خلافا للتوقعات التشاؤمية التي أبداها مراقبون محليون وإقليميون، وما أعقبها من محاولات جهات خارجية وداخلية تعطيل قمة بغداد بأي شكل، ومساعي الإلغاء أو التأجيل أو تغيير مكان الانعقاد، كسب العراق الرهان في نهاية المطاف وحصل على مبتغاه الذي ظل ينشده لأكثر من عام.
"الحلم" العراقي تحقق نهاية الأسبوع الماضي رغم العراقيل التي وضعت بطريقه، ومنح درجة "الامتياز" من قبل منظميه وآخرين غيرهم.
فالمشاركة العربية جاءت كاملة دون نقصان، عدا سوريا التي غابت رغماً عن إرادتها نتيجة تعليق عضويتها في مجلس الجامعة العربية، فضلا عن البعد الدولي الذي اكتسبه المؤتمر بمشاركة رؤساء منظمات وهيئات عالمية مثل الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ورئيس منظمة المؤتمر الإسلامي إحسان الدين أوغلوا، الى جانب خلو اجتماعه الزعاماتي من التراشقات الكلامية والخطب الرنانة التي كانت تحصل في قمم سابقة بين بعض القادة والوفود الرسمية، والشطحات المشهورة للعقيد الراحل معمر القذافي.
هذا النجاح العراقي الذي وصف بـ"التاريخي"، قال عنه وزير الخارجية هوشيار زيباري إنه إنجاز "أعاد العراق من العُزلة الى القمة"، ويقصد هنا العودة التدريجية لبلاده الى موقعها الطبيعي ومكانتهت المحورية في المنطقة التي فقدتها نتيجة المغامرات والحروب الطائشة التي ارتكبها النظام الديكتاتوري السابق في عقود خلت.
"الحكومة نجحت في تنظيم هذا المحفل الإقليمي من النواحي الأمنية والتنظيمية والإدارية وحتى السياسية.. وهو ما سمعناه من كل الوفود المشاركة"، طبقا لزيباري، الذي أضاف بلغة تكتنفها نشوة الانتصار "نجحنا في هذا الامتحان وكسبنا الرهان".
أعمال القمة العربية العادية الثالثة والعشرون والمؤجلة من العام الماضي، انطلقت ظهر الخميس الماضي (29 آذار/ مارس) باجتماع ضم زعماء عشرة دول، إضافة الى ممثلين عن إحدى عشر بلداً اختلفت مستويات تمثيلها بين رئيس برلمان ووزير خارجية وسفير. سبقها اجتماعان تحضيريان، الأول لوزراء المال والاقتصاد، والثاني لوزراء الخارجية.
وبدا واضحا تأثر هذه القمة بثورات "الربيع العربي" وما أفرزته من خلال اعتمادها شعار "يداً بيد.. شعوباً وقادة" وهو أمرا لم تألفه العقلية المتحجرة لأنظمة الحكم الديكتاتورية والعائلية الموروثة التي عجت بها ولا تزال بعضها مسيطرة في أوطان العرب من المحيط الى الخليج، سيما وإن العبارة قّدمت الشعوب على الرؤساء ولو على الورق، وهو ما كان محظورا في عقود وسنوات ماضية.
الإشادة بالنجاح العراقي لم تقتصر على المنظمين أو كلمات الثناء التي أدلى بها رؤساء الوفود المشاركة، بل جاءت من دول أجنبية مثل روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا، إذ وصفت جميع هذه الدول الحدث العربي الأبرز بعبارات ايجابية، بعضها للمجاملة ليس الا، كما هو الحال مع الجار الشمالي للعراق.
عودة العراق الى الحظيرة العربية بعد عقدين من العزلة من خلال تنظيمه لهذه القمة، يعبر عنه سامي النصف وزير الإعلام الكويتي السابق بالقول "قمة بغداد نجحت تنظيماً وأمناً.. والعراق الذي كان أسيرا للإرهاب أصبح آسرا له".
النصف أكد على هامش حضوره كمراقب لأعمال مؤتمر القمة، إنها " نجحت وبامتياز، سيما وقد تبلور من خلالها مشروع عربي اتفق عليه بالإجماع" - ويقصد هنا وثيقة إعلان بغداد- . مضيفا إن "مفاصل القمة لم تنحصر بالشأن السياسي فقط مثلما كان عليه الحال في القمم السابقة، بل تعداه الى ملفات أخرى".
