هذه ثلاث حكايات مقتطفة من وقائع الحياة التونسية ودلالاتها بعد انتهاء الثورة وقيام حكومة جديدة.
حكاية "المئة يوم"
مرّ أكثر من مئة يوم على تشكيل الحكومة التونسيّة بعد ثورة 14 يناير. هي مدّة قصيرة في السياق العاديّ، طويلة في سياق الثورات والمحطّات التاريخيّة. ففي مثلها عاد نابوليون إلى الحكم عام 1815 وخرج منه إلى غير رجعة حافرًا اسمه في تاريخ العالم مزوّجًا بين الواقع والأسطورة جاعلاً من هذه العبارة كنايةً عن مقاربة المستحيل في أيّام معدودة. لم يغفل التونسيّون عن شيء من ذلك وهم يسمعون إلى حكّامهم الجُدد يدعونهم إلى "هدنة" بما يقارب المئة يوم على الأقلّ وكأنّها مدّة سحريّة يُفرَج بعدَها كلُّ كرب! حتى أصبحت المسألة موضوع نكتة تقول إنّه لم يبقَ بعد الثورة إلاّ أن يختلي العريس بعروسه "ليلة الدخلة" ليخرج بعد مئة يوم على المدعوّين الذين ظلّوا ينتظرون "القميص" فيقول لهم: "لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخيّة"! نكتة دالّة على الإحساس بالحيرة أمام ضبابية الحصيلة على الرغم من أنّك تسأل التونسيّ عن حاله فيجيبك "لا باس"، حتى وهو منغمس في البؤس إلى أذنيه! إلاّ أنّ تفاؤله الفطريّ ليس تفاؤلاً أعمى. لذلك بدا هذا "المتفائل" بعد خلع الطاغية "متشائلاً" بين رغبته في الاحتفال وإحساسه بأنّ هذا الاحتفال لم يحن أوانه بعد، وكأنّه المعنيّ بتلك العبارة المصريّة البليغة: "جات الحزينة تفرح ما لقات لهاش مطرح". التونسيّ اليوم معنيّ بدعوة ساسته الجُدُد إلى كشف حساب "المئة يوم" المنصرمة. إنّه يكتب حكاياته بما عُرِف عنه من صمت البركان الذي لا يعرف أحد متى يزمجر. بين الحكاية والأخرى يخرج إلى الشارع لينثر في وجه نُخبِه عددا من الأسئلة المؤرّقة: من استفاد حقًّا من هذه الثورة حتى الآن، أبناؤها أم ركّابها؟ هل تحقّق فعلاً شيء من الأمور التي يطبّل لها البعض؟ هل ذهبت هذه الأيّام هدرًا من دون أن تحقّق من أهداف الثورة شيئًا يُذكَر؟ هل تغيّرت ثقافة الحكم حقًّا؟
حكاية ربطة العنق واللحية
"وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات فكّر بغيرك". هكذا كتب محمود درويش وكأنّه يصوّر الشخصيّة التونسيّة في بنيتها العميقة. شخصيّة أفلحت في نقل الاستعارة من مرتبة المتخيَّل إلى مرتبة المعيش. ممّا يفسّر، ربّما، انتقال حرق البوعزيزي نفسه من مستوى الحادثة الفرديّة إلى مستوى الرمز الجماعيّ، في تونس قبل غيرها، على الرغم من انتشار ظاهرة الانتحار الاحتجاجيّ في أكثر من بلاد. استطاع التونسيّون تحويل الاستعارة طاقة فتّاكة متجدّدة. لذلك تروج اليوم على ألسنة عامّتهم عبارة ماكرة مفادها أنّ حركة "النهضة" التي مثّل حصولها على الحكم أهمّ "إنجاز" للثورة حتى الآن ليست سوى حزب التجمّع القديم وقد "ربَّى لحية"! وأنّ الفرق بين حزب التجمّع المنحلّ وحركة "النهضة"الحاكمة لا يتعدّى حتى الآن "تعويض ربطة العنق باللحية"! ما نصيب هذا التشخيص الاستعاريّ من الحقيقة؟ تحقّقت أمور لا يُستهان بها: رحل الطاغية وعائلته المافيوزيّة غير مأسوف عليهم وسقطت مجموعة من رؤوس عصابته وتمّ تفعيل بعض آليّات المحاسبة وأُطلِق سراح سجناء الرأي وعاد المنفيّون وتعدّدت الأحزاب واستيقظ المجتمع المدنيّ وتحرّرت الألسنة في الشارع وفي عدد من فضاءات الإعلام وتمّ انتخاب مجلس تأسيسيّ وتشكّلت حكومة. إلاّ أنّ ما لم يتحقّق لا يُستهان به هو أيضًا: استفحلت البطالة وتفاقم الفقر واستيقظت الجهويّات بفعل التسويف واستمرّت أجهزة كثيرة على عقيدة الوقوف مع الواقف ولم تطل آليّات المحاسبة الكثير من حيتان الفساد والاستبداد وتمخّض المجلس التأسيسيّ عن حكومة شعارُها "منّا أمير ومنكم أمير"، وعينُها على تأمين البقاء لا على كتابة الدستور. الأفدح من ذلك أنّنا ما كدنا نطمع في انتشار الحريّات ونرجو تفكيك البوليس السياسيّ حتى طلعت علينا أسراب الوعّاظ ومجموعات السلفيّة الجهاديّة وكتائب البوليس الأخلاقيّ وميليشيات غير مسمّاة تذكّرنا بجيش المهديّ في العراق! كلّ ذلك بسبب محاولة حركة "النهضة" الظهور بمظهر الحزب المدنيّ من دون التخلّي عن الجسور الممدودة مع أنصار الدولة الدينيّة باعتبارهم احتياطيّها الإستراتيجيّ! محاولة محكوم عليها بالفشل لأنّها لم تقرأ الواقع التونسيّ جيّدًا ولم تحسب حسابًا للمجتمع المدنيّ الذي انكسرت على صخرته قيود الاستبداد وخرج نهائيًّا من القمقم ولن يعود إليه مهما تعرّض إليه نشطاؤه ومثقّفوه ومبدعوه من تخويف وتعنيف. ولعلّ علامات فشل هذه المحاولة أخذت تتّضح منذ الآن من طريق تكتّل الأضداد للحيلولة دون تغوّل "النهضة" ودون تغلغلها في دواليب الدولة سيرًا على منوال التجمّع. وهذا ما دفعها، ربّما، إلى إقرار الفصل الأوّل من دستور 1956 والتخلّي عن جعل الشريعة مصدرًا أساسيًّا للتشريع في الدستور الجديد. أطلق الوجدان العامّ استعارة "ربطة العنق واللحية" مثلما يُطلق الرامي سهمه في اتّجاه هدفه المنشود، مُفصحًا عن رفضه النكوص إلى الماضي معبّرا عن رغبته في التحليق ناحية المستقبل. وليس من شكّ في أنّ الترويكا الحاكمة الآن وعلى رأسها الإسلاميّون، على بيّنة من خطورة هذه الاستعارة التي تعبّر عن وعي سياسيّ متزايد الانتشار لن يلبث أن يؤثّر في نتائج الانتخابات المقبلة أو التي تليها.
حكاية البرنس والكرسيّ
بذلةٌ تحت البرنس. نظّارات فوق البرنس. كرسيّ تحت البرنس. بهذه الأكسسوارات ألقى السيّد منصف المرزوقي خطابه الرئاسيّ الأوّل. جملة سيميولوجيّة أفلح الرجل أكثر من منافسيه في انتقاء مفرداتها لمخاطبة عيون مشاهديه ووجدانهم كي "يُقنعهم" بأصالته وحداثته وانتمائه الشعبيّ! أراد الرجل التميّز عن سابقه فاضطرّ (وهو سليل عائلة مناصرة لصالح بن يوسف غريم بورقيبة) إلى التصالح مع النسب البورقيبيّ! هكذا استمعنا إلى خطاب مهجّن يشير إلى المستقبل فيما هو يلتفت إلى الماضي، يغترف من معجم السياسيّ بقدر ما يكرع من معين الناشط الحقوقيّ المثقّف، من دون أن يُفلح في إنتاج صياغة جديدة قائمة بذاتها. لم ينس الرجل إيلاء البعد الرمزيّ العاطفيّ ما يستحق من حضورٍ. وعاد إلى العربيّة الفصحى في إشارة ضمنيّة إلى خطل الظنّين الشائعين: الظنّ بأنّ الفصحى جزءٌ من خشبيّة الخطاب الاستبداديّ والظنّ بأنّ الرطانة جزءٌ من سياسة القرب. لكنّ الأكسسوارات لا تغني عن النصّ. واللغة في السياسة لا تكفي للقطع مع العهد السابق إذ أنّها سرعان ما ترتطم بجدار المضمون والممارسة. ربّما لذلك تهدّج صوت الرجل وهو يذكر الشهداء وبورقيبة وما حدث من انحراف. إلاّ أنّ دموع السياسة ذات شجون. وهو الأعلم بأنّ بورقيبة كان زعيم الأمّة أمّا هو فزعيم حزبه. وهو الأعلم بأنّ بورقيبة كان ذا شعبيّة متحقّقة أمّا هو فعليه أن يحقّق شعبيّته بناءً على ثلاثمئة ألف صوت. ممّا يجعله أسير ميزان القوى الذي أجلسه على الكرسيّ في ما هو أقرب إلى التنصيب منه إلى الانتخاب. وممّا يجعل خطابه نوعًا من "الكيتش" يعد بالكثير ويحاول التوفيق بين الكثير من دون أن يملك من الوسائل الكثير! هل يكون لما سبق دور في إحساسنا بصعوبة القطع فعلاً مع ممارسات العهد السابق؟ لم يُرفَع شعارٌ في الأشهر الأخيرة مثل هذا الشعار، وعلى الرغم من ذلك ظلّت ممارسات العهد السابق تُحكم قبضتها على المشهد وتنغّص علينا كلّ فرحة. صادق المجلس على ما سُميّ بالدستور الصغير، فبدا هذا الدستور مفصّلاً على القياس لا يلغي النظام الرئاسويّ إلاّ ليقيم نظامًا برلمانويًّا لا يطمئن كثيرًا في كلّ ما يتعلّق بالفصل بين السلطات وحياد الإدارة وتقاسم القرار ومساءلة المسؤولين واستقلال القضاء وحريّة التعبير. وانتخب المجلس رئيس الجمهوريّة فنغّص علينا رغبتنا في الفرح أن يجرّد الرئيس من صلاحياته أو يكاد، وأن يكون انتخابه كالعادة معلوم النتائج، وأن يترشّح لهذا الانتخاب كالعادة مرشّح وحيد ينافس نفسه! كالعادة أيضًا لم يشرع الرئيس الجديد في ارتداء برنسه حتى تصاعد مديح "اللحظة التاريخيّة" والتطبيل للفخامة الرئاسيّة مع لزوم ما لا يلزم من الوقوف والتصفيق و"البوس والتعنيق"، وكأنّ البعض لم ينشغل في الأشهر الماضية إلاّ بتسخين البندير تحسُّبًا للطوارئ وانتظارًا للنفير! ما إن فرغ الرجل من إلقاء خطابه حتى افرنقع البعض هذا يمدح وذاك يشرح وهذا يهلّل والآخر يؤوّل ولم ينقصنا إلاّ أن ينبري لنا أحدهم مردّدًا أبيات ابن رشيق: "لولا اعتقادي للشريعة مُخْلِصاً، ما قلتُ إنَّ كلامه مخلوقُ، معنى الرئاسة فيه بِكرٌ لا كَمن معنَى الرئاسة عنده مطروقُ". حماسةٌ يحرّكها الطمع في الحقائب الوزاريّة. ولن نلبث أن نرى هؤلاء الذين يطبّلون اليوم يستعيدون فجأة "وعيهم المعارِض" ما إن يخيب أملهم في منصب أو مكسب! وهي أمور من لوازم طاحونة الشيء السياسيّ المعتاد. أضف إلى ذلك أنّ ارتداء البرنس لا يكفي للبرهنة على الاختلاف. فثمّة الكرسيّ الذي اعتدنا أن نراه يغيّر كلّ من يجلس عليه! ممّا جعل العامّة يتندّرون فيقولون "فلان استكرس، البركة فيك"! أي فلان أصبح من طلاّب الكراسي فادعُ له بالرحمة! كما راجت على الألسنة عبارة "فلان يقلب البرنس" عوضًا من عبارة "فلان يقلب الفيستة"! والفيستة هي البذلة في العاميّة التونسيّة. ويقلب الفيستة هي صياغةٌ تونسية للعبارة الفرنسيّة الشائعة "Tourner sa veste"! ثمّة في كلّ هذا الهزل الجادّ ما يشير إلى وعي شعبيّ متزايد بأنّ التغيير الحقيقيّ هو تغيير ذهنيّ وثقافيّ أو لا يكون. من عناصر هذا الوعي أنّ الشعب لا يزال يريد إسقاط النظام، لأنّ بناء الجديد يتطلّب إسقاط القديم، ولأنّ النظام القديم لا يسقط بسقوط بعض رموزه بل بسقوط ذهنيّته، ذهنيّة كراهية "الموقّت" وحبّ "المؤبّد"، وذهنيّة التكالب على المناصب والمكاسب، وذهنيّة الوثوب والركوب، وذهنيّة تحويل الديموقراطيّة مجرّد إخراج ديموقراطيّ لمسرحيّة استبداديّة. كم نتمنّى لكل "مستكرسينا" الجدد والقادمين أن لا يكون نجاحهم في السياسة مشروطًا بخسارة الروح وأن يذكروا قول أبي العتاهية: "حبُّ الرئاسةِ أَطغى مَن على الأَرضِ، حتّى بغى بعضهم فيها على بعضِ... ما زلتُ مذ كان فيَّ الروحُ منتقصاً، يموت في كلَّ يومٍ مرّ بي بعضي".
