ليس هناك شك في أن لدى العراق، القدرة أن يكون واحدا من أكبر المصدرين للذهب الأسود. وأن ينافس السعودية التي تعتبر في الوقت الراهن ثاني أكبر مصدر للنفط في العالم. ولكن أكثر من نصف طاقات العراق لا تزال غير مكتشفة، وسيكون هناك قدر هائل من الاهتمام في قطاع النفط في البلاد في السنوات القادمة. البلد الخارج من رحم الحصار والحروب المتعاقبة يواجه تحديات كبيرة تتعلق بمستقبل الصناعة النفطية فيه. ظاهريا تبدو الأمور وكأنها تسير بشكل جيد: فالإنتاج اليومي أقل بقليل من 3 ملايين برميل يوميا والقدرة الانتاجية آخذة بالتزايد. أما عائدات النفط فقد ارتفعت بشكل كبير لتصل إلى 60 في المئة ولكن سبب ذلك يعود بشكل أساسي لارتفاع أسعار النفط. وفي الواقع فلم يرتفع انتاج النفط إلا بنسبة 15 في المئة في عام 2011. البنية التحتية للصناعة النفطية وللصناعات الأخرى التي أصيبت بالترهّل، والتحديات البيروقراطية والأمنية، فضلا عن التأخير في المدفوعات وفي التصديق على العقود النفطية ما زالت عوامل تحد من قدرة العراق على تطوير انتاجه النفطي. الكثير من هذه العوائق تعود لأسباب تاريخية، ولكن الطبيعة "المحافظة" الحالية لسياسة الحكومة قد ساهمت أيضا في تفاقم مشاكل انتاج النفط. لقد فشلت الحكومة في فهم حدودها عندما يتعلق الأمر بثروة البلاد النفطية. فلدى الشركات الدولية الخبرة والتقنيات اللآزمة ولدى العراق النفط ولا يمكن للشركات أو للعراق أن يعملا من دون بعضهما البعض. ويعرف السياسيون العراقيون أن صناعة النفط هي صناعة أساسية لمستقبل البلاد ولكنهم يبدون وكأنهم غير قادرين على ايجاد توازن ما بين مصالح البلد والحاجة إلى جذب مستثمري النفط العالميين من أجل استثمار ثروات البلاد. بدلا من أن يخوضون هذا التحدي الهام، يعمل بعضهم على استغلاله لتسجيل نقاط سياسية. لكي يصبح العراق قوة مصدرة للنفط وهو بلد يمتلك هذه القدرة في المستقبل، يجب إيجاد حلول للمسائل التالية:
قانون النفط والغاز تم وضع المسودة الأولى لقانون النفط والغاز في عامي 2006 و 2007. ولكن، وقبل أن يقدم القانون إلى البرلمان للقراءة الأولى بدأ العبث بمشروع القانون. وفي نهاية المطاف، أصبح القانون مسيسا لدرجة أصبح من الصعب معها أن يكون له أي معنى. لذا فقد فإن القانون بشكله الحالي غير قابل للتطبيق وفشلت المحاولة الأولى لتشريعه. على هذا النحو، فقد عكست عملية صياغة هذا القانون طبيعة الخلل الوظيفي في السياسة العراقية. لقد جرت الانتخابات، وكانت هناك محاولات تشريعية ونزاعات اقليمية ورغم ذلك فشلت الحكومة الحالية بالوصول إلى تسوية قابلة للتطبيق بشأن قانون النفط والغاز. هناك الآن عدة نسخ من هذا القانون، صاغتها فروع مختلفة في الحكومة، ولكن وحتى الآن لا يوجد أي تقدم في إصدار قانون على غاية من الأهمية ينظم هذا القطاع الحيوي الذي يعتمد عليه الاقتصاد العراقي بشكل شبه كامل. البنية التحتية عانت البنية التحتية لصناعة النفط من نقص مزمن في الاستثمار منذ الثمانينات من القرن الماضي. ولقد أدت الحروب الثلاثة التي خاضها العراق والاضطرابات والحروب الأهلية وسوء إدارة هذا القطاع إلى تردي أوضاع البنية التحتيه له. وهو الآن بحاجة إلى استثمارات حقيقية وجادة. اليوم، لا يعود وجود شركات نفط عالمية كبرى في جنوب البلاد الى سياسات سليمة بل إلى حقيقة امتلاك