حوار مع المفكر الفرنسي تزيفتان تودورف: عن 'غويا' الشارح الرؤيوي للجانب المظلم من الأنوار! حوار : صوفي بوجاس ترجمة : إسماعيل أزيات
هل الرّسم يفكّر؟ هل في الإمكان قراءة لوحة كما يُقرأ بحث سياسي أو فلسفي ؟ تلك هي الأسئلة التي يعرض لها المفكّر تزيفتان تودوروف في دراسته الجديدة ' Goya ê l'ombre des lumi'res' ( منشورات فلاماريون 2011). إنّ الرسّام الإسباني غويا (1746 ـ 1828)، بالنسبة إليه، هو واحد من المحلّلين الكبار لعصره، و الشارح الرؤيوي للجانب المظلم من الأنوار.
س : لماذا البحث عن فكّ رموز فكر غويا من خلال آثاره؟ ج : كانت الرّسوم، منذ أقدم العصور، حاضنة للمعنى ! يبدو لي من الطبيعي التساؤل عن دلالتها. و في حالة غويا، الأمر يسيرلأنّه وضع توضيحات ( تهكّمية، مضحكة، خالقة للمفارقة...) لجميع نقوشاته و لعدد غير قليل من رسوماته. نصوص و رسوم مصوغة، حقيقة، ضمن تيار واحد. و بالاتصال بأعمال غويا خاصّة، استشعرتُ أنّي أواجه واحدا من العقول نافذة البصيرة لكلّ هذه الحقبة الموسومة بالأثر الحاسم لفكر الأنوار و للثورة. إذا كانت هذه الأفكار التنويرية قد وجدت لها صدى مباشرا في إسبانيا و لاسيما في الأوساط التي كان غويا يختلط بها، فإنّ ردّة فعله كانت من بين الأكثر قوّة و إيحاء. لم يشاطر الأنوار بعض أوهامها لأنّه كان يعاين ما يجري حوله بتيقظ شديد .
س : أكان يرتاب في مآل الأنوار إلى الفشل ؟
ج : لنقلْ بالأحرى إنّه كان يرى الجانب المظلم منها. كان يقرّ بالتأكيد معركتها ضدّ الخرافات و الأوهام و الجهالة إلخ. غير أنّه كان يدرك أيضا أنّ الرّغبة في الخير يمكن أن تكون أحيانا مضرّة أكثر من الرّغبة في الشر ! تُظهر وقائع عصره أنّه لا يكفي أن تطالب بالعقل و بمُثل كالمساواة أو التآخي ليكون سلوكك متلائما معها. لقد وضعت الأنوار موضع شكّ أعمدة المعتقدات التي عاشت عليها الشعوب منذ قرون. هذه الخلخلة كانت حاملة لأمل : يستطيع الإنسان أن يبحث عن خلاصه بنفسه، عوض أن ينتظر ذلك من السّماء ومن الأقدار. الثوريون الفرنسيون تأمّلوا بلوغ هذا المثل الأعلى. لكن غويا كان الشاهد على الاحتلال النابليوني لإسبانيا. كان يرى أنّ هذا الجيش المكلّل بمُثل الأنوار و الثورة، المُرحبّ به من قبل قسم من أصدقائه المتنوّرين قد جلب معه الحرب و القمع و العنف. اكتشف أنّه من السّهل للغاية القتل باسم حقوق الإنسان سهولة القتل باسم الله ! تجلّت له هذه الرؤيا في ردح من الزّمن قصير، في حين كان يتوجّب على الفرنسيين انصرام ثلاثين أو أربعين سنة حتى تنشأ خيبة الأمل هذه كما وصفها ستاندال على نحو ما. و الحال أنّ هذا كشف بالغ الأثر كاف ليغمس المرء في تشاؤم عميق... مع ذلك، لم يتخلّ غويا عن الدّعوة إلى العدالة، إلى الحرية و إلى العقل. ظلّت هذه الغايات مُثله العليا.
