حركة العنف الداخلية والخارجية، الشعورية والسلوكية، النفسية والجسدية، الذاتية والاجتماعية، الآنية والتاريخية، يحكمها في الحياة الاجتماعية وفي الممارسة اليومية قانون محدد، يقوم على تبادل التأثير، وتبادل الأدوار، والانتقال الدائم من النفسي الى الاجتماعي، وبالعكس.
يوظَّف النفسي لخدمة الاجتماعي، والاجتماعي يتعهد النفسي والفردي بالرعاية والتهذيب والصقل والإعداد للممارسة العامة. أي يتولى مهمة تحويل النشاط من سلوك فردي وإحساس ذاتي الى وظيفة عامة. في المقابل يقوم الفردي والخاص والشعوري باستغلال الحماية أو المنافع أو التطمينات العاطفية والمادية المقدمة من الجماعة (دولة، حزب، طائفة، قبيلة، عرق، عائلة، عصابة)، ويجتهد ويتفنن في سبل عرض المؤهلات الفردية ووضعها في خدمة الجماعة. هذا التبادل هو سر العلاقة التي تحكم، وفق آليات شديدة التعقيد، الصلة بين الفردي والاجتماعي، الخاص والعام، ومنها نشاط الأديب والفنان كمنتج للقيم، والمؤسسة الثقافية كحاضن ووسيط ومحتكر للملكيات الثقافية. إن المؤسسة، التي تعدّ الطرف الأقوى في معادلة الواقع، تسعى، بكل ما أوتيت من قوة وحيلة، الى احتكار اقتناء (شراء، قبول، توظيف، تبني، استغلال، سلب) المؤهلات النفسية، كسلعة، ثم تقوم بعرضها للتداول اجتماعيا، عبر قنواتها المختلفة. لا تهتم المؤسسة بالتفاصيل والفروق الفردية، بقدر اهتمامها بالأهداف الأساسية. يتعاظم غض الطرف عن الفردي والخاص، كلما كانت القوة المحتكرة أميل الى النفعية السياسية، أو ما يعرف بـ"البراغماتية". أما النظم الشمولية (طبقية، أو عرقية، أو دينية)، فتعنى بالتفاصيل والجزئيات، التي تعتقد أنها رموز إشارية، حسية وعاطفية، دالة على الهدف الأساسي، فتميل الى التطابق والتماثل الشكلي. وهي لذلك أقل مقدرة على الحركة الحرة، لأنها تهدر جزءا كبيرا من طاقاتها في سبيل خلق التماثل والوحدة الخارجية المظهرية. تبيّن لنا الكثير من النصوص التي تناولت موضوع العنف من وجهة نظر معادية للعنف، كما يعتقد أصحابها، أن هذا التيار، على الرغم من عدائه الظاهري للعنف، لم يزل من حيث الجوهر جزءا من مكوّنات ثقافة العنف ولبنة أساسية من لبنات الميل العدواني السياسي، ولكن بأقنعة جديدة. إن إرادة العنف تنقسم قسمين رئيسيين، الأول: العنف المادي (الجسدي أو الحسي) ممثلاً في القتل والايذاء والتدمير المباشر، والثاني: العنف المعنوي ممثلاً في شقين: العنف الخارجي المباشر، الذي يحقق غاياته بالممارسة الفعلية من طريق التعذيب النفسي والاضطهاد والتدخل الإرغامي في إرادة الآخر أو حريته الشخصية؛ والعنف الداخلي، غير المباشر والذهاني، الذي ينحصر في حدود أمنيات العنف، ومخيلة العنف، ومشاعر العنف، وهوس العنف، وطرائق التعبير اللفظي عن العنف، بالشكل أو الصوت أو الكلمة المكتوبة. بيد أن هذين العنفين النفسيين لا ينفصل أحدهما عن الآخر في الممارسة الاجتماعية، ويغدوان فعلاً مؤثراً وموحداً في مجرى النشاط السياسي. فأخيلة العنف قد تتحول ضرباً من الوشايات السرية والعلنية. وشاية المخبرين تنتسب الى النوع الأول، ووشايات الثقافة المتمظهرة في صورة بيانات ونصوص تنتسب الى النوع الثاني. وغالبا ما يتحد النوعان في نشاط متبادل. أدب التعبئة أوجه العنف المختلفة هذه، وجدناها ماثلة بقوة في ثقافة المجتمع العراقي، وإن بدت أكثر وضوحاً وسفوراً في ظل سيادة ثقافة العنف الديكتاتورية في العراق. سبب ذلك الوضوح يعود الى ارتباط النشاط العدواني (المخيلة العدوانية ونوازع الوشاية وأشكال التعبير عنها)، في الأغلب، بأدب