مؤلفات مؤرخ وفيلسوف العلوم رشدي راشد تبدو كجمهورية أفلاطون مكتوب على بابها "لا يدخل من لا يعرف الرياضيات". وإذا اقتَحمْتها، حتى لو لم تعرف سوى عمليات الحساب البسيطة، تنفتح لك الفلسفة التي يقول عنها عالم الفلك الإيطالي جاليليو إنها "مكتوبة في ذلك الكتاب العظيم المبسوط أبداً أمام أعيننا، وأعني الكون، الكتاب المكتوب بلغة الرياضيات، حروفه مثلثات ودوائر وأعداد هندسية أخرى، من دون مساعدتها نجول عبثاً عبر متاهة مظلمة". دفاتر الرحلة عبر متاهة ضاع فيها تاريخ الرياضيات العالمية، دوّنها راشد في آخر كتبه التي صدرت مترجمة من الفرنسية للعربية. خمسة مجلدات و4 آلاف صفحة عنوانها "الرياضيات التحليلية بين القرن الثالث والقرن الخامس للهجرة، وفيها من الخيال والعاطفة المشبوبة أكثر مما في مئات الروايات والأعمال السينمائية.
في المجلد الأول "المؤسسون والشارحون: بنو موسى، ابن قرّة، ابن سنان، الخازن، القوهي، ابن السمح، ابن هود". ويحتل عالم واحد المجلدات الأربعة الأخرى هو "الحسن بن الهيثم" الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي، ولم يُدرك مؤرخو العلوم الغربيون إلاّ بعد عشرة قرون أنه لم يكن العالم الأول في التاريخ فحسب، بل العالم الموسوعي الأول، ولم يعرفوا حتى صدور هذه المجلدات أن علوم الرياضيات والفلك تشكل ربع مجموع أعمال ابن الهيثم، وتعادل ضعفي "كتاب المناظر" الذي اشتهر به، وجهلوا أن علوم الرياضيات العالمية لم تذهب إلى أبعد مما أتى به ابن الهيثم حتى أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر.
يبدأ هذا المؤلَف الموسوعي بثلاثة علماء أشقاء من أسرة بغدادية ثرية اشتهروا باسم "بنو موسى"، محمد وأحمد والحسن، أبناء موسى شاكر. اختص محمد بعلم الفلك والرياضيات، وبرع أحمد في ميدان الميكانيكا، وظهرت عبقرية الحسن في علم الهندسة حيث كان يكتفي بقراءة ست مقالات فقط من "أصول" إقليدس، المرجع الأساسي في ذلك العصر، "لأنه توصل وحده إلى المقالات السبع الباقية". وكان الخليفة المأمون "يلومه شخصياً على عدم إنجازه لقراءة كتاب أساسي إلى هذا الحد"! كانت بغداد في القرن التاسع "مركزاً لامبراطورية شاسعة تتربع على قمة المجد"، وكان هؤلاء الأخوة طراز فريد يضاهي من يسمون اليوم قادة المجتمع العلمي؛ "قاموا بطلب شخصي من المأمون بالتثبت من طول محيط الأرض"، وكانوا في عداد مستشاري الخلفاء، ومسؤولين عن الأعمال الكبرى في الهندسة المدنية، وفي قائمة عشرين شخصاً من كبار الأغنياء الذين كان عليهم أن يقدموا للخليفة الأموال الضرورية لبناء مدن جديدة، ويمولون البحث عن مخطوطات يونانية، ويجزلون العطاء لمترجميها للعربية، والله يعلم كيف كانوا يجدون الوقت لبحوث فهرسها كبار مراجعي ذلك العصر، ابن النديم والقفطي في علوم الرياضيات وتطبيقاتها، كالهندسة المائية والميكانيكية، وفي علوم الفلك والموسيقى والأرصاد الجوية. وعلى ما في هذه المعلومات من الإثارة، فتاريخ العلوم العربية ليس التغني التقليدي بمآثرها وسير علمائها، بل تاريخ العلوم هو العلوم نفسها، كما كان يقول الفيلسوف والشاعر الألماني جوتة. ولم يستطلع راشد البحوث الطليعية لابن الهيثم فحسب، بل يستشعر معه وفيه قسم من الرياضيات القادمة في المستقبل، وهذه "إذا لم تشكل قسماً فعلياً من أعماله فإنها ضرورية لفهم وتحليل تلك الأعمال". وهدف راشد في مؤلفاته الموسوعية المنشورة أصلاً بالفرنسية، بيان أن مزيداً من المعرفة بالعلم العربي يسهم في تحسين قدرة مؤرخي العلوم على فهم علومهم من الناحيتين الأبستمولوجية والتاريخية، وإدراك خاصيتين مميزتين استقاهما العلم الكلاسيكي من التراث العربي، عقلانية رياضية جديدة، والتجريب كنمط من أنماط البرهان. ومن "العجب الغريب"، حسب رشدي راشد، تعمية ثلاثة قرون من التاريخ العالمي للعلوم بما يسميه المؤرخون الغربيون "عصر النهضة الأوربي"، أو "الثورة العلمية"!