الملفات التي قصدها الوزير السابق، تمثلت بالتغيير الديموغرافي، والتداول السلمي للسلطة، وقضايا حقوق الإنسان والمرأة، وتمثيل المواطن العربي والحفاظ على كرامته. وهي أمور لم تكن مطروحة على طاولة البحث في قمم سابقة وجرى مناقشتها للمرة الأولى في مثل هكذا اجتماعات.
رغم الإشادة الا إن مساعي تعطيل هذا المحفل الإقليمي كانت واضحة من خلال التمثيل المتدني لما يعرف بدول "محور الاعتدال" التي تمثله كل من بلدان الخليج، إضافة الى الأردن والمغرب المملكتان اللتان يراد ضمهما تحت عباءة مجلس لتعاون الخليجي.
هذه المساعي، كشفها لـ"نقاش" سفير عراقي معتمد لدى إحدى الدول العربية، قائلا "لقد طُلب من جامعة الدول العربية في اجتماعات عقدت وراء الكواليس في القاهرة و خلال زيارات قامت بها وفود الأمانة العامة الى عدد من الدول الأعضاء، إلغاء قمة بغداد".
وهو ما المح إليه وزير الخارجية هوشيار زيباري، والأمين العام المساعد للجامعة أحمد بن حلي في مقابلات صحافية أجريت معهما قبيل انعقاد القمة.
السفير الذي يمارس مهامه الدبلوماسية في دولة غاب زعيمها عن القمة، أوضح إن "بعض الدول سعت جاهدة الى تعطيل الدور العراقي ووصل بها الأمر الى حد التأمر مع بلدان أخرى وقوى سياسية محلية لتغيير وجهة قطار القمة، لكنها خابت في نهاية المطاف".
ما يرجح صحة معلومات الدبلوماسي العراقي، ذاك الغموض الذي ظل حتى اللحظات الأخيرة قبيل انعقاد القمة يكتنف موقف الدول الخليجية عدا الكويت حيال المشاركة في قمة بغداد، وهو حال المملكتين الأردنية والمغربية أيضا، فضلا عن مستوى التمثيل "الهزيل" الذي تبين لاحقا.
وسبق لدول مجلس التعاون الخليجي أن قدمت العام الماضي طلبا عبر مملكة البحرين، الى مجلس جامعة الدول العربية لإلغاء القمة أو تأجيلها على أقل تقدير وهو ما تحقق لها، حيث استندت في طلبها "المثير للجدل" حينذاك، إلى حجة مفادها أن "الأوضاع العربية الرسمية لا تسمح بعقد اجتماعات من هذا النوع" بعد أن انطلقت ثورات الربيع العربي.
لكن ما غير المواقف في هذا العام على ما يبدو هي "الضغوط الأميركية التي أجبرت تلك الدول على المشاركة في قمة بغداد بأي مستوى تمثيل كان"، طبقا للسفير العراقي الذي أكد انه وصلت لحكومة بلاده "إيحاءات أميركية تدل على حقيقة تلك الضغوط".
ويضاف الى ذلك، التسوية التي جرت قبل بدء فعاليات القمة وتم خلالها التعهد من قبل العراق باعتباره رئيس الدورة الحالية، بعدم طرح القضية البحرينية وما يحصل في هذه المملكة الخليجية الصغيرة من قمع للاحتجاجات الشعبية، على طاولة النقاش، أو تضمينها بنود البيان الختامي للقمة، مقابل تخلي الدول الخليجية عن مناقشة الأزمة الداخلية العراقية في اجتماعات القادة.
وكانت تسريبات انتشرت في الأشهر القليلة الماضية عندما كان العراق منخرط في مباحثات مع نظرائه العرب بهدف إقناعهم بضرورة المشاركة في مؤتمر القمة، تحدث فيها مسربوها عن مساعي لبعض الدول الخليجية لجعل قمة بغداد "شكلية" من خلال الحضور الرسمي المتدني. وهو ما حصل فعلا عدا الحضور الكويتي.
من مفارقات هذه القمة هو إن اثنين من اجتماعاتها (اجتماع وزراء الخارجية، اجتماع الرؤساء) عُقدا في قصر بناه صدام حسين وخطط فيه لغزو الكويت في أب (أغسطس) عام 1990، وشهد حضور أمير الكويت صباح الأحمد الصباح في زيارة تاريخية احتفى بها عراقيا كونها افضل تمثيل لإمارات وممالك الخليج التي بات اثنين منها (قطر والسعودية) لاعبين أساسيين في المنطقة.