العراق لاحتياطيات نفطية هائلة لا يمكن للشركات النفطية تجاهلها. صحيح أن إنتاج النفط قد آخذ في الارتفاع. فقد وصل في عام 2011 إلى 790.5 مليون برميل بعوائد تقارب 83 مليار دولار. وفي عام 2010، باع العراق 689.9 مليون برميل وبلغت عائداته 52.2 مليار دولار اميركي. لكن ونظرا لحقيقة أن العقوبات الدولية المفروضة على البلاد قد رفعت منذ تسع سنوات تقريبا وبعد الاطاحة بنظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، فإن إنتاج النفط الحالي لم يصل إلى المستويات التي كان ينبغي الوصول إليها. ومع بدء العمل بحقول جديدة بدأت القدرة بالازدياد. ولكن هناك اختناقات ناجمة عن ضعف في البنية التحتية، بما في ذلك خطوط الأنابيب ومرافق التخزين، وعدم وجود استثمارات. وتؤثر جميع هذه العوامل على مستويات الانتاج. لقد كانت الأهداف التي وضعت في وقت سابق متفائلة جدا حيث كان من المتوقع انتاج 12 مليون برميل في اليوم بحلول عام 2017. وقد بدأت بغداد ببطء ولكن بثبات بتقليل هذه الأهداف. أما الهدف الحالي فهو 7 مليون برميل يوميا بحلول عام 2017. الصراعات الإقليمية منذ عام 2003، كان اقليم كردستان العراق الذي يتمتع بشبه حكم ذاتي حريص على استغلال موارده الطبيعية والبدء في استكشاف المناطق التي تم تجاهلها سابقا من قبل الأنظمة العراقية السابقة. على الرغم من أن عددا قليلا جدا من شركات النفط قد غامرت بالقدوم إلى كردستان العراق في وقت مبكر للاستثمار في النفط إلا أن هذه الشركات تستثمر الآن بشكل جدي عندما أصبح من الواضح أن بغداد لن تتمكن من تمرير قانون النفط والغاز في وقت قريب. قدمت حكومة كردستان العراق نسختها الخاصة من قانون النفط والغاز وبذلك، تمكنت من جذب شركات النفط الدولية إلى الإقليم. وقام الأكراد بجهود واعية للقيام بذلك بمفردهم واختاروا بعناية سياستهم العامة الخاصة بهم. لكن هذا التصرف أدى بالضرورة إلى نشوب صراع مع بغداد. فأعلنت حكومة العراق الفيدرالية أن قانون النفط والغاز الكردي لاغٍ وغير دستوي، وهددت بوضع الشركات العالمية التي وقعت عقود نفط مع الأكراد على القائمة السوداء. أثار هذا النوع من السياسات مزيدا من الجمود في التشريعات النفطية المتوقفة. وفي بعض المستويات، يمكن القول بأن سياسة بغداد قد نجحت. فقد ردعت شركات النفط الكبرى وشركات النفط الصغيرة المتعطشة للسيولة. ولكن هذه السياسة تداعت إلى حد ما عندما وقعت شركة اكسون موبيل اتفاقا مع كردستان العراق في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011. كانت هذه اللحظة فاصلة بالنسبة للأكراد، وضربة لادارة المالكي. لقد تم تحدي تهديد العراق بإدراج اسم الشركات على القائمة السوداء حيث أن اكسون لديها بالفعل حصة كبيرة في حقل نفط عراقي في الجنوب، وحقل غرب القرنة المرحلة. عقود النفط تؤدي عقود المشاركة في الانتاج الى قيام شركات النفط الدولية بزيادة الاستثمار وزيادة أخذ المخاطر ولكنها تحصل في الوقت ذاته على نصيب أكبر من العوائد المترتبة على ذلك. وتتحمل شركة النفط كامل أو معظم المخاطر ويتم في المقابل دفع جزء من عوائد النفط لها. أما في عقود الخدمات الفنية فان شركة النفط توافق على استخراج النفط مقابل سعر محدد لكل برميل بينما تتحمل الحكومة كافة أو معظم المخاطر. ولكن وبسبب مقدار الاستثمار المسبق الذي تحتاجه من