|
|
يوسف الصدّيق يبحث في وحدة الثورات العربية |
|
|
|
|
تاريخ النشر
28/02/2012 06:00 AM
|
|
|
لا بد من قراءة الحوار الطويل الذي أجراه الصحافي الفرنسي جيل فاندربوتن مع الفيلسوف التونسي يوسف الصدّيق وصدر لدى دار L’Aube الفرنسية بعنوان «فلنتوحّد!». ففي أقل من ٨٠ صفحة، يتمكن الصدّيق من توضيح الأسباب الأساسية والأهداف الطموحة للحركات الثورية العربية الأخيرة، متوقفاً خصوصاً عند الحالة التونسية ولكن أيضاً عند موضوعات مختلفة قاده الحوار إليها، كبعض محطات مساره أو مفهوم الحداثة أو الدين الإسلامي أو مسألة انحراف الديموقراطيات الغربية... حوارٌ غني إذاً لا يفيه أي تلخيص حقّه، ولهذا ارتأينا تسليط الضوء على بعض الأفكار التي تعبره وتمنح القارئ فكرة عن مضمونه المثير. حول الأسباب التي جعلت من تونس منطلق ثورات «الربيع العربي»، يعتبر الصدّيق أن تونس هي الدولة العربية الوحيدة التي تتميّز بنسيجٍ إجتماعي متجانس. فإلى جانب الوحدة التي تتمتّع بها على المستوى الديني من خلال اعتماد مدرسة فقهٍ وحيدة هي المدرسة المالكية، يشير الصدّيق إلى التحالفات الداخلية التي نُسجت على مر التاريخ وجعلت من تونس عائلة مدنية واحدة بقيَمٍ وثقافة مشتركة؛ خصائص تفسّر، في نظره، تماسُك الشعب التونسي وتضامنه، كما تفسّر كيف يلقى حادثٌ فردي، كإحراق الشاب بوعزيزي نفسه، صدًى واسعاً وسريعاً. فلو حصل هذا الحادث في بلدٍ عربي آخر لما كانت له النتيجة نفسها. ويذكّرنا الصدّيق في هذا السياق بأن الولايات المتحدة كانت تُحضّر بنشاط لترحيل بن علي والترويج لتونس معتدلة وثابتة يمكن اتخاذها كنموذج لجميع التغييرات المقرَّر تحقيقها في منطقتنا. لكن الشعب التونسي استبق بثورته أي مشروعٍ خارجي مُعَدّ سلفاً له وتمكّن من تحويل هذه الثورة إلى حاضنةٍ لسديمٍ مبتكِر لنموذج آخر غير نموذج «الشرق الأوسط الكبير» الغربي. وإذ يصعب اليوم تحديد معالم هذا النموذج، لكنه سيُخطّئ حتماً أي منطق منبثق من اجتماع يالطا الشهير، ثم من ١١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١. وحول التهديدات الداخلية التي تتربص بمكتسبات الثورة التونسية، يذكر الصدّيق أولاً أركان النظام القديم الذين يحاولون العودة بالبلاد إلى الوراء عبر تأجيج الصراعات الداخلية والنعرة القبلية، ثم يتناول الفضاءين، القضائي والإعلامي الملتبسَين، في نظره، نظراً إلى أن الغالبية العظمى من القضاة كانت خاضعة في أحكامها لأوامر النظام السابق، وكذلك الأمر بالنسبة إلى جميع الوسائل الإعلامية. بالمقابل، يمتدح الصدّيق مؤسسة الجيش التي لا تقليد انقلابياً في تاريخها ولا طموحات سياسية لها، كما يحيّي دور المثقفين، من شعراء ومسرحيين وفنانين تشكيليين، الذين قاوموا بجرأة نظام بن علي وتعرّضوا للتهميش والرقابة وأحياناً السجن قبل أن ينشطوا بقوة أثناء الثورة. ولا ينسى الصدّيق الشارع