المفارقة التاريخية الأخرى هي تزعّم ثلاث شخصيات كردية عراقية الاجتماعات العربية، فترأس وزير التجارة خير الله بابكر اجتماعات وزراء الاقتصاد والمال، بينما ترأس زيباري اجتماع وزراء الخارجية، وأخيرا قاد رئيس الجمهورية جلال طالباني اجتماع الرؤساء.
مقابل نشوة "الانتصار" العراقي وسلسلة الإشادات والثناء، لم تخلُ قصة القمة العربية من انتقادات داخلية لما سببته الإجراءات الأمنية المشددة التي اتخذتها السلطات في التضييق على الحياة العامة لسكان العاصمة تحديدا.
إذ وجهت موجة انتقادات لاذعة من قبل أوساط شعبية وإعلامية للإجراءات الأمنية المشددة التي باشرت السلطات تطبيقها قبل أسبوعين من موعد انطلاق اجتماعات القمة استعدادا لتأمين المحفل الإقليمي، سيما وان تلك الإجراءات تسببت باختناقات مرورية حادة خلقت تذمرا شعبيا واسعا.
هذا الانتشار المكثف لقوات الأمن لم يمنع حدوث خرق امني كبير شهدته بغداد وعدد من المدن الأخرى، عشية انعقاد القمة إذ وقعت سلسلة تفجيرات دموية طالت معظمها مقرات أمنية ومبان حكومية، وخلفت ورائها العشرات من الضحايا بين قتيل وجريح، فضلا عن الخسائر المادية في الممتلكات الخاصة والعامة. كما إن انفجارات ناجمة عن صواريخ كاتيوشا زامنت لحظة انعقاد الجلسة الختامية للقمة.
رافق ذلك إجراء "تعسفي" أثار نقمة البغداديين بعد أن حُجبت خدمة الاتصال الهاتفي النقال عنهم لمدة يومين تقريبا، نتيجة الإجراءات الوقائية فتعذر عليهم تأدية بعض أعمالهم الخاصة التي بات عدد منهم يمارسها عبر الاتصال الهاتفي.
وساد قبل القمة توقف شبه تام للحياة العامة لأكثر من أسبوع نتيجة قرار حكومي قضى بتعطيل الدوام الرسمي اعتباراً من 25 آذار/مارس الماضي، وحتى الأول من نيسان/ أبريل الجاري. كما أثر انعقادها على أسعار السلع والبضائع التي ارتفعت الى ثلاثة أضعاف بسبب غلق منافذ العاصمة أمام شاحنات النقل، فضلا عن ارتفاع أجور سيارات الأجرة والنقل الخاص.
ومن ضمن الانتقادات أيضا تلك التي وجهتها أوساط سياسية وإعلامية كان حجم الإنفاق المالي من قبل الحكومة تحضيرا لهذه القمة.
إذ أكدت كتلة "العراقية" النيابية بزعامة اياد علاوي الغريم التقليدي لرئيس الحكومة، إن "مبالغ طائلة أنفقت على البذخ الفائض لمؤتمر القمة تجاوزت مليار وربع مليار دولار"، مشيرة إلى شكوك بوجود عمليات فساد شابت التحضير للمؤتمر.
في حين إن الحكومة نفت إنفقاها هذا المبلغ الضخم، بل أعلنت إن جّل ما أنفقته هو (500) مليون دولار أمريكي صرفت على ترميم القصور الرئاسية والفنادق الرئيسية وتعبيد الطرق التي تمر بها مواكب الوفود المشاركة، إضافة الى تعاقدها مع شركة تركية لإدارة أعمال الضيافة، وشراء بدلات رسمية لموظفيها ذي ماركات ايطالية حسبما أشيع.
القمة التي تأتي بعد 22 عاما على أخر قمة استضافتها بغداد في أيار/مايو عام 1990، اعتبرت اقصر قمة من حيث الوقت المستغرق، إذ لم يبيت معظم الرؤساء في بغداد بل اقتصر حضورهم لمدة ساعات حتى إن أمير الكويت غادر قبل نهاية الجلسة الختامية. كما اعتبرها المراقبون "جلسة تعارفية" بين الوجوه الجديدة والتقليدية لزعماء الوطن العربي. عن (نقاش) |