|
|
لماذا تفيض الثروات وتشحُّ الأموال؟ |
|
|
|
|
تاريخ النشر
15/12/2011 06:00 AM
|
|
|
"في مواجهة هذا البؤس هناك سلاح واحد فعال حقاً هو الضحك. فالسلطة، والمال، والمعتقد، والتضّرع، والاضطهاد، كل هذه يمكن الضحك عليها كثيراً، بتسفيهها، وإضعافها قليلاً، قرناً بعد قرن، لكن الضاحك وحده يستطيع أن ينسفها نُتفاً ونثاراً بنفخة واحدة". لا أجد أفضل من ضحكة الكاتب الأميركي الساخر مارك توين جواباً على أسئلة كبيرة تثقل قلوب الملايين في كل مكان من العالم: لماذا تفيض الثروات وتشح الأموال؟ لماذا يزداد عدد أصحاب الملايين والمليارات، ويتعاظم عدد الفقراء؟ وكيف أفلست القوة العظمى، صاحبة أكبر اقتصاد في العالم والتاريخ؟ وأين ذهبت ديون أميركا التي تجاوزت السيادية منها حاجز 15 تريليون دولار، فيما قفز إجمالي ديونها 56 تريليون دولار؟ يمكن رؤية الحركة المدوّخة لتراكم الديون بالثواني في موقع "ساعة الديون القومية للولايات المتحدة" على الإنترنت، وفيها رأيتُ كيف تومض حركة الأرقام التي ازدادت مليون دولار خلال كتابة هذه السطور. وعواصم الغرب آخر مكان يمكن العثور فيه على زعماء يملكون ما يكفي من الشجاعة لمواجهة "يوم المحشر"، وهي العبارة التي تتردد في وصف أوضاع الاقتصاد الغربي الموشك على الانهيار. ولا تتصدّى لـ"يوم المحشر" سوى ألمانيا التي تطّهرت بجحيم خسارة حربين عالميتين دمرتا هياكلها الارتكازية، وقطّعتا أوصالها، وها هي تعيد توحيد أوروبا في الأسبوع الماضي بموافقة دول الاتحاد على إقامة تحالف مالي يحفظ بقاء اليورو. بريطانيا خرجت عن الإجماع الأوروبي بدعوى الحفاظ على وضعها الطبيعي المتميز كجزيرة، والسبب الحقيقي فشلها في الحصول على استثناء من دفع "ضريبة روبن هود" المفروضة على التجارة المالية الأوروبية. وهذه نكتة إذا علمنا أن الضريبة تشكل أساس صندوق كفالة أعضاء الوحدة النقدية في مواجهة أزماتها المالية. وهل يمكن تمرير النكتة على خريجة "يوم المحشر" أنجيلا ميركل التي أعلنت مرات عدة أن إنشاء الوحدة المالية الأوروبية ليس نزهة. فالمطلوب دفع ديون تريليون ونصف التريليون دولار مستحقة على أوروبا ومنها 695 مليار دولار ديون دول أوروبا الثلاث الكبرى، إيطاليا وفرنسا وألمانيا. وإذا كنا عاجزين عن توقع خروج دول الغرب المتقدمة من هذه الخبيصة المالية، فالأفضل معرفة كيف انزلقت فيها. يفعل ذلك كتاب "لغز الرأسمال" The Enigma of Capital الذي يعتبر من أكثر الكتب الصادرة حديثاً رواجاً. مؤلف الكتاب ديفيد هارفي، أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة مدينة "نيويورك" وأحد أهم علماء الجغرافيا المعاصرين. يشرح هارفي الذي يُعتبر أبرز المتخصصين بالاقتصاد الماركسي المفارقة المحيرة لفائض الإنتاج الرأسمالي الذي يمثل أساس قيام النظام الرأسمالي وانهياره. فالحفاظ على صحة النظام الرأسمالي وتوازنه يستدعي نمو الاقتصاد بمعدل 3 في المئة سنوياً. وعندما تعرقل مشاكل العمالة حركة النمو يلجأ الرأسمال إلى "الحل المكاني". في سبعينيات القرن الماضي أقام النظام الرأسمالي مجموعة منظمات مالية دولية لدعم تدفق الموارد إلى الصين والهند والمكسيك وأماكن أخرى. وعندما بلغت حركة التمول نهايتها ظهرت أسواق جديدة في التسعينيات تتعامل بمشتقات العملة، وسندات التحوّط، التي نشأت من لا شيء تقريباً في عام 1990 وتعادل اليوم ثلاثة أضعاف مجموع الاقتصاد العالمي الذي تعيش عليه كالكائنات الطفيلية. والأزمات موروثة في صُلب الرأسمالية نفسها، وتحدد طرقها في