالجيش المعادي، الموالي للشعب السوري الآخر. بيانات الثورة السورية تتلاطم بشدة في اتجاهاتها ورسائلها، بيان يلطم وجه بيان. ربما يكون هذا المأخد دليلا جديّا، يشي بأمور كثيرة، أهمها، أننا أمام حراك مضطرب الإرادات. لا أعني هنا إرادات الحالمين بالتغيير. لكني أعني إرادات التنافس بين الواقع والخيال. إرادات أصحاب المشاريع المتعددي الرؤوس والأهواء المسيّرين للحدث السوري، وإرادات بعض المنفذين أيضا. ففي سوريا لا ينفك المخطط الثوري، المجهّز خارجيا للتنفيذ سوريا، يصطدم بمعضلات خاصة، حسية، يفرضها الواقع العملي السوري الداخلي والعربي والإقليمي والدولي. لقد انغمرت الثورة، افتراضيا وليس عمليا، بمهمة إزاحة العقبات التي تعترض طريقها خطابيا فحسب. ولم تكلف نفسها مهمة إزالة العقبات الواقعية غير المتوقعة، التي تنتصب أمامها في كل منعطف. بل مضت، كالأعمى، في تنفيذ خطوات "الواجب المدرسي"، بحسب تسلسلها في المخطط النظري، قافزة الى الفقرة التالية، من دون أن تنظر في صدق تحقق ما سبقها على أرض الواقع. لا ضرر في هذا، يقول مشرّعو اللعبة من الخارج. لأن اختلاط الحقائق بالأوهام، والأماني المشروعة بالأحلام المريضة، والمطالب الجماهيرية التاريخية بالنداء الغامض الأناني، ودم الشعب من الفريقين بلوثة الإعلام، وانتصار عنف الثورة السارقة على الإرادة الخيّرة للثورة المسروقة، ما هي سوى مقدمة كافية وشرعية، تقيم الحجة كاملة على أن المجتمع السوري لا يقوى على حل مشكلاته بنفسه، وأن اليد الأجنبية الحانية خيار حاسم ووحيد. هذا أبرز بيانات الثورة السورية، جناحها السارق تحديدا، جناحها المفتون بالسلاح وبنشيد الله أكبر. في الثورة السورية تكون اللحظة الثورية المقررة في مكتب أردوغان، هي التي تصنع الواقع السوري، وليس الواقع السوري هو الذي يخلق لحظته الثورية ويصوغ مخططه الثوري وأهدافه واتجاهات سيره. فكلما أزيحت عقبة أمام المعارضة رافقها تصعيد عنفي يشمل سقفين، هما: الوسائل العنفية والتنظيمية من جهة، والمطالب والشروط القطعية المتحجرة من جهة أخرى، التي سرعان ما تصطدم بعقبة جديدة، لا تتيح تطوير عملية تسارع إسقاط السلطة ولا تسارع تدويل المعركة، كما خطط لها على الورق نظريا، وكما تنطق بها البيانات. لذلك بدت الثورة عجيبة اللسان والخطاب، على رغم وفرة الحجج. رئيس لجنة المراقبة العربية، محمد الدابي، يكون الكلمة الفصل في بيانات الثورة صباحا، ويغدو مجرما مطلوبا لمحكمة العدل الدولية في اليوم التالي! الطفل المختطف من قبل الشبّيحة يصمد أمام التعذيب، لكنه يأبى أن يفشي أسرار الثورة فيقتل، ثم يمثّل به: يقتلعون عينيه، ثم يقطعون عضوه التناسلي! الباخرة الإيرانية التي رست في اللاذقية لا تحمل سوى خبراء في مجال التعذيب! مئات الأخبار النيئة الطبخ، توحي لسامعها كأن النظام السوري على درجة من العفة أنه لا يملك حتى أجهزة للتعذيب، ولا يراقب سوى أعضاء الأطفال التناسلية، بحثا عن أسرار الثورة. هل حقا أن الواقع السوري يفتقد، الى هذا الحد المزري، وجود حقائق تجسد معاناة الناس السياسية؟ هذا الهراء نعته البعض بأخطاء محتملة تحدث في كل ثورة يسيطر عليها الجانب العفوي. وهذا رأي حصيف. لكن العميد الطيار قاسم سعد الدين، الذي أعلن أنه القائد الوحيد المخول التحدث باسم الثورة في منطقة الرستن وما يحيط بها، يكذّب ذلك. يكذّب ذلك تماما حينما يعلن أن المدينة هادئة، بأيد أمينة، تم رفع العلم الحر على متاريسها، ثم يطلب من الأهالي ممارسة حياتهم الطبيعية. حدث هذا في الخامس من شباط، الساعة السابعة وخمس دقائق مساء، من على قناة "الجزيرة". في الساعة السابعة وثماني دقائق فحسب، من اليوم نفسه، من المدينة نفسها، من الحي