|
|
عقد ونصف عقد على رحيل الأرنبة البرية المتحفزة مارغريت دوراس |
|
|
|
|
تاريخ النشر
03/11/2011 06:00 AM
|
|
|
أوصد باب العضوية في الأكاديمية الفرنسية في وجه مارغريت دوراس في ثمانينات القرن المنصرم، بعدما شخصت سيدة غير ملائمة. اثارت المرأة حساسية معاصريها من طريق كتابات ذكورية، عنيفة ومتطرفة، لتصير من حيث لم تدرِ، وربما لم ترغب، الصوت الفرنسي الأكثر انتشاراً في العالم والأكثر دراسة ونقلاً الى الخشبة أيضا. بعد عقد ونصف العقد على رحيلها، لا تزال تستوقفنا هذه العاشقة الأبدية التي حلمت بالأدب لتروح تبني النظريات الكتابية. كيف ننسى جملها المكرسة ومطلع رواية "هيروشميا حبي" حيث نقرأ "لم ترَ شيئا من هيروشيما. لا شيء"، الذي عاد ليتكرر مع حدوث كارثة فوكوشيما النووية قبل شهور، كأنه نبوءة؟ ليس من السهل ان نذكر اسم مارغريت دوراس من دون ان نستعيد تلك الكنزة بياقة ملفوفة والنظارة التي ضاعت عدستها خلف الإطار السميك. انه الكليشيه الذي هدهد تصورنا وحام في فلك كاتبة راحت تنوص لتنكمش قامتها في خاتمة حياتها. يصعب تقليد مشهد مماثل او محاولة الهزء منه. اكتفى ستيفان فينكينوس بشيء من هذه الأكسسوارات البسيطة ليستلهم ملامح دوراس ويجعلها محور معرض فوتوغرافي أخيرا. لكن التفاصيل الخارجية اللافتة ليست كل ما بقي من دوراس. مكثت النصوص والثميات خصوصا، حيث تحدثت عن الناس العاديين وعن الطفولة في الهند الصينية وعن واقع ان يكون المرء جزائريا في فرنسا، وعن معنى الكتابة واخذ المبادرة في الكلام. تنبهت دوراس الى اشياء الحياة المادية التي لا تشكل سوى وحدة مع مفهوم التأليف. استمهلت دوراس الأمومة والكحول، واتت بصوت ذي نبرات فريدة يسهل رصده بلحظة. لا يمكن المرور في محاذاة اسلوب دوراس وعدم التوقف. اما احد البراهين على ديمومة تأثيرها فالنجاح الذي يعرفه مجددا نصها "الألم". عاد العمل الى مسرح "لاتولييه" الفرنسي في اقتباس اضافي بلغ تردداته اليابان، في رؤية باتريس شيرو الإخراجية وكوريغرافيا تييري تيو نيانغ. في "الألم" تخبر دوراس عودة زوجها روبير انتيلم من المعتقل، وفيما طوت الاعوام النص، لا يزال راهنا وعلى طزاجته، في الموضوع كما في الوقاحة الرائعة. نعثر هنا على رواية اعتقال الزوج وعودته مخلّعا من الداخل، وعلى حكاية فرنسوا ميتران المقاوم (قبل ان يصير رئيس الجمهورية الفرنسي) المستتر تحت هوية مورلان. ميتران محور القصة والرجل الذي اعاد الى دوراس زوجها المعتقل في داشو، وهو المرء الذي تمتنع دوراس عن خيانته في شتى الحالات. ها إنها تفضي: "مورلان بين يدي. اخشى عليه. لا أخشى على نفسي. صار مورلان طفلي، طفلي المهدد، اخاطر بحياتي للدفاع عنه". سكن مارغريت دوراس وفرنسوا ميتران اليقين عينه المرتبط بكبَر المصير. حرّكتهما الفتنة عينها وحب الغزو. شعر ميتران بأنه مرصود لأرفع المناصب في حين اقتنعت دوراس انها ستهب العالم مفهوما للأدب غير مسبوق. لن يصل ميتران الى سدة الرئاسة في فرنسا سوى في الخامسة والستين، في اعقاب صولات وجولات وصعوبات جمة، اما دوراس فلن تنال "غونكور" سوى بعد عقد من العزلة مبلل بالخمور. اقتنصت الجائزة في 1984 بفضل "العشيق"، العنوان الذي حوّل