س : هل يُعيننا غويا على فكّ رموز الكوارث الكبرى في تاريخنا المعاصر ؟
ج : إنّني منذهل، حقيقة، أن أرى إلى أيّ مدى تبدو هذه الرّسومات مرصودة لتضيء أحداثا طرأت بعده. لقد رأى كلّ شيء ! الرّسم المُعنون ب ' طريق الحجيم ' الذي يصوّر كائنات إنسانية مدفوعة إلى النّار، تعطي الإحساس بنذير مخيف. لا يمكننا إلاّ التفكير في الأفران المحرقة... و أمام منقوشة ' خراب الحرب ' التي تمثل اللحظة التي تلي انفجار كرة المدفع، تخطر على البال توّا ' غرنيكا ' بيكاسو. كما لو أنّه أبصر في تكوّم الجثث أثر الحماقة التي تستحوذ علينا أحيانا. تذكّرنا هذه المشاهد من التنكيل بالصّور المأخوذة من سجن أبو غريب. أفكّر في هذه الصّورة لجندي فرنسي و إلى جانبها نلمح شخصا مشنوقا. ما يغيظ هو وجهه الهادئ، كما جرحتنا، قبل كلّ شيء ابتسامة الجنود الأمريكيين الشبّان الذين كانوا يشيرون مغتبطين لآثار التعذيب فوق الأجساد الإنسانية المتكدّسة. و بعيدا عن أيّة عاطفية أو انشغال ميلودرامي، كان غويا رؤيويا لا يطلب منّا البكاء و إنّما أن نصير نيّري العقل.
س : لكي تعارضوا التدخل العسكري في ليبيا، ذكّرتم بدرس غويا : ليست هناك حرب نظيفة...
ج : كان رأي غويا ناجعا من وجهة النظر هذه، لأنّه يذكّرنا أنّ وراء الشعارات الرّائعة التي يمكن أن تُهيّجنا بمناسبة ما، ثمّة حقيقة هي حقيقة الحرب التي يُظهر وجهها البشع. لا يتعلّق الأمر بمحق كلّ اندفاع نحو الخيرأو نحو الآخر، و لكن بفهم الحقيقة الشنيعة التي يمكن أن تنجم عن ذلك؛ حقيقة القذائف و التراشق بالرّصاص و التفجيرات... بإزاء هذا الثمن جدّ الفادح، يلزم التردّد طويلا و التساؤل دائما إذا ما كانت توجد هناك وسائل أخرى لبلوغ نفس الغايات. الأمر الجلل الآن، أكثر ممّا كان عليه الحال قبل عشرين سنة، أنّنا تأسرنا حماسة مسيحية تقتضي الاعتقاد بإمكانية نقل الديمقراطية و حقوق الإنسان و فرضهما بواسطة القوّة ! هذا المشروع يتركني مرتابا على نحو عميق...
س : يرفض غويا أن يجمّل الفظاعة. مع ذلك، لا يمكننا رؤية أعماله دون أن تفتننا بروعتها...
ج : لا مفرّ من تشوّش الفهم، لأنّنا حين نواجه أعمال غويا ليس في مستطاعنا التوقف عن الإعجاب بها. حاولت في كتابي، مع ذلك، التذكير بأنّ غويا لم يكن يلتمس الجمال، بل الحقيقة. كان الرّسم، بالنسبة إليه، شكلا من أشكال المعرفة : معرفة الحقيقة الدّاخلية و لكن أيضا حقيقة العالم الخارجي. اليوم، صحيح أنّنا نذهب إلى المتاحف كي نتمتّع بآثاره، لكن أعتقد أنّه لم يسجن نفسه تماما فيما هو إستطيقي محض. و الشاهد أنّه غالبا ما يتمّ استخدام رسوماته لتبيان كوارث الماضي أو الحاضر. مؤخّرا، رأيت رسمه ' الجبّار' عل غلاف كتاب معاصر يتحدّث عن الحرب الشاملة. لم تفقد تصاويره قوّتها التأويلية. لا أظنّني الوحيد الذي يتساءل عن ما توخّت قوله.