وربيع العقل العلمي العربي أصدر هذه الموسوعة بلغة ابن الهيثم، وليس مترجماً، كما في الطبعة الأصلية للكتاب بالفرنسية. فهذا العالِم البديع نجهل حتى الآن لماذا، وأين ادّعى الخبال، هل في البصرة حيث ولد وترعرع، أم في القاهرة حيث أبدع أهم مؤلفاته، وهل فعل ذلك للتخلص من أعباء مناصب تصرفه عن العلم، أو هرباً من بطش حاكم مجنون أراد منه أن يغير مجرى النيل، أو ربما لشدة تهذيبه الذي يجعله يخاطب مجهولاً انتقد كتابه "في حركة الالتفاف" بعبارة "مولاي الشيخ صدّق قولَ بطلميوس في جميع ما يقوله من غير استناد إلى برهان ولا تعويل على حجة بل تقليداً محضاً. فهذا هو اعتقاد أصحاب الحديث في الأنبياء صلوات الله عليهم، وليس هو اعتقاد أصحاب التعاليم وأصحاب العلوم البرهانية".
وإذا كان صدور هذه الموسوعة التي تتكون معظم صفحاتها من نصوص قضايا رياضية، حدثاً علمياً، فإن ترجمتها للعربية حدث علمي لغوي يقول الكثيرَ بشأن اللغة العربية التي قادت المعرفة في مجالات العلم نحو أربعة قرون. يذكر ذلك محمد إبراهيم السويل، رئيس "مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية" بالرياض، والتي دعمت ترجمة ونشر الموسوعة بالتعاون مع "مركز دراسات الوحدة العربية" في بيروت. ويشير السويل، وهو عالم رياضيات، في تقديمه للموسوعة إلى إصدارها ضمن "مبادرة الملك عبد الله للمحتوى العربي"، وهذا يجعلها ما يجدر أن تكونه، محتوى ثميناً ليس لأطروحات وبرامج أكاديمية فحسب، بل أيضاً مصدراً لمناهج تعليم ومباريات تفتح العقل العربي على علوم الحساب والهندسة والفلك من مرحلة رياض الأطفال والمدارس الابتدائية، ومادة لإنتاج أفلام ومسرحيات، كالقصة الطريفة عن حلاق بغداد، والتي يوردها راشد من "ألف ليلة وليلة" لإيضاح العقلانية الرياضية التي جاءت بها الحضارة العلمية العربية. يُعرِّف الحلاق بنفسه: "ستجدني أحسن حلاق في بغداد، فأنا حكيم مجرّب وصيدلي عميق ومنّجم لا يخطئ، ضليع في النحو والبلاغة، ومؤهل في علوم الرياضة في الهندسة والحساب وكل مسائل الجبر... وأنا أيضاً شاعر ومهندس".
يعرض راشد هذه القصة في كتابه "دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها" الذي صدر عن "مركز دراسات الوحدة العربية"، وفيه يذكر أن الحديث عمّا يحلو للبعض تسميته بـ"العقل العربي" لا يمكن بدون معرفة متمحصة ودقيقة بهذا التراث العلمي. "فعندئذ سنعرف أن هناك (عقولاً) أو على الأصح (عقلانيات) تتابعت وتعددت خلال بحث جاد ومجدد دام عدة قرون على أيدي فحول من علماء وفلاسفة ألفوا كتبهم وأبحاثهم بالعربية وعاشوا وعلموا في المدينة الإسلامية". ولا يمكن بحال تصور ظهور وتطور العلوم العربية خارج جوامع ومشافي ومراصد ومدارس ومرابع النخبة العلمية المثقفة في المدينة. |