أجل استخراج النفط فان هذا النوع من العقود قد لا يكون مغرياً لشركات النفط هذه. ويقول الخبراء بأن عقود الخدمات الفنية غير مناسبة اذا ما رغبت الشركة في الانخراط في استكشاف النفط. إن العراقيين لا يثقون بشركات النفط الغربية. وخلال الفترة التي اعقبت سقوط صدام حسين جرى بيع الشعب العراقي الفكرة القائلة بأن شركات النفط الغربية متواجدة من أجل نهب البلد والاستحواذ على نفط العراق مقابل الفتات حسبما كان سائداً في بدايات القرن الماضي. وقد صدقوا ذلك لأنهم كانوا يرون نفطهم يتسرب عبر ايادي شركات النفط الاجنبية بدون أن يستفيدوا فعلياً منه. ففي العام 1928 جرى التلزيم الرسمي لأربع شركات نفط رئيسية – هي شركة النفط البريطانية (بي بي) و (شل) و (اكسون موبيل) و (توتال) – باسم شركة نفط العراق والتي كانت تعرف سابقاً باسم شركة النفط التركية وأعطوا لأنفسهم نصيب الربع تقريبا لكل منها من الأرباح، فيما حصلت الحكومة على نسبة قليلة جدا من الأرباح. فتم دفع عوائد صغيرة للعراق طوال اربعين سنة تقريباً. وكان نفط العراق تحت سيطرة الآخرين قبل قيام نظام صدام حسين عام 1972 بتأميم صناعة النفط. وكان يفترض بالتأميم أن يدر المنافع على الشعب، لكن وبدلاً من ذلك تم استخدام العوائد لخوض حرب لا معنى لها مع ايران وبعدها جرى استخدامها لتقوية دكتاتورية صدام وقمع أية أصوات معارضة داخل العراق. واليوم فإنه ليس من السهل تقرير أي نوع من أنواع العقود التي يجب منحها لشركات النفط الدولية الراغبة في العمل في العراق. ففي الأيام الأولى التي اعقبت غزو العراق عام 2003 بقيادة الولايات المتحدة وأدت إلى الإطاحة بصدام حسين سعى الدبلوماسيون الغربيون وشركات النفط الدولية لدى السياسيين العراقيين من أجل شروط أفضل ومن أجل منح عقود مشاركة في الانتاج. وكان هناك آخرون يحذرون ضد منح عقود أكثر سخاءً وضد اعطاء الكثير من النفط. ويمكن العثور على أفضل الأمثلة لمثل هذا النوع من العقود في حقول نفط العراق الجنوبية حيث ذهبت العقود لأمثال شركة النفط البريطانية و(اكسون موبيل) و(شل) من بين أكبر الشركات العاملة. وفي معظم الحالات وقعت عقود الخدمات بدفع ما يقارب دولارين امريكيين عن كل برميل نفط لشركات النفط. ولم يصادف هذا ارتياحاً لدى شركات النفط الكبرى التي كانت تدرك بأن عليها الاستثمار بشكل كبير في صناعة النفط العراقية لتتمكن من انتاج براميل النفط. ويمكن لهذا النوع من العقود أن يكون فعالاً في بلدان مثل الامارات العربية المتحدة حيث توجد بنية صناعية نفطية قائمة في مكانها مما يقلل من حجم الاستثمارات المطلوبة من شركات النفط ولكن هذه العقود تبعث على القلق في بلد كالعراق. إن السياسة الحالية الماثلة في الضغط على شركات النفط الدولية تبدو كخطوة جيدة على المدى البعيد لأنها تعني بأن الحكومة العراقية ستحصل على نصيب الأسد من عوائد النفط. إلا أن التكلفة على العراق كانت عالية على المدى القصير لأن الأمر استغرق تسع سنوات لتشغيل المشاريع وايجاد الموارد التي يحتاجها لإعادة بناء البلد. كما لا تزال هناك حاجة للانتظار للحكم عما اذا كانت هذه العقود ستصمد مع مرور الزمن. وقد بدأ مؤخراً أن بعض شركات النفط تبحث الخروج من العراق. وفي أوائل شهر شباط (فبراير) تبين أن شركة النفط النرويجية (ستاتويل) ترغب في بيع حصتها في المرحلة