س : كان يراهن على أن تعيد الأجيال القادمة قراءته. أليس كذلك ؟
ج : على أيّ حال و في حدود معرفتي، فإنّ غويا هو الرسّام الوحيد الذي تمّ اكتشاف اعماله الأكثر تأثيرا أو على الأقل تلك التي تمسّنا بعمق اليوم، بعد مماته. العديد من رسومه موجّهة لغايات شخصية، دون أن تكون مجرّد أعمال تحضيرية للوحات كما هو الشأن لدى رسّامين آخرين. يكتبُ لها عناوين شارحة و يضمّها في ألبومات مرقما إيّاها وفق الترتيب الذي يخاله الأكثر نباهة... إجمالا، يُهيّئها من أجل أن يتمّ تلقيها من قبل الآخرين، إلاّ أنّه لم يكن يطلع عليها أحدا. سلسلته الأولى من النقوش ' الأهواء ' تمّ إنجازها بالتأكيد لغاية أن تُباع، لكن أمام ردود الفعل المتحفظة التي استثارتها، سحبها من التداول بعد خمسة عشر يوما ! و احتفظ في حوزته بسلسلته الثانية من النقوش ' خراب الحرب ' لأنّه قدّم فيها، لا شكّ، ما أسمّيه ' خراب السّلم ' : القهر الذي كابده الشعب الإسباني أثناء فترة الإصلاح، حين استعادت محاكم التفتيش قواها و استأنفت الإضطهاد. كلّ هذا جعل مجموعته من المتعذر نشرها. و ماذا عن باقته الأخيرة ' الرّسوم السّوداء ' ؟ هذه الرّقع التي استخدمها لتزيين حجرتين كبيرتين من منزل كان قد أتى على اقتنائه و لم يُريَها لأحد ! إنّه لمن العجيب أن نتصوّر إنفاقه سنتين و هو يملأ الجدران بما سيصير قمّة أعماله جميعها ثمّ بعد ذلك يغلق منزله بالمفتاح و يرحل إلى خارج البلد دون أن يستطيع أيّ أحد أبدا رؤية هذه الرّسوم أو التعليق عليها... مع ذلك، كان غويا يحمل فكرا للمشاهد الذي سيأتي كما لو أنّه يوصد على أعماله في قارورة و يرمي بها في البحر، مع أمل أن تبلغ، بعد زمن، شاطئا مضيافا و تجد رسالته من يفكّ رموزها. هذا ما سيسحدث بعد أربعين سنة من وفاته لحظة تمّ الشروع في نشر 'ّ خراب الحرب ' و اكتشاف الرّسوم السّوداء و نقلها إلى لوحات قصد عرضها في المتاحف.
س : أيبشر بمفهوم جديد للفرد ؟
ج : بلا ريب. غويا يقوم بثورة، بمعنى حين يعرض الأشياء وفق إدراكه و رؤيته. لم يعد العالم كما هو في حدّ ذاته، بل كما يراه الفنّان. سيعمّم الإنطباعيون في النصف الثاني من القرن هذا الاكتشاف و ذلك بتجزيء الرّسم. كان غويا قد أدرك تماما هذه الرؤية التي بحسبها كلّ إدراك هو إدراك فردي.هو الكانطي الذي لا يرى مطلقا أنّ في الوسع الولوج إلى العالم في ذاته، و إنّما فقط العالم كما يتراءى لنا. كلّ هذه الاكتشافات التصويرية و الفلسفية لم تدفعه إلى تشتت أو تبعثر ما بعد ـ حداثي يجعل كلّ واحد يعبّر عن ذاته في لغة خاصّة به. هومنشغل بلغة مشتركة يقرّها الحسّ المألوف. نشاهد الانتهاكات، الإيماءات، الكائنات البشرية، الجثث و نعرف ماذا تعني. فيما بعد، سيتمّ الانغماس في العزوف عن العالم المشترك الذي سيهدّد الفنّ المعاصر بفقدان المعنى : نتوهّم أنّ الفنّان يعبّر عن شيء ما، لكنّنا لا ندري ما هو، إلاّ إذا زوّدنا بملحوظة إيضاحية... غويا هو دون هذا التبعثر التام للمعنى. رؤيته فردية، لكنّها تظلّ في مقدور أي أحد أن يؤوّلها. هذا درس حتى بالنسبة للرّسم الآن. لكي يكون الفنّان ابنا لغويا، يلزم أن يلتمس هذا التوازن. من الضروري، لإنتاج رسالة فردية تتوجّه كونيا إلى الناس أجمعين، أن يتمّ الخلق دون إعادة إنتاج الواقع حرفيا، و في الآن ذاته، دون القناعة بالتعبير عن فردية مغرقة غاية الغرق في الاختلاف.
* عن مجلة Le Point الفرنسية، مارس
|