الشعبي الذي ابتكر شتّى أنواع التعابير الفنية الصغيرة، كالنكات والكاريكاتور والرسوم الجدرانية (غرافيتي) وأغاني «الراب»، التي كان لها تأثيرٌ غير مباشر ولكن أكيد، عفي تآكُل نظام بن علي وانهياره وفي تشكيل موقف الشباب الرافض له. وفي موضوع الديانات، يقول الصدّيق إن أكثر ما يعجبه لدى المسلمين هو تشبّعهم من إسلامٍ لا علاقة له بالنظريات وينمّ عن رقّةٍ اجتماعية وتعاضد كبير بين أبنائه. ويرى أن هدف كارل ماركس من مقولته الشهيرة كان فضح البؤس الذي يتم تخديره بهذه الوسيلة، كما بأية وسيلة أخرى، وليس انتقاد الدين كنظام قيَم يمكن الاستخلاص منه مبادئ حُكمٍ وإدارة. وكفيلسوفٍ ماركسي، يعارض الصدّيق اجتثاث الديني من المَعيش السياسي شرط عدم اكتساحه فضاء الحياة الدنيا. التفاعل مع الآخر وعن مسؤولية المثقّف تجاه مجتمعه، يعتبر أن عليه العيش والتفاعُل مع الآخرين وعدم التصرّف بالمعارف التي اكتسبها كما لو أنها ملكيته الخاصة، وبالتالي الحد من كبريائه لأن الإنسان لا يبلغ الحكمة أبداً بل يتوق إليها. ومن هذا المنطلق، يفسّر المفكر التزاماته الأخيرة في الميدان السياسي وانخراطه في تأمّلٍ حول كيفية إعادة بناء الدولة التونسية ودعوته القوى التقدّمية الحيّة في تونس إلى التكتل للدفاع عن مكتسبات الحرية والحداثة. وحول اعتبار الغرب «الربيع العربي» دخولاً للعرب في كنف الحداثة، يلاحظ الصدّيق سوء فهمٍ في الغرب لمفهوم الحداثة بحيث يختلط مع مفهوم «التقدّم» بالمعنى الذي استخدمه فيه أرنست رونان وأوغست كونت وجعلا منه إحدى خصائص الشعوب الهندية - الأوروبية والغرب عموماً، مؤكّداً أن الحداثات الحقيقية تنبثق في كل مرحلة، وفي جميع الفضاءات، من تحوّلاتٍ كبرى، ثم تعود لتنبثق من جديد، هنا وهناك، حين تؤجّج إرادةٌ غامضة الحاجة إليها في زمنٍ محدَّد، كما في عالمنا العربي اليوم. أما بالنسبة إلى الديموقراطيات التمثيلية والبرلمانية الغربية فيرى الصدّيق أنه تم حرْفها عن طريقها المستقيم وتحويلها إلى «مجتمعٍات استعراضية» من خلال الحسابات السياسية الضيقة والتلاعب الإعلامي، وأن الجانب الاستعراضي فيها لم يعد مجرّد قشرة تغطّي عالماً حقيقياً يمكن بلوغه ما إن نخترق هذه القشرة، بل أصبح قلب هذه الديموقراطيات الذي لا يحرّكه سوى نزعة الاستهلاك وهاجس «التفاهة» وما لا فائدة له. ويختتم الصدّيق هذا الحوار بملاحظة مثيرة مفادها أن ثمة تحوّلاً شاملاً في عالمنا تتّجه فيه قيَم السياسي نحو «الأكثر كرامةً» و «الأكثر إنسانيةً» و «الأكثر عدالةً». ومع أن الشجاعة والتضحية تبقيان ميزتَي الشعوب المعذّبة، فما إن تتحرّر هذه الشعوب حتى تلتحق بها الشعوب الغربية التي ما زالت تعيش تحت التأثير المخدّر للرفاهية والحياة السهلة. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ انطوان جوكي
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|