إن أبرز ما يميز الطروحات التحليلية والتفسيرية للقوى اليسارية والديمقراطية في المنطقة العربية، إنها طروحات سياسية بحتة ذات أساس فلسفي- أخلاقوي، تهمل أي اتصال تفاعلي حقيقي بالعلوم الاجتماعية التي انتجتها جامعات الغرب ومراكزه البحثية، علماً أن هذه العلوم في جوهرها التنظيري والتطبيقي اليوم هي نتاج تجريبي تراكمي عن النظرة المادية التاريخية للعالم التي ازدهرت على يد "كارل ماركس" في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
فالبنية العلمية الأكاديمية للنظام الرأسمالي في الغرب استفادت من الماركسية -بعد إعادة صبها في مناهج العلوم الاجتماعية- إلى أقصى حدود التحليل والاستكشاف والتفسير والتنبؤ بالظواهر الاجتماعية، وحتى التحكم بمساراتها القادمة. وهو ما لم يفعله اليسار العربي بمختلف تياراته، إذ ظل يراوح في منطقة المفاهيم السياسية المجردة دونما إبتكار أو سعي للحاق بأسئلة العصر وتطوراته الاجتماعية والتكنولوجية المذهلة. فالمصطلح السياسي المجرد لم يعد له وجود في عالم اليوم إلا في أذهان الذين اجتازتهم الأحداث، سواء كانوا حاكمين أم معارضين، فظلوا صامتين لا يجدون لغة عقلية تسعفهم لفهم تلك الأحداث ومحاولة التحكم بها.
الثورات والانتفاضات ما هي إلا لحظات تدفق نفسي غامر يؤدي إلى فعل جمعي يريد تغييراً مجتمعياً جوهرياً يقطع الصلة بماضٍ بائس، بعد أن استكملت الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية دورَها المتريث في الإعداد لهذا التغيير؛ بمعنى أن الثورة هي التعبير السيكولوجي الجمعي الآني المباشر عن المحصلة الجدلية غير المباشرة لتفاعل عوامل الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة القادمة من الماضي. ودون تبني هذا الفهم تحليلاً وتطبيقاً، يصبح العمل السياسي - لليسار العربي أو غيره من التيارات السياسية- محض نشاط فردي عقيم لإرضاء الذات ولا تأثير له حقيقي في مجمل الحراك المجتمعي الهادر. وهنا يجدر التنبيه إلى أن الانترنيت عامةً والفيسبوك والتويتر واليوتيوب خاصةً لم يصنعوا الثورات العربية التي اندلعت تباعاً منذ عام واحد - لاسيما في تونس ومصر واليمن- بل إنهم أسهموا في قدح الوعيَ بالمظالم المتراكمة أصلاً في نفوس الأجيال المختلفة. فهذه التقنيات وفرت إمكانية هائلة للشبيبة العربية بمقايسة أوضاعهم المعيشية والحقوقية المتدنية بأوضاع أفضل بكثير حصلت عليها شعوبٌ أخرى لا تبعد جغرافياً عنهم كثيراً. كما إنها وفرت شعوراً بالألفة والحميمية والأهمية والهم الجمعي المشترك لدى عشرات الآلاف من المشتركين بمواقع الاتصال الاجتماعي بمزاياها الصورية والفديوية والصوتية والكتابية واللونية والتصميمية الجذابة، بما حفز لديهم مشاعر التضامن والتعاطف والمصير المشترك. فكانت النتيجة النهائية هي تنمية الوعي المعارض للظلم لدى الشبيبة، وتعميق تبصرهم بأوضاع شعوبهم المتردية، ومن ثم تحفيزهم للتحرك جمعياً للاحتجاج السلمي المليوني ضد السلطات الفاسدة في بلدانهم، في إطار مدني غير عقائدي باهر في أخلاقيته وحماسه، فيما ظل الإطار الفكري والتنظيمي لإدراك الظلم ومقاومته غائباً، ما يفسر التشتت والانحسار الذي أصاب حركات الشبيبة فيما بعد.
فثورات الفيسبوك ستظل ناقصة وغير مستكملة الأهداف ما دامت تفتقر لهذا الإطار، بل إنها يمكن أن تخسر كل مكتسباتها لصالح تنظيمات سياسية تقليدية لم تشارك في صنع الحدث لكنها لا تتردد في قطف ثماره، وعلى رأسها قوى الإسلام السياسي الصاعدة. وتشير الوقائع فعلياً إلى أن الجماهير الذاهبة إلى صناديق الانتخاب في المرحلة المنظورة التي أعقبت اندلاع الثورات العربية في تونس ومصر، وجدت أو ستجد ضالتها الآنية في الأحزاب الأخوانية والسلفية الإسلامية لا في اليسار الديمقراطي، لأسباب هوياتية سيكولوجية.
لم يعد الشارع السياسي العربي قادراً على إنتاج إطار فكري يساري ملهِم وواسع التأثير في عقول الناس، بالمعنى التقليدي لمفهوم "اليسار". فغالبية الجماهير العربية "يساريون" بطبيعتهم الباحثة عن التغيير والعدل والتبادل المنصف للحقوق والمنافع، غير إن "يساريتهم" هذه باتت تمتزج بعنصر نفسي أساسي هو حاجتهم الانفعالية لقوى ميتافيزيقية افتراضية تخفف عنهم مشاعر الاغتراب والتهميش والحرمان والعدمية واللاجدوى، في ظل فشل التنظيمات اليسارية في تقديم نماذج واقعية ملهِمة تستحوذ على نزعة الجماهير الدنيوية للعدل والحرية. فالآلهة باتت تمارس الوظيفةَ الاجتماعية والنفسية التي كان يفترض أن يضطلع بها الفكر اليساري العقلاني.