تجديد نفسها. ويشرح هارفي أسلوب الرأسمالية للحفاظ على البقاء عن طريق تطهير نفسها من الدين، ووضع نفقات التطهير على عاتق المستضعفين والفقراء. ويتحدى هارفي العثور على توصيف لأزمة عام 2008 أبلغ من الصورة التي قدمها ماركس قبل قرنين لهذه الكائنات الطفيلية: "إنهم سكارى بالرفاه وواثقون بأنفسهم بشكل متعجرف حال إعلانهم أن الفلوس مجرد مخلوق خيالي. المنتجات وحدها هي المال. لكن ها هي صيحة مضادة تُدوي في أسواق العالم، ليس سوى الفلوس سلعاً. وكما يلهث ذكر الإيل بحثاً عن نبع ماء صاف يلهثون بأرواحهم وراء الفلوس، الثروة الوحيدة. ويرتفع في وقت الأزمة التضاد بين السلع وشكلها القيمي إلى أعلى مستوى من الإنكار المطلق". لماذا إذن هذا الإغراء الدائم لاختزان الفلوس؟ يفسر ماركس القوة الاجتماعية للفلوس بالقطعة الأدبية التالية: "إذا كنتُ قبيحاً أستطيع أن أقتني أجمل النساء، وإذا كنتُ غبياً أستطيع أن أشتري حضور الناس الأذكياء، وإذا كنتُ أعرجاً أستطيع استئجار أناس يدورون بي في المكان. فكِّرْ فقط في ما يمكنك فعله بكل هذه القوة الاجتماعية. لذا فهناك أسباب قوية جداً لتمسك الناس بالفلوس، خصوصاً في مواجهة المجهول". يقول مثلٌ بولنديٌ ساخر: "الرأسمالية هي النظام الذي يضطهد فيه الإنسانُ الإنسان، والاشتراكية بالعكس". وإذا كان انهيار جدار برلين مؤشراً على انهيار النظام الاشتراكي فإن أزمة عام 2008 دمرت موثوقية نموذج النمو المالي، ووضعت علامات استفهام على النظام الرأسمالي، الذي كان قد أصبح في العقد الماضي القوة العظمى التي تعيد تشكيل العالم على صورتها. وشككت الأزمة التي قضت على أكبر البنوك الدولية بالهيمنة الأميركية التي تضيع في منعطف تحول موازين الاقتصاد العالمي باتجاه القوى الصاعدة للهند والصين. وكل أزمة رأسمالية كبرى جديدة كانت أسوأ من سابقتها وأصعب منها على العلاج، حسب هارفي الذي لا يُنكر أن المرونة الرأسمالية وقدرتها الإبداعية قد تستطيع التغلب على الأزمة الحالية، لكنه يعتقد أن اللحظة الراهنة ملائمة لتجديد حركات مناهضة الرأسمالية والمبادرة لتقديم بديل واقعي لتنظيم الاقتصاد. تشرذم اليسار المناهض للرأسمالية وحجمه الصغير لا يبشران بالقدرة على إجراء هذا التغيير، حسب أندريو غامبل، أستاذ السياسة في جامعة كامبردج. ويشير غامبل إلى أن ردود الأفعال على الأزمات السابقة مالت باتجاه اليمين، ويرى في مواصلة الصين والهند النمو في ظروف الركود الاقتصادي مؤشراً على بداية التحول الأساسي لموازين القوة الاقتصادية، والاستمرار في ذلك سيقدم على الأرجح قدرة هائلة للنمو وامتصاص فائض القيمة، شريطة توفير ظروف سياسية معينة. ويعتقد غامبل أن هارفي يقدم توصيفاً نيّراً وعميقاً لطريقة الرأسمالية في إعادة تشكيل عالمنا ويعرض الحجة لبدائل ورؤى راديكالية جديدة هدفها ليس إقامة عالم جديد فحسب بل شيوعية جديدة، غير الشيوعية التي انهارت والأفضل أن لا تحمل اسمها. وقد تفسر سيكولوجية الحركة الجديدة عبارة الأديب الألماني برتولد بريخت التي اختتم بها هارفي كتابه السابق "دليل رأسمالية ماركس": "تغيير العالم يحتاج كثيراً من الأمور: الغضب والإصرار. والعِلم والنقمة، المبادرة السريعة والتفكير الطويل، الصبر البارد والمثابرة بدون حدود. وإدراك الحالات المحددة، وفهم المجموع: دروس الواقع وحدها يمكن أن تعلمنا كيف نغير الواقع". *مستشار في العلوم والتكنولوجيا تاريخ النشر: الخميس 15 ديسمبر 2011 |
|
رجوع
|
|
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|