مسارها، وكان اول فرصة سانحة لكي تتحدث بضمير المتكلم. التقى ميتران دوراس في كلية الحقوق في الثلاثينات من القرن المنصرم في صيف 1943، كان الاثنان تحررا من بيئتهما الاصلية بالكاد، البيئة التي لم تحتمل نزعاتهما التقدمية. كان ميتران ابن عامل في السكك الحديد، وبورجوازيا من حيث اسلوب العيش. اما دوراس فابنة المستعمرات الفرنسية تحمل دمغة الشقيق النصّاب والأم الشحيحة الحب. دخلت حياة دوراس ثنايا القرن العشرين واندسّت في المجتمع المعاصر الى حد مخاواته، لكنه جعلها رسما كاريكاتوريا. جعلها تدفع ضريبة تحوّلها أسطورة ادبية، بل ورمزا ميثولوجيا في المعنى الذي حدّده رولان بارت. لا يمكن تناسي ان الكاتبة الريادية باتت جزءا من الثقافة الجماهيرية. بدءا من كريستين انغو ونينا بوراوي وصولا الى الفلندية صوفي اوكسانين، رفعت كاتبات كثيرات تأثرهن بدوراس علنا كأنها قلادة تجلب الفأل الحسن. والحال ان شخصياتها التأليفية غدت مألوفة بالنسبة إلينا كما شخصيات بروست وبلزاك. كانت سيرة دوراس اشبه بطوبوغرافيا الضياع، فواجهتها من طريق الفرار في الكتابة، من خلال البقاء في اللغة، في المنزل الذي تكونه. يكفي ان نغوص في اول مجلدين من "أعمالها الكاملة" الصادرة أخيرا في سلسلة "لا بلياد" الفرنسية المرموقة لنتذكر الى اي حد كانت دوراس فنانة كاملة تغامر في دخول الأماكن غير المأهولة في الادب، في حين تغازل المسرح وتتقرب من الصحافة وتمر بالسينما. ان الفن السابع للمفارقة هو الذي جعلها "تصل الى ما يشبه نواة الأدب"، على ما يشير جيل فيليب في مقدمة المجلد الاول. يتبدى أدب دوراس مفيدا لأنه مدمر ولأنه ثوري ولا يهاب ان يلمس النار. يصف نصها في حالات كثيرة كل قطعة في الوجوه، وكل إيماءة، يصف نوعا من البؤس المضبوط، فيما يشير الى ابتسامات لا تحتمل. العنف ملموس دوما لدى الكاتبة، والخطر داهم، اما جانبه الأقل وطأة، فلا يسمح بأن ننتفس حتى. الروائي متلصص بامتياز، كان دوستويفسكي ابرع نموذج لهذا المنطق. جعلنا مرة نحضر اعتراف راسكولنيكوف فيما ينصرف الى الاقرار بقتل صونيا بواسطة سفيدريغايلوف الذي كان للمفارقة، يراقب المشهد من فتحة الباب. تكمن فحوى الادب في الشغف بحشر الأنوف في سير الآخرين. لم تكن دوراس الاستثناء في هذا المعنى. كانت الشخصية السايغونية (نسبة الى سايغون) تعتاش من حكايات الآخرين تماما بقدر ما تغذّت من حكاياتها. لم ترغب هذه الكاتبة الفرنسية في ان تصنّف قصصها روايات، والحال ان عددا كبيرا منها تبدى كالقصائد، خصوصا حيث تأخذ الكلمة جميع الأدوار. دوراس كاتبة محبوبة، ساكنة ومسكونة، غامضة ومتألقة، اظهرت حرية مجنونة ناهيك بقوة فطرية. في "كتاب الحروف الأبجدية" يعتبر الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز ان الكاتب أرنب بري في حال تحفز، لا يسعه ان يستكين. هناك حيوان يختبئ في كل كاتب وهذا لا شك فيه، هناك كائن غير متحضر، وإن اقام في منزل فسيح واحاط نفسه بزنانير من المؤلفات. نكاد نرى دوراس تصغي بتأن وتبتسم ثم تومئ موافقة. |
|
رجوع
|
|
مقالات اخرى لــ رلى راشد
|
|
|
|
|
انضموا الى قائمتنا البريدية |
| | |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|