|
|
وصل القطار..لمَ لا يهبط المسافرون؟ |
|
|
|
|
تاريخ النشر
01/06/2012 06:00 AM
|
|
|
كنت في وقت سابق قد كتبت عن تزييف الاعمال الفنية في العراق، ومررت بطريقة عابرة بالمشاريع الثقافية الوهمية التي ارتبطت ببرنامج المساعدات الذي اعتمدته سلطة الاحتلال يومها لإعادة اعمار البنية الثقافية في بلد أعيدت فيه الحياة إلى العصور الحجرية، بفعل حربين شاملتين، فصلت بينهما 13 سنة من الحصار الدولي الذي أذل كرامة الشعب العراقي وقضى على الكثير من مقومات بقائه. كان تزييف الاعمال الفنية واحدة من المهن الغريبة الكثيرة التي ابتكرت أثناء السنوات الكئيبة تلك، بكل ما تخللها من تشرذم أخلاقي، كان العلامة التي تشير إلى خراب أعظم ضرب بعواصفه الأنفس والأجساد معا. ولكن العراقيين وقد صبروا على تلك المحنة، التي لم يتعرض لها شعب من قبل، لم يكفوا عن الانتظار. كان هناك أمل في مكان ما، لم يكف النظام الحاكم عن التلويح به. بل أن المجتمع الدولي كان أحيانا يبدي مرونة، توحي أكثر مما تظهر بان الضمير العالمي (وهو تعبير هلامي لا ينصح الخبراء عادة باستعماله) صار يشعر بالاشمئزاز مما يتعرض له الشعب العراقي من انتقام وحشي. أثناء ذلك كانت الثقافة تتدهور. حتى وسائل الدعاية صارت تسقط في الحضيض، من جهة امكاناتها التقنية وأساليبها الخطابية. الفقر كان جليا. وبسبب الحصار بكل شروره فان النظام الحاكم كان قد أخلى طرفه مما يجري ولم يعد مسؤولا إلا عن توفير متطلبات الحصة الغذائية، التي قدر خبراؤه أن في إمكانها أن تبقي الفرد على قيد الحياة. غير أن أملا في التغيير، ربما ستكون الحياة معه قابلة للعيش، بطريقة كريمة كان يدفع العراقيين إلى أن يحلموا بعراق تبنيه كفاءات عراقية، كُتب عليها أن تعيش منفية ومهاجرة، موزعة بين بلدان اللجوء. ولأن العراقيين ليسوا كائنات اتصالية، بحكم ما فرض عليهم من سبل العيش المكتفية بأدواتها المحلية طوال أكثر من ثلاثين سنة، لم تكن معرفتهم بما يحدث في الخارج لتساعدهم على الوصول إلى الحكم الصحيح على الأشياء (انتشر الانترنت والهاتف النقال جماهيريا في التسعينات وبالضبط في ذروة المأساة العراقية). وإذا ما حصرت الأمر بالمسألة الثقافية فإن العراقيين كانوا يحلمون بعودة المثقفين المنفيين ليكونوا روادا لحراك ثقافي يخرج الثقافة العراقية من المستنقع الآسن الذي سقطت فيه. كان ذلك الحلم يعبر عن حسن النية، بالقدر الذي يجسد جهل العراقيين بما كان يجري بعيدا عنهم. ولم يكن هنالك يومها عراقي واحد (داخل العراق) ليصدق أن بلده سيعاد احتلاله، وسيكون المثقفون المنتظرون باعتبارهم روادا لحراك ثقافي مقاوم للخواء جزءا من عجلة ذلك الاحتلال. وكعادتهم، فإن العراقيين حاولوا عام 2003 أن يزيحوا الصخرة التي صدمتهم عن الباب الضيق ليدخلوا إلى الحفل. ولأن الحفل كان استعماريا بطريقة مبتذلة فقد سعى البعض منهم إلى تمرين صوته من أجل أن ينسجم مع النشيد الجديد. هناك عراق جديد وعلينا أن ننسجم معه. لم تكن لديهم فكرة عن خرائط العراق الجديد. والخرائط هنا لا تقتصر على البعد الجغرافي، بل وايضا وبشكل اساس على البعد الإنساني. العراق الجديد له ناسه، سكانه ذوو الصفات الأخلاقية المبرمجة وفق سلم موسيقي لا يخطىء في احداثياته الرياضية. لم تكن هناك لغة مشتركة بين مثقف كان دائما ضحية وبين مثقف آخر حضر باعتباره وريثا، يحق له أن يفترس ما يشاء من تركة كان العراق كله مادتها. اكتشف العراقيون وإن في وقت متأخر أن المنقذ لم يكن إلا عدوا يتحدث لغتهم الرسمية ذاتها ولكنه لا يستعملها إلا حين يرغب في املاء تعليماته والحفاظ على مصالحه. كنا أعداء إذن. لم تجمعنا المواطنة يوما ما، وها هي المصالح تفرق بيننا إلى الأبد. لم يكن هناك بلد مشترك يليق بنا أن نبنيه معا. ذلك لان فكرة البناء لم تكن إلا شعارا، اتخذ صيغة اعادة الاعمار في السنوات الأولى من الاحتلال، وحين نضبت الأموال المخصصة لذلك الشأن، تخلى الكثيرون عن الفكرة وعادوا إلى بلدان لجوئهم، باعتبارهم مواطنين مهذبين بعد ان محوا كل أثر يشير إليهم. كانت الخديعة مبيتة. وهذا ما لم يفهمه العراقيون. لقد أسرتهم العاطفة، وهي