نفسه، يذيع ناشط للثورة السورية بصوت باك، أخبارا عن مجازر حدثت طوال يومين ولم تزل تحدث حتى هذه اللحظة، ويطالب المجتمع الدولي بإنقاذ من بقي من الأهالي. ثم ينهي تقريره قائلا: "الله أكبر! أين جيوشكم يا أصدقاء الثورة السورية؟". بُثّ الخبر من على شاشة "العربية". "القاعدة" تقول عن تفجيرات دمشق إنها غزوة جهادية أرسلت أجساد الشبّيحة الى بئس المصير، وبيان الثورة يقول: إنها من صنع مخابرات النظام، أما اللحم المنثور فقد جلبوه من دكاكين الجزارين! أيّ الثورتين يختار المواطن المغلوب على أمره؟ في ندوة نظّمها حزب "الاخوان المسلمين" التركي، تشرح ناشطة سورية، بإسهاب ممل، صورا من حقوق المرأة السورية المهدورة، ثم تعرضها على قناة إخبارية سعودية، وتطلب منهم مساعدة المرأة السورية، بقوة السلاح إن أمكن، لكي تنال المرأة المظلومة أبسط حقوقها! كيف يقف المواطن السوري المحايد أمام هذا الضجيج المحيّر؟ كيف يمكن لثورة أن توسع رقعتها الجغرافية والسياسية والتربوية وهي تخاطب شعبها بهذه المنغصات العقلية، التي لن تصنع من مصدّقها، إن وجد، سوى لص قادم، أو قاتل قادم، أو فاسد ضمير مؤكد. لقد قلب بعض المعارضين قوانين الثورات كلها رأسا على عقب. صيّروها من ثورة اجتماعية الى مؤامرة انقلابية. انقلاب يذكّر بالانقلابات العسكرية، التي يقودها نفر ماكر من الضباط، يعلنون بعدها برنامجهم الثوري الأخضر، المدعوم شعبيا. لقد دُفعت المعارضة الى اختيار ثورة مبرمجة، رسمت خطواتها ووقّعت تقريرها الختامي قبل أن تبدأ خطواتها الأرضية الأولى. المبالغة والتفنن في الكيدية، طلبا للتدخل العسكري الاجنبي، صغّرا حجم الثورة والثوار في عين المواطن السوري المحايد، وأحالهم مستذلا رثا، يفتقر الى الإحساس بالكرامة الوطنية. هذه المبالغة تجعل السوري المحايد يحسب أن الثورة إذا ما قدِّر لها أن تنتصر قبل الأوان، فإنها لن تقبل حتى باستسلام السلطة. بل ستفاجئ العالم أجمع بإعلانها رفض تولي السلطة، قبل دخول القوات الأجنبية. السيناريو العراقي يعاد رسمه سوريا، مقلوبا رأسا على عقب، بعد تصحيح أخطائه الدعائية والذرائعية المفضوحة، وإعادة إطلاقه في أرياف سوريا ومدنها الحدودية والثأرية، بثوب إعلامي جديد. بيان الثورة التأسيسي نسخة شبه كاملة من بيان مؤتمري صلاح الدين العراقي، تشرين الثاني 1992، ومؤتمر أربيل شباط 2003، بصيغتيهما الطائفية العرقية التحاصصية، ولكن بشروال شامي. في العراق كان الاتجاه الديموقراطي في الحركة الوطنية العراقية يطالب بثورة شعبية، أو بتغيير داخلي جذري، من طريق الإسناد الدولي. ولا نعني الأميركي أو العسكري، وإنما التدخل السلمي لهيئات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان. ففي ذلك الوقت، الذي سمّي مرحلة الحصار، كانت القوات الأميركية تضرب العراق جويا بشكل يومي، نجم عنه تدمير بنية العراق تدميرا جذريا "لا صلاح بعده"، ولم تتبق سوى عملية دفن المريض الهالك. المطالبة بالحماية الدولية بديلا للغزو، كانت مشروعا سلميا معارضا للغزو وللسلطة الديكتاتورية في الوقت عينه. أي كانت حلا سلميا حقيقيا، رفضه الطرفان. لقد قبل صدام بمراقبين يفتشون مقر قيادة العمليات الحربية، ويراقبون حتى قصره وغرفة نومه، لكنه رفض أن تأتي هيئات مدنية لمراقبة قيام انتخابات حرة. قوى المعارضة الطائفية والعرقية وبقايا البعث في المعارضة، رفضت الحل السلمي أيضا، لكنها في الوقت عينه آثرت الاحتفاظ بقواها جاهزة (حوالى ربع مليون مقاتل)، وجاءت محتمية بظلال الدبابات، مدّخرة قواها لحروب أخرى مقبلة، محتملة، تلي حرب "التحرير". لقد تم التنعم بفضائل الحل العسكري والغزو "الوطني"، متهمين كل من يعارض الحرب بالخيانة وبالعمالة