الثانية في حقل (قرنة) الغربي في جنوب العراق الى شركة (لوكويل) الروسية العاملة أيضاً هناك. وقد نقلت وكالة رويتر أن "الشركة النرويجية التابعة للدولة تفكر في مغادرة العراق منذ بعض الوقت وتحويل اهتمامها الى أصول أقل خطورة في مكان آخر. وحسب المصادر فإنها تخطط لاستثمار بلايين الدولارات في مناطق متشاطئة Offshore في النرويج والولايات المتحدة". وبالاضافة الى ذلك فإن أحداثاً مثل قيام شركة (اكسون موبيل) بتحدي الحكومة العراقية والتوقيع على عقد مع كردستان العراق تؤشر على أن هذه الشركة غير قلقة من خسارة عقدها في المرحلة الأولى من حقل القرنة الغربي. إن اتباع سياسة الخط المتشدد في الضغط على شركات النفط الدولية قد لاقى ارتياحاً لدى الشعب العراقي ولكنه يبدو في طور التفكك حيث بدأت شركات النفط تدرك بأن الشروط التي يتم وضعها والحوافز المالية لا تساوي المخاطرة. لقد انقلبت الأدوار حيث أن الحكومة العراقية تحتاج الآن لكسب ود شركات النفط الدولية للوفاء بأهداف الانتاج من أجل الابقاء على تدفق الدخل الذي تحتاجه البلد. عدم وجود الخبرة والمعرفة لو كان لدى العراق المعرفة والقدرة الفكرية لتطوير قطاع النفط والغاز لديها فانه كان بامكان شركة النفط الوطنية العراقية القيام ببناء معظم البنية التحتية وبناء القدرات بمساعدة المتعاقدين الاجانب. ولكن ومنذ تأميم صناعة النفط خسرت البلد الخبرة والمعرفة التي تشكل جزءاً حيوياً من صناعة النفط التي لا يمكن بناؤها بين يوم وليلة. وحتى لو كانت السياسات صائبة فان الأمر يستغرق عقوداً وبلايين الدولارات. وعليه فان الأمر واضح تماماً: إن الحاجة هنا تدعو الى وجود الخبرة والمعرفة والتكنولوجيا التي تمتلكها شركات النفط الدولية من أجل الاسهام في عراق اكثر رخاءً. إن الدليل على كون اجتذاب شركات النفط الدولية نحو العراق يشكل تحدياً مستمراً ماثل في التأخير في الجولة الرابعة من التراخيص الخاصة بعقود النفط. فقد كان من المفروض أن تتم المزادات في شهر كانون الثاني (يناير) ولكنه جرى تأخيرها لنهاية شهر أيار (مايو). إن العقد المعروض هو نوع جديد ويشكل نسخة هجينة من العقود. وقد لاحظ البعض أن هذا العقد هو نوع مقنع من عقود المشاركة في الإنتاج – حيث أن العقد مقنع نظراً لاعتقاد الجمهور العراقي بأن عقود المشاركة في الانتاج تمثل بيعاً لنفطهم الى مالكين اجانب. تجد شركات النفط نفسها عاجزة عن احتساب كمية المخاطرة عندما تقوم بالبحث عن النفط. وحتى لو عثرت على النفط فانه لا توجد ضمانه بأن بنية العراق التحتية ستكون جاهزة لمساعدتها على البدء بضخه وخاصة مع سجل بغداد الضعيف فيما يتعلق بانجاز المشاريع وبناء القدرات. وختاماً فإنه كان لدى العراق خطط عظيمة في مجال صناعة النفط لديها بالاضافة الى طموحاتها الى القوة والنفوذ التي يجلبه نفطها لها على المسرح العالمي. إلا أن التسويف والتفكير الخاطئ بخصوص المشاكل المزمنة لصناعة النفط قد جعل من هذه الطموحات أمراً مستحيلاً. لقد أدت الصراعات السياسية الى تأخير الصناعة النفطية ولا توجد أية اشارة لانتهاء الصراع على السلطة قريباً. إن حقيقة عدم تأكد بعض شركات النفط من مدى رغبتها بالاستمرار في البقاء في العراق تقف شاهداً على أنه وبعد تسع سنوات، فشلت سياسة العراق النفطية، وان الحاجة تدعو الى تغيير التوجه. عن "نقاش" |