رسمي، هو أدب التعبئة الحكومي أو الحزبي، المساير لحروب السلطة ونشاط أجهزة القمع الحكومية. وهي حروب ومعارك تمت بصورة نظامية، أو شبه نظامية، أو بصورة قمع منهجي، جرى تبنيه علناً كمشروع "وطني" أو حرب "وطنية". لذلك سهلت على الناظر رؤية الارتباط السببي والعلاقة الشرطية القائمة بين العنف المادي والمعنوي، الثقافي منه خصوصاً. ولكن، على الرغم من ذلك، ظلت لغة العنف السلطوي في تلك الحقبة تملك رقابتها الخاصة، الأخلاقية والسياسية والفنية، التي سعت الى تهذيب اللغة الرسمية والحكومية خصوصاً، من التطرف الشديد الصادم للمشاعر، حفاظا على هيبة الدولة، باعتبارها جامعا وطنيا عاما، أعلى. أما في زمن الحروب الأهلية وتفكك مركزية الدولة، فيغدو العنف والتعبير عنه أكثر انفلاتا، وليس أقل حجما، وتغدو لوحة ظهوره في مجرى النشاط اليومي أشد تعقيدا وضبابية، لكنه لا يقل قسوة وبربرية واعتلالا عن سابقه. ففي لحظة انفصال معمّر القذافي عن بنية المجتمع فاض لسانه، بما ظل عقله وشعوره يختزنه مهذباً باسم الدولة والمجتمع، زمنا طويلا. وفي أحوال كثيرة ينفلت العنف اللغوي من عقاله فيغدو هياجا عاطفيا، ومباريات دعائية في فن العدوانية الشعورية العاطفية، هدفها جذب اهتمامات المعنيين بالشأن السياسي، سلطة احتلال أو قادة جماعات سياسية أو جماعات محاربة ومؤسساتها الإعلامية، كما حدث في عراق ما بعد 2003. في الأحوال جميعها، يقيم الفردي مع المؤسسة علاقة قوامها عبادة القيم، لا عبادة حائز القيم. وعبادة القيم، كبديل من عبادة الفرد الممثل للقيم (المستبد)، أليق بمرحلة تفتت مركزية القرار السياسي وواحديته. فمنتج القيم العنفية، وإن كان يبيع منتجه من كيانات حسيّة محددة، قائد، حزب، طائفة، كتلة، جماعة، إلا أنه يخدم العنف والشر كقيمة مطلقة. من أجل الطغيان لا الطاغية إن بائع العنف الثقافي، يبيع منتجه حسياً من دولة أو حزب أو جماعة، أو قوة اجتماعية، لأنها المشتري الأول للبضاعة. لكنه ينتج بهدف واحد: بيع منتجه الى المؤسسة كقيمة رمزية، وليس كقيمة عيانية. فهذا النموذج ينتج من أجل الشر لا من أجل سواد عيون الشرّير، ومن أجل الطغيان لا الطاغية. هنا تكون الثقافة صناعة شريرة خالصة، مفرغة من قيم الفضيلة والمنطق والمعايير السوية. لهذا، فالمُنتِج الثقافي هنا عبد للشر والطغيان والعنف. أما القائمون بتسويق الشر عمليا فيمتهنون حرفة بيع منتوجهم من كل مشتر، يفيد من منتجهم، ويجد فيه نفعا. وقد أدرك صدام حسين، في فترة إقامته في سجنه، هذه المفارقة القاتلة. فالذين اصطفاهم ليكونوا عيونه الشخصية وعيون أبنائه وكاتمي سرّهم، هم الذين وشوا به وبأبنائه. والذين كالوا له ولمشروعه السياسي والحربي المديح، لم يتورعوا عن إظهار مشاعر الولاء للقوي الذي خلفه. وحينما يضعف المشروع الأميركي والعرقي والطائفي، سيقوم هؤلاء بيبع منتجهم من أشرار جدد. هؤلاء عبدة الشر الثقافيون، وعبيده. وإذا كان أصحاب الفريق الأول، العنف المادي، يتمتعون بصفات التحدي، والتهور، والمهارة والقسوة الجسدية، والجرأة، فإن أعضاء الفريق الثاني، الذين لا تتوافر فيهم هذه الصفات كاملة، يملكون ما يعوّضهم عن ذلك: مشاعر العنف، الخيال السادي المازوخي، أحلام العنف، هوس الايذاء العدواني. الأهم من هذا: الرغبة في إشهار هذه المشاعر من طريق التأليف الفني والأدبي أو الشائعة والوشاية وغيرها من وسائل الاتصال. هذان الوجهان هما وجها ثقافة العنف وقوامها، أي العنف المادي وغطاؤه الروحي، أو الفعل العنفي (الممارسة العنفية) والتأويل والتخريج