للديكتاتور. لقد أثبت التاريخ أن ذلك التواطؤ المريب، الذي سمّوه "تطابق المصالح"، و"تطابق اللحظة التاريخية"، و"تطابق الإرادات"، لم يكن سوى تطابق تام في قضية واحدة: افتراس وطن جريح. لقد تم هذا الافتراس بيسر تام وانجز على أكمل وجه في بضعة أيام، وأعلنت القوات الغازية النصر بعد ستة أشهر فحسب. لكن الواقع العنيد أثبت أن الانتصارات لا تخطط على الورق، وفي الأماني أو في الفضائيات وفي أكاذيب البحث عن أسلحة دمار شامل، بل ترسم على الأرض. لقد انفتحت الجحيم العراقية على مصراعيها: الحرب الداخلية، التقاسم الطائفي العرقي، النهب المجاني البشع. اضطر العالم أجمع، بمن فيهم من جاؤوا مع المحتل، الى الاعتراف بجسامة الكارثة. لأنها وصلت حدودا تفوق خيال أسوأ المتشائمين، وبدأت تأكل حتى مشرّعيها ومشعليها. ها هم بعض أطراف المعارضة السورية، يسعون الى الأمر نفسه، يطالبون بالحماية الدولية، ليس بديلا للغزو، بل مقدمة تمهيدية له. مجددا تقلب بعض قوى المعارضة السورية القوانين كلها، تبدأ حربها من النهاية، من الكارثة. إن استعجال الانتصارات ليس مطلب الشعب الصابر، المبتلي منذ عقود، بل هو مطلب السياسيين المتعجلين والقوى المأزومة. إن الشعب يريد أن يخرج من حقبة قاهرة، لا خلاف حول ضرورة عبورها، بما يستحق أن يُعاش من أجله، وليس من أجل أن يكابد عقودا قادمة بغية تصحيح مسارات خيارات معوجّة أصلا. لست خائفا من الثورة السورية، ولست خائفا عليها. إنني خائف على الطفل السوري، الممزق الجسد، أن يضيع دمه هدرا، أن تصنع منه البيانات والبيانات المضادة لوحة للرماية بالذخيرة الحيّة. إنني أتساءل: أي بيان ستصدر قيادة الثورة عند نجاحها، سوى بيان "جئناكم محررين لا فاتحين"! وكم عدد الخونة الذين سيتم الانتقام منهم عند مواجهة معضلة التفريق بين الغزو والتحرير؟ هذا ما يُعسّر على المرء قراءة بيانات الثورة السورية، والثورة المضادة أيضا. في سوريا تحديدا تملك القوى الديموقراطية حظا جيدا في حجز مكانها في النظام الجديد، الذي سيقوم على انقاض حقبة الحزب الواحد. هنا فقط يملك الديموقراطيون العرب الآن حظا أوفر يمنع اختطاف الثورة من قبل التكفيريين والسلفيين ودعاة العنف والتدخل الأجنبي. وربما يكمن هنا سر التكالب على رسم القدَر السوري. على المعارضة أن تختار طريقها ونهجها وأسلوب تحقيق غاياتها. أما النظام فدعوه يواجه قدره بقوة الإرادة الواقعية، الفعلية للشعب، لا بقوة مجلوبة إعلاميا أو ثأريا أو بقوة التنافس الدولي والإقليمي. فالقوة الأخيرة هي نتاج تفاعل وجهي المعادلة العنفية: نظام الحزب الواحد ومصالح التيارات السلفية التكفيرية العنفية. هما وجهان لشمولية واحدة، هدفها غلق كل إمكان لقيام نظام حكم ديموقراطي عربي، يحتل فيه المشروع التحديثي العربي مكانة واقعية. إن افتراس الديموقراطية هي لعبة الطرفين التقليدية الأثيرة. لذلك، فإن الافادة القصوى من خبرات الثورات العربية، لا يتم من طريق انتقاء أسوأ جوانب هذه الثورات وتجريبها: العنف الداخلي والخارجي والإعلام التهريجي. إن مواصلة نهج تجميع الخبرات السلبية يقود في النهاية الى جعل التحرك المعارض يواجه الغالبية العظمى من الشعب، ويقود لا محالة الى اختلاق عداء تام مع قطاع كبير من المجتمع، حتى لو تمكنت المعارضة المسلحة حقا، بالعافية، من إسقاط السلطة. لقد أثبتت تعقيدات الصراع وتداخله أن تسليح الصراع يخيف الشعب! يخيفه من المعارضة حتى قبل وصولها الى سدة الحكم! فلا يكفي أن تكون خلف المعارضة قوى دولية وإقليمية ضاربة وجبارة ماليا ودعائيا وعسكريا وسياسيا، يجب أن يكون خلف المعارضة شعب يثق بها ويؤمن بأهدافها وبنهجها، ويثق أولا وأخيرا بالمستقبل الذي تريد أن تصنعه. |