في المقال السابق، انتقدتُ التصورَ الشائع بأن الشيعة في سائر المنطقة يمثلون كتلة منسجمة ووحدة ثقافية، وسياسية، وأنثروبولوجية، وقلتُ إن هذه المقاربة مبسّطة، لا تأخذ بنظر الاعتبار التنوعات المعقدة لهؤلاء، واختلافاتهم، وتناقضاتهم، الإثنية، والثقافية، والإيديولوجية. ولذلك، بدأت الكثيرُ من الدراسات المعاصرة تشكك بإمكانية أن ينخرط شيعة المنطقة في مشروع سياسي واحد، غير أن النخب العربية ظلت بعيدة عن مثل هذا التمييز، على الرغم من أن الدوائر الأكاديمية الغربية قدّمت تصورات ونتاجات مهمة في هذا المجال، بدءاً بكتاب إسحق نقاش (شيعة العراق)، الصادر سنة 1985، والذي حرص على أن يوضح اختلاف شيعة العراق عن إيران، وليس انتهاء بكتاب رند الرحيم وغراهام فولر (الشيعة العرب)، الصادر سنة 1999، والذي حاول أن يفكك فكرة أن الشيعة كتلة متجانسة، ودافع عن أن هناك تنوعات كثيرة داخل الكتلة الشيعية وتواريخ متباينة، تتيح اعتماد مقاربات وسياسات مختلفة مع الشيعة في كل بلد. وإذا كان هذا الكتاب ذا غايات سياسية على ما يبدو، نظراً للتأريخ ذي الحساسية العالية الذي صدر فيه، فإنه شخّص، بشكل منهجي، أن الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979 هي التي رسمت للغرب صورة نمطية للشيعة في سائر أنحاء العالم بأنهم جماعة متجانسة، ذات حماس ديني، ونزعة مضادة للولايات المتحدة.
أنا أدافع، هنا، عن فكرة أن بإمكاننا أن نتحدث عن حقلين مختلفين بالكامل، هما (التشيع العراقي) و(التشيع الإيراني)، فكل منهما يشكل وحدة أنثروبولوجية، وثقافية، وسياسية خاصة. فمن جهة، امتص التشيعُ الإيراني، العريقُ سياسياً، من الإمبراطوريات التي تعاقبت على حكم إيران، نزعة إمبراطورية، جعلته ـ دائماً ـ حاملاً لمشروع تبشيري، عابر للحدود. ولذلك، أنتج هذا التشيعُ نظرية سياسية تعطي للمؤسسة الدينية أدواراً تدخلية. وبالفعل، لعبت هذه المؤسسةُ دوراً مفصلياً في تأريخ إيران السياسي الحديث، في حين أن التشيع العراقي، الحديث سياسياً، متقوقع داخل حدوده، أقصى ما يطمح إليه هو تصحيح ما يراه من اختلالات في ميزان الحكم في العراق والقبض على مفاصله. وقد اكتفت المؤسسةُ الدينية فيه بوظائف دينية، من دون أي طموح سياسي.
إن هذا سيقودنا إلى استنتاج أن نظرية (ولاية الفقيه) هي نظرية إيرانية، وليست نظرية شيعية عامة، بمعنى أنها نتاج محض للسياق السياسي الإيراني.
ومن جهة ثانية، ينمو التشيع العراقي في سياق معقّد، ديني، وعقيدي، ومذهبي، وفقهي، وهووي، مغاير تماماً للحالة الإيرانية. وهو ما يجعل التعدديةَ رهاناً جادّاً ودائماً أمامه، كما أنه لا يمكن فصل التشيع العراقي عن سياقه العربي، وأن هويته العربية هي عامل حاسم فيه، يتحكم بتطوره، ويضبط حركتَه بالتفاعل مع محيطه العربي، على نحو أساسي.ومن ثم، إذا كان ثمة تحالف بين التشيعين العراقي والإيراني، فإنه ليس تحالفاً ضرورياً، جوهرياً، مطلقاً، فوق التأريخ، بل هو ستراتيجية مرحلية تقتضيها سياقات سياسية محدّدة. وإذا كان هذا التحالفُ قد نما، بشكل ما، ما بعد 2003، فالأكيد أن أحد أسبابه هو العداء العربي لتجربة العراق ما بعد صدّام.وفي العموم، سيمثل الوعيُ بهذه التمييزات داخل الجغرافية الشيعية عتبة ضرورية لأية محاولة إعادة تفكير تبذلها الدولةُ العربية تجاه المسألة الشيعية، التي تحمل ـ في العمق ـ حزمة تحديات لهذه الدولة: تحدي المواطنة، التي لا تقوم على هوية محددة، أصيلة، والإيمان بهوية مركبة للدولة، لا هوية أحادية.وبكلمة، هذا هو الاختبار الحاسم الذي ستعيشه الدولةُ العربية، وهو الذي سيحدّد هل ستبقى دولة مختنفة، أم إنها ستتنفس هواء جديداً.
والمسألة الشيعية، هنا، هي كناية عن سائر الهويات، الدينية، والإثنية، والطائفية، التي أُكرِهت على القبول بوصاية هوية أحادية. وإن اعتراف الدولة العربية بالمسألة الشيعية هو كناية عن اعترافها بفشل مشروع بناء الأمة ـ الدولة، والقبول بدولة تعددية، يبنيها نسيج معقد من الهويات.
وستكون علاقةُ الدول العربية بالعراق محكّاً لهذه المسألة، واختباراً للكيفية التي ستواجه بها هذا التحدي. |