الشخصي والأدبي والفني والعاطفي للعنف. إن النص العنفي والتعبوي يقوم بإعادة رسم مشهد عنف متحقق في الغالب، من طريق إضافة لمسات فنية وعقلية وشعورية عليه، تقوّي وتعمّق قسوة العنف المادي، أو ترمّم بعض انعكاسات تحققه في الواقع. أو يقوم بإكمال مشهد عنف ناقص، لم يتم التأكد منه، ويتولى مهمة استكماله بنفسه، من طريق افتراض عنف تكميلي ينجز به صورة العنف المادي الناقصة. في الأحوال كلها يقود النص العنفيّ، ذو الميول العدوانية، سلسلة الأفعال المتحققة واقعيا الى غايات أبعد من حدود الحدث والواقعة، ويسير بها الى تأويل سياسي أو ايديولوجي لا صله له بالمشهد نفسه، كحقيقة قائمة على الأرض، وكخصوصية تميز هذا أو ذلك. أي يتم تأسيس تأويل مفترض، قائم على العنف، مخصص للنيل من جهة أخرى، لا ترتبط مباشرة بواقعة العنف المصورة والمتحققة على الأرض. أمثال هذه النصوص تحتوي، من الناحية الفنية، على مشهدين عنفيين، لا على مشهد واحد، كما تقرّه الأحداث الواقعية: المشهد العنفي الواقعي، والمشهد أو الصور المضافة. لهذه الأسباب يحتوي هذا الضرب من العنف على أعداء إضافيين، لا يظهرون عادة في المشهد الواقعي، وفي الحياة الحقيقية. فهو يحتوي في الضرورة على قتلة إضافيين أيضا. أي إنه عنف متورم ومضخّم، يفوق في سعته المعنوية وحجم أذاه، حجم العنف المادي، المحدود زمانيا ومكانيا وحسيا. مثل هذا الخيال العدواني ملكة تعويضية، سببها خلل ما في التكوين النفسي والعاطفي، ناشئ من اتحاد سلسلة من الميول الداخلية، الفردية، بالميول الاجتماعية العامة (سياسية أو مهنية أو تربوية أو غيرها). لذلك فهو خيال عصابي، مرضي، يرتبط بمشاعر انتقامية، أو بمكبوتات ناتجة من العجز وفقدان المقدرة على الاشباع والتطمين، يستخدم هذه المشاعر للنيل من آخرين، لا يستطيع الوصول اليهم بالعنف المادي، لأنه يفتقر الى شروط امتلاكه. هذه الدوافع المركّبة والمعقدة، تشكل المحتوى الداخلي، الشعوري، لهذا الفريق، وتمنحه باستحقاق تام صفة السادية المازوخية الثقافية، التي هي مزيج من رغبات عنفية، وتلذذ بالعنف، مقرونة بإحساس بالعجز والمهانة الداخلية، والاستمتاع، الأدبي أو الفني، بهذا العجز ونتائجه العدوانية. لذا تغلب على هذا الفريق نزعة إشهار الأفكار والمشاعر، والتباهي بإظهارها، كتعويض من نقص في الفعل، وتأكيد لصفة الاستمتاع بالمنجز العاطفي، أي بمكوّنات الذات الناقصة. الحاضنة التاريخية على الرغم من أن هذه النماذج البشرية تبدو للناظر مجموعة من الأفراد المتفرقين والمبعثرين والمشتتين مكانيا وفكريا وسياسيا، إلا أنهم- كمحتوى معبّر عن ظاهرة- تكوين ونسيج جماعي مقنن، يولد ضمن حاضنة تاريخية محددة زمانيا ومكانيا، لكنها تتجاوز حدود الحكومات والأحزاب والحقب السياسية. فهذه النماذج الثقافية، في محتواها العام، عناصر تفاعلية في لوحة تاريخية، لها بنيتها الظاهرية، غير المترابطة حسيا بشكل وثيق ومحكم، يتم إعدادها وانجازها في أروقة المشغل البشري الكبير، المجتمع، وتجري الإفادة من مواهبها في اللحظات الزمانية المناسبة، بصرف النظر عن اتجاه المنتفعين بها عمليا. أما هي - خبرات العنف وتقاليده- فتظل كامنة، مثل البذور البريّة، تحت طبقات التربة، ولا تتفتق إلا حينما تتوافر لها ظروف الإنبات الطبيعية. فربما تكون زخّة عنف واحدة كافية لإطلاق آلاف البراعم الوحشية دفعة واحدة. إن هذا الفريق، هو التجسيد الحسي لما سمّيناه بنزعة العنف والخضوع. فهو وحدة منسجمة تجمع بين نقيضين في ذات واحدة، بين عدوّين في بذرة واحدة، جاهزة تماما للانبات. |