عادة عراقية، فكانوا يصدقون كلاما هو أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. كان القادمون بمعية الغبار النووي يتلون قصائد مظفر النواب كما لو أنهم سيحفرون حروفها بدموعهم على الصخور، وكانت المراثي وصفتهم السحرية لينالوا شفقة شعب هده الانتظار. و 'مرينا بيكم حمد وأحنه بقطار الليل' ونبكي. غير أن القطار كان قد وصل أخيرا. ليست هناك سوى محطة واحدة. أبقى الاستعمار لنا أثرا حيويا منه في محطة غربي بغداد. كنا نود أن نذهب بقطارنا إلى برلين غير أن الحرب العالمية قيدتنا بقطارين. قطار ينزل إلى البصرة وآخر يصعد إلى الموصل. كنا نود لو أن ناشطا واحدا على الأقل من نشطاء منظمات المجتمع المدني قد هبط من قطار الليل الذي مر بـ(حمد) الذي كان يشرب القهوة. في مكان آخر حضر الخبراء ولم يحضر المثقفون. فجأة أصبحنا مجتمعا مدنيا، وصار لزاما علينا أن ننصت إلى ما تقوله منظمات ذلك المجتمع القادمة من أطالس الديمقراطية. ولأننا كرهنا المنظمات الحزبية فقد احتلت منظمات المجتمع المدني الجزء القريب من الباب. نفخة واحدة تذهب بها إلى الخارج. وهذا ما خطط له عرابوها. لم يكن المزاج النظري ليسمح بالاختلاط بالغرباء. ولم تكن صدفة أن يكون أولئك الغرباء هم سكان البلد الاصليين. كانت عملية اعادة اعمار البنية الثقافية طموحة إلى الحد الذي سمحت للقائمين عليها بشراء عقارات فاخرة في بلدان اللجوء. معلوماتي المتواضعة تقول ان السويد منحت أحدهم مبلغا لتأثيث المسارح العراقية فأشترى بجزء من ذلك المبلغ بيتا ووضع ما تبقى في المصرف. وكانت سيدة قد وعدت بتطوير ثقافة معلمات الباليه في العراق قد مُنحت مبلغا، كان كافيا لشراء ثلاثة بيوت للعائلة. المسارح العراقية لم تؤثث، فهي اصلا غير موجودة، أما معلمات البالية فان خبرهن لدى الرسام الفرنسي ديغا. لم يصدق العراقيون أن المثقفين الذين وصلوا بمعية المحتل كانوا لصوصا. لو احتكمنا إلى لغة المنطق، وهو أمر لا يفعله العراقيون عادة، فان المحتل (اي محتل) لن يجلب معه من أبناء البلد الذي يحتله سوى اللصوص، الافاقين، المخادعين، المحتالين، مرضى الانتقام والثأر. وهذا ما حدث فعلا في العراق. كانت هناك منح لتطوير السينما، للنهوض بالمسرح، لإعادة الحياة للفرقة السيمفونية، لتأسيس دور نشر عملاقة، لاصدار صحف يومية، لبث الروح في مدرسة الموسيقى والبالية، لافتتاح قاعات للعروض الفنية ولأرشفة للفن العراقي. غير أن تلك الاموال ما ان هبطت حتى تبخرت. مَن خدع مَن؟ لن تكون سلطة الاحتلال غبية إلى الدرجة التي تؤدي بها إلى احتضان أناس يخططون لبناء بلد دمرته بقنابلها. هناك لعبة دعائية، كان عراقيو الخارج مادتها وهم ايضا المستفيدون منها. في مكان آخر كان المقاولون قد عبدو طرقات تغطي بمساحتها أربعة بلدان بحجم العراق، لكنهم فعلوا ذلك من خلال تقنية الفوتو شوب. لم يعبدوا كيلومترا واحدا على أرض الواقع. كان الفن العراقي تتم ارشفته بالطريقة نفسها. صورة متداولة لجواد سليم يمكنها ان تقود إلى رسالة (لا قيمة تاريخية لها) منه إلى أخته. هذا ما تخبرنا عنه النسخة الاولية للمشروع. وحين ننتظر ولا يكون لانتظارنا معنى، فلابد أن ننتبه إلى أن ذلك الموقع الالكتروني قد أسدل عليه الستار، صار شبيها بمشاريع المقاولين الذين يعبدون الأرض باعتبارها نوعا من الفضاء الافتراضي. ارشيف الفن العراقي لم يكن سوى التجسيد الفضائحي لمئات المشاريع الوهمية التي ابتلعت ملايين الدولارات بحجة اعادة اعمار الثقافة العراقية. كانت هناك خبرة في اقتناص الأموال السائبة، من غير الاشارة إليها سيكون علينا أن نؤسس لبلاهة جماعية. وهو الامر الذي يجعلني متأكدا من أن كل شيء لم يقع بالصدفة. كانت هناك مناقصات، لم يتقدم إليها إلا مَن وقع عليه الاختيار. وهل يمكننا أن نشكك هنا بذكاء ذلك الاختيار؟ لم يمس المختارون أرض الثقافة العراقية إلا بخفة. لم يشعر بهم أحد إلا باعتبارهم ضيوفا ملائكيين. وحين اختفوا لم يشعر بهم أحد. حضروا كما لو أنهم لم يحضروا. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ فاروق يوسف
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|