حكاية العصا والبقرة
أريد التوقّف عند عبارتين من العبارات الرائجة هذه الأيّام: عبارة "الحكومة لا تملك عصًا سحريّة" وعبارة "الدولة ليست بقرةً حلوبًا"، بعدما أصبح جريانهما مكرورًا على لسان أكثر من وزير بشكل يدفع إلى الحيرة! هؤلاء هم الذين وعدونا أمسِ بقطيع من "البقرات السمان" ملوّحين لنا بعصيّهم السحريّة أثناء الحملة الانتخابيّة ممنّنين المواطن بدواءٍ لكلّ داءٍ من دون أن نعرف سحرهم أسود أم أبيض! وها هم يتوعّدوننا اليوم بقطيع من "البقرات العجاف" ويريدون سحر الموقّت إلى غير موقّت من دون عصيّ سحريّة! للعصا تاريخٌ لا تنقطع فيه الصلة بينها وبين السحر من جهة وبينها وبين البقرة من جهة أخرى. لعلّ أقدم العصيّ السحريّة التي احتفت بها الأسطورة عصا هرمس الذي استطاع وعمره يوم واحد أن يصنع آلة اللير وأن يسرق بقرات أبولون وأن يوقد نارًا ليشوي عليها بقرتين قربانًا لآلهة الأولمب. عزف هرمس على آلته فرضي أبولون بالتنازل عن أبقاره مقابل تلك الآلة. قبل هرمس بالعرض واخترع آلة أخرى هي ناي الراعي. فافتتن أبولون بالناي وأراده فقبل هرمس إعطاءه الناي على أن يعطيه أبولون دروسًا في السحر وأن يتنازل له عن عصاه السحريّة التي كان ينوّم بها البشر. هكذا أصبح هرمس في الأسطورة وسيطًا بين الألهة والبشر فعلّمهم أهمّ معارفهم من دون أن ينسى التحيّل. إذ استعمل عصاه لتنويم شيوني فأنجب منها أنطوليكوس ملك اللصوص والمزوّرين المختصّ في سرقة قطعان البقر. تبدو أسطورة هرمس أفضل مثال على السياسة بجانبيها التنويريّ والمعتم. ولكن من قال إنّ السياسة ليست في الواقع أيضًا ضربًا من السحر؟ لقد أصبحت عبارة العصا السحريّة كناية عن كلّ قدرة على تحويل الأشياء في نوع من الخيمياء. هكذا تحدّث فيكتور هوغو مثلاً في مقدّمة "كرومويل" عن عصا الفنّ السحريّة. وهكذا اعتبر ريمون بوانكاري رجال السياسة سحَرَةً عصيُّهُم الكلمات! البعض يسمّي هذا السحر كاريزما والبعض يسمّيه الإيهام والبعض يسمّيه الإحلام. وهل السحر في جوهره إلاّ جعْل كلّ شيء ممكنًا حتى تحويل النحاس ذهبًا؟ وهل السياسة في جوهرها إلاّ جعل كلّ حلم ممكنًا حتى الخبز والحريّة والكرامة الوطنيّة التي يطالب بها الثائرون على الاستبداد؟ السياسة سحر لا علاقة له بالعقل الخرافيّ لأنّها خيمياء هدفها تحويل الأحلام إلى واقع. إنّها تأخذ بشرًا قد يكون أحدهم ذئبًا للآخر على رأي هوبز، فتكوِّن منهم شعبًا وتمنحهم آليّات العيش المشترك من طريق تأمين شروط إنتاج الثروة والحريّة وشروط توزيعهما بأكثر ما يمكن من العدل. من هذا المنطلق يجب على كلّ سياسيّ لا عصا سحريّة له، أن ينسحب من الساحة. فالعصا السحريّة هنا تتمثّل في مؤسّسات الدولة وقوانينها وآليّات عملها وموظّفيها وعلى رأسهم الحكومة. ومن ثمّ فإنّ الحكومة التي لا تملك عصًا سحريّة من هذا النوع هي حكومة لا لزوم لها. كما أنّ الدولة التي لا تخدم مواطنيها هي عالّةٌ على مواطنيها. ثمّ من قال إنّ الدولة ليست بقرة حلوبًا من زاويةٍ ما وبقدْرٍ ما؟ لقد عاد الغرب الرأسماليّ نفسه إلى الاعتراف بأنّ على الدولة أن تستعيد جانبًا من دورها الحاضن الذي تفصّت منه باسم التفصّي من دولة الرفاه (État-providence). على الدولة أن تختار: إمّا أن تكون نعمة على مواطنيها وإمّا أن تكون نقمة عليهم. ولماذا يُطعمها المواطن من لحمه ودمه وقوت عياله إذا كانت عاجزة عن منحه سطلاً من الحليب؟ إلاّ إذا كان المقصود مختفيًا بين السطور: المواطن هو البقرة الحلوب! هكذا يُفهَم من الإصرار المريب على أنّ الدولة ليست بقرةً حلوبًا. الحكومة لا تملك لهذه المواطن إلاّ العصا العاديّة! هكذا يُفهَم من الإصرار المريب على أنّ الحكومة لا تملك عصًا سحريّة. ثار المواطن التونسيّ على الاستبداد لأنّه ضاق ذرعًا بأنّ يظلّ بقرة حلوبًا لنظام يرفع عصا الدولة. وهو ينتظر من حكّامه الجُدد أن يستجيبوا طموحاته لا أن يطلبوا منه العودة إلى المربّع الأوّل بدعوى أنّ الدولة ليست بقرة حلوبًا وأنّهم لا يملكون للمواطنين إلاّ العصا لمن عصى. لقد رفض المواطن التونسيّ أن يظلّ بقرةً تُحْلَب وثار تعبيرًا عن ذلك الرفض. ومن الخطأ السياسيّ والأخلاقيّ والتاريخيّ الفادح أن يُطلَبَ منه اليوم أن يمسك أيضًا بالمحلب وإلاّ هبطت على ظهره هذه العصا "غير السحريّة". في هذا السياق يبدو الوضع التونسيّ باعثًا على التفاؤل على الرغم من كلّ السحب المتراكمة. العراقيل كثيرة. ومحاولة الانقلاب على أهداف الثورة موجودة. لكنّ الإصرار على النجاح مستمرّ ومتصاعد. إصرار يبرهن عليه الوعي المتزايد بأنّ الانتخابات ليست صكًّا على بياض، وبأنّ أصوات الناخبين رأس مال أو رصيد يضعه الشعب على ذمّة نوّابه لغرض معلوم، وكل استخدام لهذا الرصيد في غير ذلك الغرض هو خيانة مؤتمن. لكأنّنا أمام نصٍّ ألّفه الشعب ثمّ كلّف نخبته السياسيّة أداءه على الخشبة، فإذا بهذه النخبة تقوم بتمثيل نصّ آخر مختلف لا ناقة للشعب فيه ولا حتى بقرة! لكأنّنا أمام ركّاب انتخبوا رعاةً كي يقودوا بقرتهم في اتجاه المراعي الخضراء فإذا بهؤلاء الرعاة يستغلّون شرعيّتهم الانتخابيّة ويرفعون العصا لتحويل وجهة البقرة إلى الصحراء! من ثمّ يقف معظم التونسيّين على مسافة هذه الأشهر الطويلة من اندلاع ثورتهم، وقد ترسّخ فيهم الإحساس بضرورة الترحّم على أرواح شهدائها ومواساة جرحاها ومساءلة حصادها، مع الإلحاح على أنّها مستمرّة على الرغم ممّن يتعجّل إيقافها. إنّها وضعيّة ثوريّة لم تتحقّق بعدُ كثورة مكتملة وثمّة من يريد تحويل وجهتها. وكلُّ احتفال بما لم يتحقّق هو نوع من الغفلة، وكلُّ دعوة إلى الاحتفال بما لم يتحقّق هو نوع من الاستغفال.
عن (النهار) |