ولذلك فإن الأحزاب اليسارية بتياراتها الماركسية والقومية والديمقراطية والعلمانية والاشتراكية الديمقراطية، تجد نفسها اليوم أمام احتمالين: إما العمل السياسي المنفرد أو المنعزل في جبهة خاصة بهم، وإما العمل السياسي بالتشارك في ائتلافات تضم أحزاب الإسلام السياسي واليمين بشكل عام.
إن أي مقاطعة تلجأ إليها قوى اليسار للانتخابات أو عزوفها عن احتمالية الائتلاف مع قوى اليمين أو الإسلام السياسي المعتدل في هذه المرحلة، لن تعني إلا تنازلاً مجانياً للطرف الآخر، وتفريطاً بحقوق الناس بإقامة دولة مؤسساتية عاقلة. فمن الجوهري إدامة الضغط للحصول على مكتسبات دستورية وقانونية وانتخابية تشرعن على نحو راسخ مبدأ الحريات السياسية والعامة، وحق التعبير، ومدنية الدولة، والديمقراطية الاجتماعية، وحقوق المرأة. غير إن ذلك لا يلغي أيضاً حق الجبهات اليسارية بفك ائتلافاتها مع القوى الأخرى، والانتقال إلى صفوف المعارضة البرلمانية أو الشعبية إذا ما استدعت التكتيكات السياسية ذلك. وكل ذلك يبقى مرهوناً بالتطورات المستقبلية وما ستفرزه من مستجدات تستدعي تطوير أداء اليساريين ورؤيتهم لأساليب العمل السياسي. وهذا يتطلب منهم إتباع سياسة ثنائية على المدى البعيد:
1. تـشكيل جبهة يسارية ديمقراطية علمانية في كل بلد، لديها برنامجها الخاص بذلك البلد، مع إمكانية التنسيق الفكري والتنظيمي مع جبهات مماثلة في بلدان عربية أخرى.
2. تأتلف هذه الجبهات اليسارية في الوقت ذاته مع أحزاب الإسلام السياسي المعتدل وقوى اليمين الليبرالي في بلدانها، لتشكيل حكومات تتبنى النهج الديمقراطي ومدنية الدولة، إذا ما أفرزت صناديق الانتخاب نتائج تتيح إمكانية هذا الائتلاف كما حدث في تونس مؤخراً في انتخابات الجمعية التأسيسية. وقد تتخذ هذه الائتلافات صيغاً تنسيقية محدودة أو تتخذ صفة الكتلة التاريخية التي تسعى لإنقاذ البلاد والنهوض بها إلى حالة نسبية من الاستقرار السياسي والعدل الاجتماعي.
الإسلام السياسي ظاهرة سيكوسياسية معقدة، ولا يمكن مقاومتها أو تفتيتها عبر إنكارها أو الانعزال عنها. فالطاقة النفسية البشرية التي يستغلها الإسلام السياسي لإيهام الإنسان بمقدساتٍ تزيده بؤساً وعبوديةً لغيره، هي ذاتها الطاقة التي يستثمرها اليسار السياسي لتحرير الإنسان من استغلال الإنسان. فالأمر لا يتعلق بنوع الطاقة، إنما بأسلوب إدارتها سياسياً. فطاقة المظلومية والكبت والحرمان والإحباط لدى الأصولي المتأسلم هي ذاتها لدى المحتج المدني المسالم على حد سواء. الاختلاف يكمن في أسلوب توظيفهما لهذه الطاقة تبعاً لدرجة تطور العقل السياسي لديهما.
وعلى قوى اليسار أن تدرك تفصيلياً هذا الاختلاف لتمسك بمفاتيح التأثير الكارزماتي في نفوس الناس. وهي مهمة تتطلب منهم حضوراً نفسياً حياً بالقرب من قوى الإسلام السياسي المعتدل لتتفاعل بهم وتمارس التأثير والإقناع نحوهم من جهة، ولتتلمس عن قرب أنماطَ تفكيرهم ومواطن القوة والضعف في تنظيمهم من جهة أخرى. وعندها سيكون اليسار العربي مرشحاً لاستعادة قواعده بالسهولة نفسها التي خسرها فيها. إن النتائج غير المباشرة وبعيدة المدى للثورات العربية، تتمثل بدمقرطة ولبرلة وعقلنة الحياة الاجتماعية والسياسية في البلدان التي اندلعت فيها، وهي نتائج مستقبلية لا آنية تتطلب عقوداً طويلةً من الزمن الديالكتيكي لتتضح ثمارها. أما النتيجة الآنية المباشرة فستكون صعود الإسلام السياسي المعتدل إلى السلطة بواسطة أصوات الناخبين الباحثين عن أي يقين في عالم الآلهة يرممون به علاقتهم بواقع بشري حرص على إذلالهم وترويعهم واستلابهم طوال حياتهم.
وهو صعود قد يقصر أو يطول أمده بحسب قدرة اليسار العربي على النفاذ إلى نسيج الهوية الجمعية للسكان وإعادة حقنه بمصل العقلانية ليعاودوا البحث عن يقينهم في العالمِ الوحيد الذي يمكن أن يعزى إليه بؤسهم أو رفاههم: عالمِ التأريخ الاجتماعي للإنسان.
|